مرَّ شهرٌ ويزيد على اندلاع عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2023، التي أحدثت زلزالاً سياسياً وعسكرياً غيرَ مسبوق في تاريخ الشرق الأوسط الحديث منذُ تأسيس الكيان الصهيوني في أرض فلسطين المحتلة قبل 75 عاماً، وكسرت كل المعادلات والتوازنات المستقرة في المنطقة منذ عقود، وجعلت الاحتلال الإسرائيلي يشعر للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر 1973 أنه في خطرٍ وجودي، مما دفعهُ بدعمٍ أمريكي وغربي مفتوح، ومفاجئٍ في وقاحته، إلى شنّ حرب إبادة انتقامية مرعبة ضد الحاضنة الشعبية للمقاومة في قطاع غزة المحاصَر، التي راح ضحيتها حتى لحظة كتابة هذه السطور أكثر من 50 ألفاً بين شهيدٍ ومفقودٍ تحتَ الأنقاض وجريح، ونزحَ ثلثا سكان القطاع (مليون ونصف المليون إنسان) من منازلهم إلى أماكن اللجوء في المدارس والمستشفيات والخيام، والتي لم تسلم من المذابح اليومية هي الأخرى، وزجَّ العدو منذ أواخر أكتوبر 2023 بالآلاف من قواته البرية والمئات من دباباته وآلياته المدرعة لاجتياح الثلث الشمالي من قطاع غزة من محاور متعددة، ولتطويق واحتلال مدينة غزة، واعترف حتى اللحظة بخسارة العشرات من القتلى والمئات من الجرحى في المعارك الضارية في شوارع وأزقة غزة وبيت حانون وبيت لاهيا شمالي القطاع.

دفعت المذبحة المفتوحة والمستمرة الكثيرَ من الباحثين والمتابعين لانتقاد مبادرة المقاومة الفلسطينية بقيادة كتائب القسام في غزة بشن هجوم طوفان الأقصى الجريء، هائل الضخامة، الذي كان مسرح عملياته حوالي 600 كم مربع أي ضعف مساحة قطاع غزة، مما أعطى العدو وحلفاءه الغربيين الفرصة للانتقام بتدمير غزة، ومحاولة تهجير سكانها إلى سيناء المصرية أو غيرها لتصفية القضية الفلسطينية بشكل جذري، بل اندفع الكثيرون بحسن أو بسوء نية إلى تفسيراتٍ تآمرية، عن أن إسرائيل استدرجت المقاومة إلى فخ، وتركتها تدمر فرقة غزة وتجتاح مستوطنات غلاف غزة وتقتل 1500 إسرائيلي، من أجل تبرير تدمير غزة.

اقرأ: طوفان الأقصى: هل يكتسح مرضَ هوس المؤامرة؟

لكن لدينا بالفعل العديد من التحليلات الرصينة التي تنتقد بعض جوانب عملية طوفان الأقصى بشكلٍ علمي ومنهجي، فمثلًا، يرى الباحث د. محمد بريك، في مقالٍ مُطوّل كتبه لتقييم عملية طوفان الأقصى بعد ثلاثة أسابيع من اندلاعها، أن هناك أخطاء تفصيلية تكتيكية ارتكبتها المقاومة، أعانتْ الدعاية السلبية المضادة على تهييج الرأي العام الدولي ضدها في الأيام الأولى، مما أعطى غطاءً دولياً للمذابح. والأهم أنه يرى أنَّ الهدف الاستراتيجي المباشر للعملية، الذي أكَّده اسمها، طوفان الأقصى، وهو إشعال الثورة الفلسطينية والإقليمية المفتوحة من أجل توجيه ضربةٍ قاصمة للكيان، وتحرير القدس، بعيداً عن القدرات الآنية للمقاومة وحدود إمكانها وصلابة ترتيباتها الإقليمية، وأنه وظيفة الأمة بأسرها بعد استعادتها لسيادتها وحريتها ووحدتها.

خطأ استراتيجي… ولكن

في عنوان هذا المقال، هناكَ مُنطلقان لنا، الأول هو أننا نقرُّ أن هناك خطأً استراتيجياً -وليس تكتيكياً أو ميدانياً، ففي هذين كان ما حدث إبداعاً يصل إلى مرحلة الإعجاز- قد وقع في تخطيط طوفان الأقصى. والثاني، هو أننا ندافع عن هذا الخطأ، وإن جاز التعبير نراه كان خطأً لا بدّ منه.

إذا عدنا إلى كلمة رئيس أركان كتائب القسام، محمد الضيف، صباح يوم عملية طوفان الأقصى، ومن المعروف أنَّ البيانات العسكرية في تلك المعارك الفاصلة هي وثائق تاريخية، سنجد أنها وإن انطوت على أهدافٍ محلية مرحلية واقعية للعملية مثل تحرير آلاف الأسرى عبر صفقات تبادل، ولجم الاعتداءات على الأقصى والاستيطان في الضفة الغربية. كذلك نجد أن دعوة الضيف إلى كل حامل سلاح في فلسطين وخارجها، ودعوته بالاسم إلى أطراف ما يُعرف بمحور المقاومة مثل حزب الله والمقاومة الإسلامية في العراق… إلخ إلى الانخراط في المعركة، أوحت إلى أنه كان المُخطَّط لتلك المعركة أن تكون حرباً مفتوحة كبرى متعددة الجبهات ضد العدو، حتى ذهب البعض إلى أن هناك غرفة عمليات موحدَّة لمحور المقاومة هي التي أعطت إشارة البدء للعملية، وهي التي ستقود سيمفونية «وحدة الساحات» ضد إسرائيل.

لكن على مدار أكثر من شهر، رأينا غزة وحدَها تقريباً تدفع الضريبة الانتقامية الدموية غير المسبوقة، بينما تشارك الساحات الأخرى على استحياء، بهجمات هي أقرب للتلويح بالمشاركة من المساهمة الفعلية في المعركة، كمثال الهجمات الصاروخية المتكررة ضد القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، التي ذكرت البيانات الأمريكية أنها تسببت في عشرات الإصابات الطفيفة في صفوف قواتها.

قد يكون الاستثناء الحقيقي هو الساحة اللبنانية التي شهدت تصعيداً جدياً منذ اليوم التالي للطوفان، أسفرَ عن خسائر بشرية للجانبيْن، تجاوزت 60 شهيداً في صفوف حزب الله، الذي ادّعى أن هجماته خلّفت أكثر من 120 جندياً إسرائيلياً بين قتيل وجريح، وبث مقاطع مصورة لبعض تلك الاستهدافات. وكذلك الحوثيون في اليمن، الذين أسقطوا مُسيّرة أمريكية حديثة تبلغ قيمتها أكثر من 30 مليون دولار يوم الأربعاء 8 نوفمبر/تشرين الثاني، وفي اليوم التالي انفجرت مُسيّرة صغيرة تابعة للحوثيين في أحد مباني منطقة إيلات أقصى جنوب فلسطين المحتلة، التي تكرر استهدافهم لها بصواريخ باليستية ومُسيّرات خلال الأيام السابقة.

لكن في المحصلة، فإن 99% من وطأة المعركة على غزة، وبعض مناطق الضفة الغربية المعروفة سلفاً كمعاقل للمقاومة مثل جينين ومخيمها. لكن لماذا ندافع عن هذا الخطأ، وهو يوشك أمام أعيننا أن يؤدي إلى نكبة فلسطينية جديدة بتهجير سكان غزة، وبتطويق مدينة غزة واحتلالها، وتدمير المقاومة، أو على الأقل نزع سلطتها على غزة، والتي مكنتها على مدار 16 عاماً رغم الحصار أن تُنشئ لنفسها بنية تحتية؟

ببساطة، لأن المقاومة قررت بهذا العمل غير المسبوق محاولة الخروج من حالة الموت البطيء لغزة وللقضية الفلسطينية، التي كانت على موعدٍ خلال فترة وجيزة مع التطبيع السعودي-الإسرائيلي، الذي كان سيزيد تهميش القضية إقليمياً ودولياً، ويُطلق يد الاحتلال الإسرائيلي في الاستيطان والاستعلاء الاقتصادي والعسكري والاستراتيجي. والآن، رغم التكلفة المطرّدة شديدة الإيلام، أصبحت القضية الفلسطينية الآن هي الشغل الشاغل الأول للإقليم وللعالم، وعاد تداول مصطلحاتٍ لم نسمعها منذ سنين حول حقوق الفلسطينيين وحل الدولتيْن وضرورة رفع الحصار عن غزة… إلخ.

ويتفق معنا في هذا الطبيب والباحث محمود هدهود، الذي ذكر في تدوينة له بموقع X أنه يتفق مع القائلين إن عملية طوفان الأقصى كانت قفزة من المقاومة إلى المجهول -ولا شكَّ أن القفز إلى المجهول يضرب بالاستراتيجية كعلم وكتطبيق عرض الحائط- لكنها على حد تعبيره، قفزة أجبرها عليها الجميع، بأن وضعوها وغزَّة في اختياراتٍ مؤلمة، إذ لا شيءَ تخسره أكثر مما حدث في سنوات الحصار الطويلة وما تخللها من حروب.

ماذا لو لم تُبادر المقاومة بـ«الطوفان»؟!

لم يكُنْ الوضع في غزة مُحتملاً تحت الحصار الإسرائيلي على مدار 16 عاماً، تخلّلتها خمس حروبٍ كبرى ضد القطاع، خلّفت دماراً واسعاً وآلاف الشهداء وعشرات آلاف المصابين والعاجزين. كانت المعاناة في غزة شاملة للسكن والعمل والخدمات والتنقل والسفر والأمن الشخصي… إلخ. على سبيل المثال، قبل سنوات قليلة، صنع مخرجان من غزة فيلماً وثائقياً يشرح معاناة الغزّيين مع المعابر والحصار، من خلال تصوير معاناة طالبة تسافر للدراسة، وتواجه صعوبات بالغة في كل خطوة لمغادرة القطاع أو العودة إليه. ومن اللافت أن صانعيْ الفيلم شهيدان، أحدهما، وهو «ياسر مرتجي»، استشهد قبل العدوان بسنوات، عندما قتله قنّاص إسرائيلي غدراً في أثناء «مظاهرات العودة» على حدود غزة، والثاني رشدي السراج، قتلته مع عائلته، قنبلة أمريكية، ألقتها طائرة إسرائيلية في عدوان ما بعد الطوفان.

تذكر اليونيسيف أن الأوضاع المعيشية في قطاع غزة تحت الحصار كانت على حافة الهاوية، فمتوسط قطع الكهرباء 11 ساعة يومياً، ونسبة البطالة 46%، ومعظم مياه الشرب غير صالحة بالشكل المطلوب، وأكثر من 30% من أسر القطاع تعجز عن تلبية الاحتياجات الدراسية لأبنائهم، وأكثر من 60% يحتاجون إلى المساعدات الغذائية من الجهات المانحة.

يذكر الباحث عمرو عادلي في مقالٍ له على موقع «المنصة»، أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يبلغ حوالي 300 دولار سنوياً، وهو رقم ضئيل للغاية، بالمقارنة مع الكيان الصهيوني، حيث يبلغ هذا النصيب أكثر من 42 ألف دولار.

نتخيّل أن الطوفان لم يقع، ونجح التطبيع الخليجي الإسرائيلي الكامل، واستفاد العدو من مليارات الدولارات كاستثمارات خليجية، وتعافى من الآثار السلبية لجائحة كورونا، فإن تلك الاستفاقة الاقتصادية كانت ستترجم على يد الحكومة المتطرفة هناك إلى المزيد من الاستيطان والعدوان على القدس، وبمجرد أن يأتي مع مطلع 2025 رئيس جمهوري، فإن العدو سيكون في أنسب الحالات لشن الحرب متعددة الجبهات التي تحدث عنها مراراً، وأجرى العديد من التدريبات عليها منذ سنوات، وسيختار هو التوقيت الأنسب له تماماً، بعدما تكون الأوضاع الاقتصادية الصعبة والانقسام السياسي الداخلي قد أثقلا كاهل الخصم في لبنان حزب الله، وتكفَّل الحصار في غزة، والاستنزاف المتكرر بالضربات العسكرية، بإجهاد حماس والجهاد تماماً.

 أمّا اليوم، فقد خسرَ العدو ميزة المُبادأة، والكثير من قدرات وأفراد فرقة غزة المتمرّسة على جبهة غزة، وتعرَّض إلى أكبر خسارة بشرية في يومٍ واحد في تاريخه، واضطر أن يخوض الحرب البرية مدفوعاً بعُصاب رد الفعل وهوس الانتقام، ومهجوساً بطوفان من التوقعات السلبية لحجم تورطه وخسائره من مثل تلك الحرب الواسعة على غزة، والتي يتوقع بعض الخبراء العسكريين الأمريكيين أن تحقيق أهدافها الرئيسة بتدمير المقاومة وإسقاط حكمها في غزة قد يحتاج من الكيان إلى القتال لعامٍ أو عاميْن، ولن تكون على جبهة غزة وحدها، فالجبهة اللبنانية قد تُفتَح على مصراعيْها في أي لحظة، ويصبح العدو في وضعٍ حرج غير مسبوق. كما أدت عملية الطوفان إلى شرخ سياسي حقيقي في الكيان، كان من أبرز تجليّاته العاصفة السياسية التي حدثت صباح الأحد 29 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بسبب المنشور العجيب الذي نشره رئيس الوزراء نتنياهو على موقع X ثم سارع بمسحه بعد النقد اللاذع له، الذي حاول فيه إخلاء مسؤوليته عمّا حدث، واتهام رؤساء الأجهزة الأمنية بالتقصير الاستخباري.

وعلى صعيدٍ آخر، فحديث البعض عن أنَّ المقاومة كما نقول باللغة الدارجة المصرية (تقّلت إيديها أوي) في عملية السابع من أكتوبر 2023، وأن الحجم الصادم من الخسائر البشرية التي ألحقتها كتائب القسام وأخواتها بالكيان (أكثر من 1400 قتيل منهم أكثر من 300 من الجنود والضباط، وما يفوق المائتيْ أسير، منهم العشرات من متعددي الجنسيات) هو الذي أعطى الذريعة لإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة والدول الأوروبية المؤثرة، لاستباحة غزة وتدميرِها، هذا الحديث مردود عليه بالتاريخ وبالمنطق. فلو كانت القسام نفذت هجوماً محدوداً وقتلت 8 جنود إسرائيليين فحسب وأسرت اثنين، لأشعل هذا حرباً مدمرة ضد غزة. ألا تذكرك هذه الأرقام بشيء؟ بالفعل، عملية الوعد الصادق التي نفّذها حزب الله، وانتقمت إسرائيل منه بشن حرب مفتوحة ضد لبنان خلّفت دماراً هائلاً، وآلاف الشهداء والمصابين، ومحاولة لاجتياح جنوبي لبنان برياً، وهو ما عُرف بحرب تموز 2006.

يرى الأستاذ وضّاح خنفر رئيس منتدى الشرق للدراسات الاستراتيجية، والمدير العام السابق لشبكة الجزيرة القطرية، أنّ حربَ غزة الحالية والتي اندلعتْ نتيجة عملية طوفان الأقصى، هي نقلة استراتيجية بارزة في الصراع العربي-الإسرائيلي، فقد أفقدت الكيان المبادرة، ووضعته في خانة رد الفعل الانتقامي الانفعالي الذي يؤثر سلباً على التخطيط، وأن تلك الحرب ومآلاتُها ستسرّعُ المسارَ الذي بدأ تدريجياً قبل عقود في انتقال الثقل العالمي السياسي والحضاري والاقتصادي من الغرب إلى الشرق.

وخلال شهرٍ وبضعة أيام منذ اندلاع طوفان الأقصى، شهدنا ارتدادات مهمة للمعركة عالمياً، بانقلاب المزاج العام لا سيما الشعبي في أكثر بقاع الأرض ضد جرائم العدو، وتمثل ذلك في ساحات مواقع التواصل لاسيّما موقع X وتيك توك، وشهدنا المظاهرات المليونية دعماً لفلسطين في شوارع لندن وواشنطن ونيويورك، وحتى باريس وبرلين. وكذلك التفاعل الشعبي الكبير في مصر وأجزاء كبيرة من العالميْن العربي والإسلامي، مع المقاطعة الاقتصادية للبضائع الإسرائيلية والأمريكية، ولكل الشركات التي قدمت أي وجه من الدعم للكيان. ومن المعلوم بالضرورة أن خسارة معركة السردية والرواية، خطر بعيد المدى على المشروع الصهيوني، لا سيَّما في أجيال المراهقين والشباب الذين فتحت لهم مواقع التواصل -رغم محاولات التضييق بمعايير مارك زوكربيرج وإخوانه- نوافذ أكثر استقلالية لفهم حقيقة الصراع، ومشاهدة جرائم العدو ومجازره.

ماذا عن الأثمان الباهظة؟!

ليس هذا محاولة للتقليل من هول التضحية التي قدمها أهل غزة ولا يزالون، لكن يخبرنا التاريخ قديمُه وحديثُه، أن حروب المقاومة ضد الاحتلالات الاستيطانية الإحلالية، من أطول وأشرس الصراعات، وأكثرها ضريبةً بشرية على الشعب المقاوم، مدنيين ومقاتلين. فإذا ضربنا المثل بحرب التحرير الجزائرية (1954-1962) التي اندلعتْ ضد احتلالٍ فرنسيٍّ استيطانيٍّ دام 130 عاماً، فأقل تقديرٍ لضحاياها الجزائريين وجلِّهم من المدنيين حوالي 300 ألف، بينما يرفعها البعض إلى المليون شهيد الذين تنتسب إليهم الجزائر، بينما قُدّرَتْ خسائرُ قواتِ الاحتلال الفرنسي بحوالي 23 ألفاً من القوات الفرنسية والمستوطنين.

فإذا ضربنا مثلاً آخر بحرب تحرير شهيرة، وهي الحرب الفيتنامية التي استمرت زهاء 20 عاماً بين فيتنام الشمالية الشيوعية، وفيتنام الجنوبية حليفة الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تكن حرباً ضد احتلالٍ استيطاني، وقد انتصرت فيها فيتنام الشمالية واستولت قواتها على عاصمة الجنوب سايجون عام 1975، بعد أن انسحبت القوات الأمريكية لعجزها عن تحمل الخسائر الاستنزافية الثقيلة. كان الانتصار الفيتنامي باهظ الثمن، فقد قُتل مليون ومائة ألف من مقاتلي فيتنام الشمالية، ومليونيْن من المدنيين الفيتناميين شمالاً وجنوباً، بينما بلغت الخسائر البشرية الأمريكية وفقاً للإحصاءات الرسمية حوالي 58 ألف قتيل ومفقود، وما يُقارب 5 آلاف من قوات حلفائها الكوريين الجنوبيين والأستراليين والكنديين وسواهم، وحوالي ربع مليون مقاتل فيتنامي جنوبي من الموالين لها.

لكن للأمانة، تمتّعت فيتنام الشمالية في مقاومتها للقوات الأمريكية بمزايا الحرب الباردة، فمنحها الاتحاد السوفييتي بسخاء أحدث ما في ترسانته من أسلحة دفاعية لا سيّما صواريخ سام المضادة للطائرات، وكان هناك ظهير إقليمي قوي آخر مناوئ للولايات المتحدة هو الصين، مستعد في بعض المراحل إلى الزج بمليون جندي من قواته للدفاع عن أرض فيتنام الشمالية إذا اجتاحتها القوات الأمريكية بشكلٍ كامل، والدعم الإيراني للمقاومة الفلسطينية رغم أهميته، فإنه لم يصل أبدًا إلى هذا الحد.

وأودُّ أن أؤكِّدَ هنا على ما سبق وذكرتُه في مقالٍ سابق بعد أسبوعٍ من اندلاع طوفان الأقصى عنوانه: «مكسب استراتيجي: لكيْ لا يذهب طوفان الأقصى سُدى»، بأن التركيز يجب أن ينصبَّ على ضرورة ألا تشغلنا لحظة الدماء والألم الحالية، عن الاستماتة في الحصول على تغيير جذري إيجابي في ملفات حصار غزة والأسرى مستقبل القضية، كثمن مستحق للتضحيات الباهظة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.