هذي لعيون أبو حسين فرحات .. شعللت الدبابة! .. شايلة شيل .. شايلة شيل .. الجنود فحَّموا جوه! .. الله أكبر ولله الحمد

هكذا هتف أحد مقاتلي كتائب القسام خلف الكاميرا في مقطع فيديو من إعداد الإعلام العسكري التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، بثته قناة الجزيرة الفضائية في السادس من ديسمبر 2023م، بعد أكثر من 50 يومًا من حرب الإبادة الانتقامية التي تشنُّها إسرائيل بضوء أخضر أمريكي، وتواطؤ غربي ضد الحاضنة الشعبية في غزة ومقاومتها، عقابًا لها على عملية طوفان الأقصى البطولية التي زلزلت الكيان الصهيوني يوم 7 أكتوبر 2023م. ولكن كيف وصلنا إلى هذا المشهد في الشجاعية؟

منذ انتهاء هدنة نوفمبر المؤقتة، شهد حي الشجاعية شرق مدينة غزة اشتباكات ضارية بين المقاومة، وقوات الاحتلال الإسرائيلي التي خصَّصتْ لاحتلاله لواءً مدرعُا كاملًا (أكثر من 120 دبابة من طراز ميركافا مارك-4 الأحدث والأكثر تدريعًا وحصانة) وكتيبتيْن من لواء النخبة جولاني، وكتائب من المشاة من الاحتياط، ومن قوات الهندسة العسكرية. تباهى العدو في مطلع ديسمبر باغتيال المقاوم أبو حسين فرحات، قائد كتيبة الشجاعية في كتائب القسام في قصفٍ جوي. فلم يجد المقاتلون الأوفياء في تلك الكتيبة من رثاءٍ لقائدهم الشهيد خيرًا من تدمير دبابات للعدو، والتقاط صورة سيلفي مع إحدى تلك الآليات المدرعة بينما نيرانهم تلتهمها.

يمثل حيُّ الشجاعية الجزءَ الأكبر من الدرع الشرقية لمدينة غزة، إذ تفصله شرقًا عن السياج الحدودي مع فلسطين المحتلة مئات الأمتار الأراضي الزراعية المفتوحة، وتبلغ مساحته الكلية 14 كيلومترًا مربعًا، أكثر من ثُلُثيْها من الأراضي الزراعية المفتوحة، بينما تبلغ مساحة المناطق السكنية التي يخوض فيها العدو حرب مدن ضد فصائل المقاومة حوالي أربعة كيلومترات مربعة فحسب. ويبلغ عدد سكان الحي قرابة 130 ألفًا، ويعملون بالأساس في الزراعة والصناعات اليدوية وتجارة الملابس والأجهزة المنزلية، إلى جانب كثير من المهنيين مثل الأطباء والمدرسين، وبالطبع كثير من المقاومين والمناضلين، فهو من المعاقل الأساسية لكافة فصائل المقاومة الإسلامية لا سيما كتائب القسام.

اقرأ: مكسب إستراتيجي: لكيْ لا يذهب طوفان الأقصى سُدى

اقرأ: طوفان الأقصى: دفاعًا عن الخطأ الإستراتيجي للمقاومة

معركة الشجاعية: الإرهاصات والانتفاضة

ارتبط اسم حي الشجاعية بالشجاعة والرباط والجهاد منذ تأسيسه، فقد أُنشئَ في العصر الأيوبي كامتداد لمدينة غزة التاريخية من الجهة الشرقية، وحمل اسم أمير أيوبي يُدعى شجاع الكردي، ارتقى في معركةٍ بين الصليبيين والأيوبيين عام 637هـ = 1239م.

شارك أبناء الشجاعية مع غيرهم من أهالي غزة ومخيماتها في كافة مشاهد النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، ودفعوا الأثمان الباهظة بالتنكيل الإسرائيلي بهم وبغيرهم في أثناء احتلال غزة 1956م، أو إعادة احتلالها مجددًا في أعقاب هزيمة يونيو 1967م. رغم ذلك كان رجال الشجاعية من أكثر من أسهموا في العمليات الفدائية التي كانت تنطلق من القطاع وتستهدف القوات الإسرائيلية والمستوطنين في داخل القطاع أو خارجة، وعوقبوا بالاقتحامات وبالاعتقالات وبالتصفيات، دون جدوى.

اقرأ: من تل الزعتر إلى جباليا: مخيَّمات الحصن والخاصرة

قبل اندلاع الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987م، والتي شارك أطفال وشباب الشجاعية فيها مع غيرهم من أبناء غزة والضفة، سجل تاريخ النضال الفلسطيني في أكتوبر من نفس العام حدثًا كان فارقًا ونوعيُا في حينه، عرف باسم معركة الشجاعية، التي هاجم فيها 4 من مقاتلي حركة الجهاد الإسلامي حديثة التأسيس قبل بضع سنوات، حاجزًا عسكريًا إسرائيليًا في حي الشجاعية، ونجحوا في قتل ضابط في جهاز الأمن الداخلي الشاباك، ثم خاضوا اشتباكًا ضاريًا مع القوات الإسرائيلية في الموقع، حتى استشهدوا جميعًا. وكانت هذه المرة الأولى منذ سنوات التي تشهد فيها غزة عملًا فدائيًا مسلحًا مثل هذا، لكنها بالطبع لم تكن الأخيرة. واعتبر الأستاذ فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد أن تلك العملية كانت من أبرز شرارات اندلاع الانتفاضة الأولى، والعمل الفلسطيني المسلح في غزة والضفة.

وكان من أبناء الشجاعية البارزين في تاريخ الانتفاضة الثانية، المُقاوم أيمن أبو هين، مع شقيقيْه يوسف ومحمود، وكانوا جميعًا ممن أبعدتهم إسرائيل عام 1992م لمدة عام كامل إلى مرج الزهور جنوبيَّ لبنان، وأعادتهم جميعًا مع أكثر من 400 مقاوم آخر بعد أن رفضوا كافة الصفقات الجزئية. وكان أبو هين من خبراء المتفجرات، وسجنته السلطة الفلسطينية خمس سنوات من 1996م حتى 2001م لدوره في إعداد الأحزمة الناسفة التي استخدمها الاستشهاديون في عمليات الانتقام لاغتيال الشهيد يحيى عياش.

في الأول من مايو من عام 2003م، اقتحمت القوات الخاصة الإسرائيلية حيّ الشجاعية من ثلاثة محاور تحت غطاء جوي، وكان هدفها منزل الأشقاء الثلاثة لكن لم يكن طريق الاغتيال أو الاعتقال مفروشًا بالورود. فقد دافع الثلاثة عن أنفسهم بشراسة، وأسنَدَهُم العشرات من مقاومي كتائب القسام في الشجاعية، واضطر الجيش الإسرائيلي لقصف المنزل بالصواريخ، لا سيما وقد باغتَ آلُ هين طليعةَ قواته بالرشاشات والقنابل اليدوية وحققوا بهم إصابات بليغة. بعد 16 ساعة، أعلن عن استشهاد الثلاثة، ومعهم ثلاثة من المقاومين، وسبعة من أهل الشجاعية. وعرف هذا الحدث تاريخيًا باسم مجزرة أبو هين.

وقبل ذلك بقرابة 10 سنوات شهد حي الشجاعية أيضًا لحظات البطولة الأخيرة للمناضل الكبير عماد عقل، أحد أبرز المقاومين في تاريخ حركة حماس وكتائب القسام. كذلك استشهد القائد الكبير في سرايا القدس بهاء أبو العطا في حي الشجاعية، عندما قصف الطيران الإسرائيلي منزله في الثاني عشر من نوفمبر من عام 2019م، ولا تزال سرايا القدس تخلد ذكراه من حين لآخر بقصف المدن الإسرائيلية في تمام الساعة التاسعة مساءً، وتسميها تاسعة البهاء.

اقرأ: طوفان الأقصى: هل يكتسح مرضَ هوس المؤامرة؟

حرب غزة 2014م: وما أدراكَ ما كمائن الشجاعية

هــذا الشجاعيُّ الذي تخشونَه ….. جاءتْ به الأيامُ سيفَ قضاءِ
بين الركامِ نما بأصلٍ ثابتٍ ….. شقَّ السما بفروعهِ الغرّاءِ

لا نبالغ إذا قُلنا إن الشجاعية أنهت حرب 2014م التي كانت أشرس الحروب السابقة ضد قطاع غزة، وإن صمود مقاومتها وحاضنتها الشعبية الصلبة توشك أن تُنهي الحرب المدمرة الحالية في 2023م.

اندلعت تلك الحرب في الثامن من يوليو 2014م، بحملة جوية شرسة استمرت لأسبوع، ارتقى خلالها أكثر من مائتيْن من أهل غزة معظمهم من المدنيين، ثم بدأ هجوم بري واسع ضد القطاع ابتداء من يوم 17 يوليو. في ليلة 19 يوليو توغلت قوات لواء النخبة جولاني في المناطق الشرقية من الشجاعية، لكنها لم تكد تتجاوز السياج الحدودي كثيرًا حتى فاجأها كمين للمقاومة، أسفر عن مقتل 7 جنود، عندما دمرت ناقلة الجند الأمريكية إم-113 التي كانت تقلُّهم بقذيفة مضادة للدروع. وخلال الـ24 ساعة التالية، نجحت كمائن متتالية في الشجاعية وحي التفاح المجاور لها في رفع حصيلة القتلى الرسمية من الجنود في هذا الحي إلى 13، إلا أن كتائب القسام أكدت أنها قتلت على الأقل 30 جنديًا، وأسرت واحدًا هو شاؤول آرون، الذي لا يزال بقبضة المقاومة إلى اليوم وإن كان الأرجح أنه قد مات متأثرًا بإصابته.

وكما نشاهد الآن بشكل يومي، انتقم العدو لخسارته الموجعة على الأرض بالانتقام من السكان المدنيين الآمنين، فارتكب العدو يوم 20 يوليو 2014م الموافق23 رمضان 1435هـ مجزَرة الشجاعية والتي راح ضحيتها قرابة 120 شهيدًا، نصفهم على الأقل من النساء والأطفال والعجائز. حيث شن قصفًا جويًا ومدفعيًا جنونيًا ضد منازل المدنيين ومرافق الحي، استخدم فيه قرابة 7 آلاف قذيفة مدفعية وعشرات القنابل الثقيلة زنة طن من المتفجرات. وهذا جزء من مقطع بثته قناة الجزيرة في اللحظات الأولى بعد هذا القصف الانتقامي الوحشي على الشجاعية.

كسرت كمائن الشجاعية الموجعة زخم العملية البرية الإسرائيلية، وخلال الأسابيع اللاحقة لم يشن العدو هجماتٍ برية مؤثرة، وتوقف القتال إلى حين في أواخر أعسطس 2014م.

اقرأ: غزة وبنت جبيل وأخواتهما: مدن الألم والصمود والانتصار

الشجاعية 2023: أم المذابح وأم المعارك

يرمي الدروعَ المُثقلاتِ بأدرُعٍ ….. يجتاحُها الياسينُ بالإفناءِ
لا ينقضي الإبداعُ في تدميرها ….. لا ينتهي التكبيرُ في الأجواءِ
حيَّا على أطلالِها شهداءَهُ ….. والثأرُ خيرُ تحيةٍ ورثاءِ
جزء من قصيدة الشجاعية من (تأليف كاتب هذا المقال).

افتتحت الشجاعية فصول بطولاتها مبكرًا في حرب الدفاع ضد الاجتياح الإسرائيلي لغزة، فقد استهدف مقاتلوها يوم 28 أكتوبر 2023م مدرعة إسرائيلية من طراز نامر تحمل بين 8 و14 جنديًا بصاروخ كورنيت المضاد للدروع، شرق الشجاعية، وبثّت كتائب القسام مقطعا مصورًا لتلك العملية.

ونظرًا لثأر العدو مع الشجاعية منذ حرب 2014م، فقد نال هذا الحي المرابط نصيبًا خاصًا من التدمير والوحشية، ولا يمكن الآن إحصاءُ عددَ شهداء الشجاعية مدنيين ومقاومين في حرب الإبادة الحالية، ولكن لا شك لمن يتابع يومًا بيوم أخبار القصف الوحشي منذ ما بعد 7 أكتوبر، والقوة النيرانية غير المتناسبة، أنَّ عدد شهداء هذا الحي بمفرده يُقدَّر بالآلاف، وهذا يمثل نسبة مرعبة من مُجمل سكانه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، في الثالث من ديسمبر، وفي غارة كثيفةٍ على الشجاعية، دمَّر القصف الجوي مربعًا سكنيًا كاملًا، واستشهد قرابة 300 وأصيب 200 آخرين.

رغم كل تلك الجرائم والألام، لم يمرّ نهارٌ منذ اشتداد الحملة العسكرية البرية ضد الشجاعية منذ انكسار الهدنة مطلع الأول من ديسمبر، إلا وهناك عمليات نوعية في هذا الحي ضد قوات العدو، بلغت في بعض الأيام 7 أو 8 عمليات، وكان أبرزها كمين الموت يوم 13 ديسمبر، الذي ظل حديث العالم لأيام، عندما استدرجت فصيلة من 4 جنود إلى أحد المنازل، لتستهدفها عبوة ناسفة، ثم يهاجَم قوتيْ إنقاذ قدمتا لنجدتها. اعترف العدو بمقتل 9 من ضباطه وجنوده، منهم ضابط برتبة مقدم يقود الكتيبة 13 من لواء النخبة جولاني، هذا اللواء الذي تبجّح قادته بأنهم أتون إلى الشجاعية لتسوية حسابهم المفتوح معها منذ 2014م، فإذ بهذا الحساب يتوسع أكثر.

كذلك كانت يدُ العناية الإلهية حاضرةً بقوة في صف أبناء الشجاعية بخاصة وغزة بوجه عام، في واقعة قتل الأسرى الثلاثة الذين فرُّوا في ملابساتٍ غامضة من آسريهم في الشجاعية. فنتائج التحقيقات التي أجراها الجيش الإسرائيلي حتى الآن تؤكد أن هؤلاء الأسرى كانوا يرفعون الرايات البيضاء، ويستنجدون باللغة العبرية، ومع ذلك قتلهم زملاؤهم بشكل متوحش، مما سبب غضبًا داخليُا كبيرُا، وإحراجًا بالغًا للجيش الإسرائيلي وللحكومة. فلنتخيل لو كان الإسرائيليون أقل غباءً وتوحشًا، ونجحوا في إنقاذ ثلاثة من أسراهم أحياء، من قلب الشجاعية، التي تمثل في أنظارهم المعقل الأهم للمقاومة في غزة. كان هذا ليُحدث فورة معنوية كبيرة لصالح العدوان، ودفعة لاستمرار العمل العسكري الوجشي لأطول مدة ممكنة، ويرفع الضغط كثيرُا بملف الأسرى عن كاهل الحكومة والجيش.

اقرأ: الموريسكيون في غزة .. حتى لا تسقط الأندلس مجدَّدًا

حتى الآن، واستنادًا إلى بلاغات فصائل المقاومة المختلفة من منطقة الشجاعية وجوارها، فقد نجحوا في تدمير عشرات الدبابات والناقلات والجرافات المدرعة، وأوقعوا المئات من جنوده بين قتيلٍ وجريح، ولا يزال العدو يستميت في محاولته إخضاع هذا الحي الأشمّ، فلجأ إلى الإبادة الكاملة، ويقوم يوميًا بنسف عشرات المنازل في الحي، لا سيما في المناطق الشرقية منه. لكن يرى الخبير العسكري فايز الدويري أنه رغم التوغل الواسع للعدو في شمال وغرب وشرق الشجاعية، فإن غالبية تلك الأماكن هي مناطق رخوة عسكريًا، وبعض الشوارع الواسعة مثل شارع بغداد، لكنه لا يزال بعيدًا عن السيطرة الكاملة على الحي، وأنه سيتعرض لكثير من الخسائر البشرية كلما أوغل أكثر في هذا الحي الباسل.

ويقولُ للباغينَ هيا أوغِلوا …… في حيّنا المشتاقِ للأضواء
نيرانِ دبَّاباتكم في حتفها …… قد ذاق مَن فيها أحرَّ لقاءِ
هذي بضاعتُكم إليكم رَدُّها ….. قد ساءَ أوجهَكُم بنو الإسراءِ
فلتُحضروا السوداء من أكياسِكم ….. ولتجمعوها من ثرى الأحياءِ
ختام قصيدة الشجاعية (من تأليف كاتب هذا المقال).