نعم أنا متهم في قضية عسكرية.

بهذه الكلمات فجّر الأديب «علاء الأسواني» الجدل من جديد حول حدود حرية التعبير في مصر، بعدما أعلن في مقال له أنه مدعو للمثول أمام القضاء العسكري متهمًا بسبب روايته الأخيرة.

الرجل مغضوب عليه منذ زمن، أزيحت مقالاته من «المصري اليوم»إلى موقع «دويتشه فيله»الألماني. تخلّى عنه بالطبع آخر ناشر لرواياته «دار الشروق»المصرية فتلقفت روايته الجديدة أيادي دار «الآداب»البيروتية. وما أن صدرت حتى تعرض لحملة شعواء من مواقع تتبع توجهات الدولة كظلها، ما ينبئك بأن كثيرًا من الغضب سبّبته «جمهورية كأن»في نفوس السادة «اللي فوق»الذين يأمرون السادة «اللي تحت»بنقد كل مَن لا يروق لهم.

تستعرض الرواية التي جلبت عليه الوبال أبرز أحداث ثورة مصر في الفترة التي تلت سقوط حكم الرئيس الأسبق مبارك. يقول عنها الأسواني في مقاله، إن «الناشرين المصريين خافوا منها». وكما هو معتاد فإن النفس تهوى كل ممنوع ومُحرم. انتشرت الرواية بين أوساط القرّاء بشدة. الكل يتصفحونها بنهم ساعين لمعرفة ما بها أغضب السادة العساكر لهذه الدرجة، ومنحها أحد المتحمسين وصف «أهم رواية في القرن العشرين».


ثوابت الأسواني

من رواية «جمهورية كأن»

ما أن تسرّب إليّ خبر أن علاء الأسواني طرح رواية جديدة، لم أتفاءل وراهنت نفسي على ثوابت تتغير الدنيا ولا يغيرها في أعماله؛ تثور البراكين والزلازل، يفوز الزمالك بالدوري، وتتعدَّل مواد الدستور، ولا يتخلى صاحب يعقوبيان أبدًا عن أيقونات الجنس والحطّ من الدين ورجال الأمن في أعماله، دون أن ينسى بالطبع مدى التأكيد على عشق المصريين للعبودية، وهي التيمة التي يقدّمها كمغني ربابة في كل ما كتب، بدءًا من مجموعته القصصية «نيران صديقة»،وحتى روايته الأخيرة «نادي السيارات»إلى أن وصلنا للعمل الذي سجن صاحبه؛ «جمهورية كأن».

في الرواية الممنوعة من العرض، والمتاحة إلكترونيًا للجميع رغم أنف المانعين، تظهر اللمسة الأسوانية من أول صفحة، وتتيح للمتابع الجيد لأعماله توقّع ما سيقرؤه في بقية الصفحات، وبأنها ولا شك لن تخلو من مصفوفة علاقات بشرية تظهر متباعدة في البداية ثم تتقاطع رويدًا رويدًا بسبب مُحفِّز الرواية الرئيسي (الثورة) قُربًا منها أو خصامًا.

لابد من ضابط فاسد فكان اللواء أحمد علواني،ورجل دين موالٍ للسُلطة فكان الشيخ شامل، ورجل فقير شريف يلعب ابنه دورًا في الأحداث فكان عم مدني، وعجوز هدّه الزمن لا يكف عن عشق النساء ومحاولة إنقاذ ما تبقّى من حياته فكان أشرف ويصا، ورأسمالي يتمنى ابتلاع الأرض بما فيها فكان الحاج شنواني، وثائران لا يملكان إلا حبهما لبعضهما وللحق فكان مازن وأسماء.

إن حافظت على نفس الأحداث وغيّرت أسماء الأبطال، فأصبح لقب العجوز زكي بيه،والفقير الشاذلي، والثري الحاج عزّام، ومازن وأسماءلـطه وبثينة،لوجدت نفسك تقرأ «عمارة يعقوبيان». أما الآن فلنتركها كما هي ونكمل تصفحًا في «جمهورية كأن».


جمهورية كأن بعد 30 عامًا

هل أصبح المصريون: إما فاسدون وإما جبناء؟ ما هذا المستنقع الذي نعيش فيه؟
من رواية «جمهورية كأن»

تحكي الرواية عن أحداث ثورة يناير على ألسنة أبطال العمل الذين إما شاركوا فيه وأنجحوه (الثوار)، أو قاوموه وفشلوا فبدءوا التخطيط لوأده مستقبلاً (رجال الأمن وشيوخ السلفية)، أو رفضوها خوفًا كبقية الشعب غير المسيس ثم أيدوها حينما نجحت وما أن بدأت تترنح حتى عادوها مجددًا، والمسؤولية المباشرة لأجهزة الأمن في إفسادها.

اللواء أحمد علواني قائد جهاز أمني حساس يُباغَت بالثورة، لكنه بعدها يبدأ مخططًا كبيرًا لوأدها عبر غسل عقول الناس باستخدام وسائل الإعلام. زوجته وولداه (الضابط ووكيل النيابة) منخرطان في منظومته. يصلّي ويستشهد بالقرآن في أحاديثه لكنه لا يمانع من تعذيب مواطن حتى الموت كي يظفر منه بمعلومة. لا ينغص عليه إلا ابنته المارقة، طالبة الطب التي لا تكفَّ عن مقاوحته ومعارضة أفكاره، لا تكتفي بذلك وإنما تحب شابًا مكافحًا ذا آراء ثورية اسمه خالد، أبوه يعمل سائقًا في مصنع أسمنت يبزغ فيه قيادة عمالية شابة اسمه مازن أحد أعضاء «حركة كفاية» الذي يحب زميلته المُدرسة أسماء التي تكافح من أجل مقاومة مافيا الدروس الخصوصية بمكانها.

أما أشرف ويصا، فهو خيط درامي بدأ وحيدًا وإن كانت حبكته مكررة عن المسيحي الذي يتبادل الكراهية مع زوجته، لكنهما لا يستطيعان الطلاق فتتحول حياتهما إلى جحيم يبدو أنه بلا نهاية، لولا أن تُقام الثورة أسفل بلكونة عمارته القاطنة في وسط البلد فتتغير حياته للأبد.

قد يمكنني أن أعتبر الرواية عملاً عظيمًا إذا قرأتها بعد 30 عامًا ولم أكد قد خضتُ تجربة الثورة ولا عشت بين جنباتها، عندها لأكلت صفحاتها قراءةً وشكرت الأسواني على توثيقه لحظات النعيم الثوري لنا، أما الآن فلم أرَ تجربة قراءتها على نفسي إلا كما لو أنني دخلت السينما لرؤية فيلم علمتُ قصته مسبقًا فلم تدهشني أيًّا من مشاهده وكما دخلت خرجت.


الأدب وسيلة للانتقام

الدولة المصرية تحبسك الأول، وبعدين تدور لك على تهمة.
الحقيقة المؤكدة إن مفيش حاجة في مصر حتتغير
من رواية «جمهورية كأن»

صحيح أن أسلوب الأسواني عقد مع قرّائه اتفاقًا ضمنيًا لا يمنحهم بموجبه في كتابته متعة بيانية قدْر قُدرته على تقديم بناء درامي مُحكم وتعقيد أحداث متصاعد ومشوق، إلا أن إخلاله بوعده الأخير وعدم استطاعة قلمه تقديم ولو لمحات من الأول تدفع أي قارئ فورًا للتساؤل عن جدوى إضاعة وقته في قراءة 500 صفحة من مدونات ثورة يحفظها أي أحد لم يقاطع وسائل الإعلام أيامها.

ويجعلني لا أعتبرها إلا إعادة سرد الأخبار بصورة قصصية غير ممتعة، فمعظم أحداثها معروفة سلفًا، كيف ستبدأ وإلى ما ستنتهي، ما قتل التشويق اللازم وجوده بأي عمل روائي، معظم حوارات الأبطال جاءت سطحية لا تحمل عُمقًا، يمكنك ببساطة أن تخوض نظيرًا لها وأنتَ جالس مع رفيقك على القهوة، ويمكن تلمّس كلماته في مقالات الأسواني القديمة. العنوان نفسه مقتبس من مقالة «تسقط جهورية كأن» التي كتبها منذ 5 أعوام.

مثلاً مشهد ضابط الأمن الذي يبدأ حياته بشكل اعتيادي يفطر ويداعب ابنته، وبعدها يبدأ عمله غير الاعتيادي بتعذيب مواطن يهدد خلاله زوجته بالاغتصاب، يكاد يكون منقولاً بحذافيره من مقال قديم. أما قصة المتظاهر الفقير الذي كان يستحلف كل رفاق مظاهرته «النضاف»أن يتركوا أمثاله للصفوف الأمامية كي يموتوا ويتبقوا هم بأناقتهم ليُعلموا الأجيال التالية قُتلت سردًا على «فيسبوك»حينها، ووردت ببعض الكتب التي طُبعت بعد الثورة مباشرة مثل «أيمن»الذي كتبه المصور حسن أمين، وضابط أمن الدولة الذي «يُشرعن»لنفسه تعذيب المواطنين تحت بند عقوبة التعزير في الفقه الإسلامي، قصّها الأسواني بإحدى مقالاته مسبقًا، وهنا يحمل «الدكتور خالد»أحد أبطال الرواية لواء الترويج لأفكار الأسوانيداخل عمله.

الأزمة الحقيقية في أدب الأسواني، أنه يُشعرك طوال الوقت أنه لا يسعى لتقديم أدب حقيقي قدر ما يسعى للانتقام من خصومه، فجميع الأبطال الذين يحملون آراءه كمازن وأسماء يبقون أنقياء أتقياء لا يُمسّهم السقوط الإنساني ولا يتعرضون إلا للظلم وغدر الزمان. أما من يعادونهم من الأثرياء والضباط ورجال الدين فلا بد وأن يكونوا جميعًا لصوصًا ونصّابين وهاتكي أعراض، وهو أمر يثير الكثير من علامات استفهام عن المهنية الأدبيةالتي يؤسِّس الأسواني عليها رواياته، فلو أرادها نسيجًا يعرض أفكاره بشكل مباشر لما تعب نفسه، ولاكتفى في مقدمة روايته بكتابة سطر واحد «كل رجال الدولة العميقة أوغاد»ولخّص عمله في عبارة واحدة وأنهاها قبل أن تبدأ، أو لأشار علينا بقراءة مقالاته وكفّ عنه وعنّا العناء.

بقرار عسكري بحت مُنحت هذه الرواية شرفًا لا تستحقه، وأعتقد أن على إخوتها من الروايات المحرّمة ذات الأسماء الرنّانة كروايات «أولاد حارتنا»،و«فئران أمي حصة»،أن تتقدّم باعتراض على هذا القرار بدعوى أن قائمة المنع قد «لمَّت». أما عن اعتبارها أعظم عمل روائي في القرن العشرين فهو رأي أوافقه تمامًا، على شرط واحد وهو ألا نكون قد أصدرنا أي روايات غيرها خلال هذا القرن.