في رسالة إلى صديقه «ماكس برود»، يسأل «كافكا»: «هل من الممكن الاستيلاء على فتاة بالكتابة؟».كان ذلك عندما أرسل بطاقة بريدية لفتاة تعرف عليها فى واحدة من رحلاته مع «ماكس»، وكانت الفتاة تصغره بأعوام عديدة، يراقبها كافكا بقلق بينما تخرج مع الفتيان من سنها وتتناسى موعدًا دبره معها، بينما يلاقيها صدفة كثيرًا فى شوراع المدينة. وقد كانت دهشته عظيمة عندما تلقى ردًا منها؛ نظرا لأن الفتاة كانت قد تجاهلته طويلا، رأته مملًا ومضجرًا، ولكنها ردت على رسالته. «ولكن لماذا تكتب ردًا لي؟، تماما كما أردتُ!».بالنسبة لكافكا كانت مرسلاته مع السيدات بالغة التعقيد وتتبع مبادىء صارمة، ومضحكة أحيانًا. يظهر ذلك فى خطاباته مع «فيلس»، والتي كان، بأسلوب ديكتاتوري متخفٍّ، ينحت منها زوجة يهودية له، ويحاول تغيير طباعها وإجبارها على تبني مواقف، بل ومواهب بعينها. كذلك الحال مع حبيبته الأشهر «ميلينا»، التي كان يتبع معها جدولًا حازمًا محمومًا للخطابات والرد عليها، مبنيًا على الأيام وأحيانًا الساعات.

خطابات، لا علاقات

معروف عن كافكا أنه كان يأخذ من يراسلنه فى دوامة من الخطابات بأسئلته الكثيرة عن تفاصيل حياتهن، والتي تصل أحيانًا إلى عشرين سؤالًا في الخطاب الواحد. كانت «فيلس» تتجاهل أسئلته هذه، بينما تجاريه «ميلينا»، صانعين عالًما خياليًا مليئًا بالرموز المشفرة بينهما. وفي خطاباته مع «ميلينا»، هوّل من شأن أشياء معينة، كالدولاب في حجرتها مثلا، الذي قارب كافكا من جعله شخصية ثالثة معهما، بل وعدوًا في أحيان.يصنع كافكا أسطورته الخاصة من السيدات، ويهوّل من شأن التفاصيل التي يستخدمها في البدء للتقديس، ويغالي في إخبارهن بهذه التفاصيل.

عزيزتي فيلس، رجاءً اكتبي لي وأخبريني عن نفسك كما في الأيام الماضية عن العمل، عن أصدقائك، عن أسرتك، عن نزهاتك، عن الكتب التي تقرئينها؛ لا تقدّرين مدى أهمية هذا لحياتي.

بجانب الاهتمام الهوسي بالتفاصيل الحياتية، لخطابات كافكا أيضًا طابع الشكوى والتذمر، فهو يعتبر وجود أسرته تهديدًا، وغيابها أيضًا تهديدًا، والزواج تهديدًا، والعيش وحيدًا تهديدًا.عاش كافكا مع والديه طوال حياته، حتى مع استقلاله ماديًّا وقدرته على العيش وحيدًا أو مع زمرة من الأصدقاء. مثلما حثته «ميلينا»، التي كانت معروفة بقوة شخصيتها وبشبكات صداقاتها المتينة، إلا أنه لم يكن يناقش هذا الموضوع، ويتعامل معه كلفتة جانبية، داحضًا اقتراحات ميلينا بجملة بسيطة فيقول لها مثلا: «ولكن من سيقدم لي الطعام؟»، ثم يواصل الخطاب بصفحات عن شكواه من الضوضاء والحي الذي تسكنه أسرته وأصوات أسرته نفسها، متحملًا الثقل البغيض الذي يستشعره من أبيه. ويمكن إرجاع عدم تفكير كافكا في الاستقلال إلى أنه لم يتمرد مطلقًا، بل كان يُحوّل، بطريقة لا إرادية، ذلك العبء النفسي إلى خوف وتحقير للذات، وأمراض نفس-جسمانية، وهي التي تنضح بها خطاباته، من شكوى من الصداع، والأرق الذي ينهشه، والإمساك، وعلاقته المعقدة مع الطعام. وما لا يعرفه كثيرون أن كافكا كان نباتيًا.

إذن هل أمكن لكافكا الاستيلاء على الفتاة بالكتابة؟

فى كثير من الأحيان، إن لم تكن كلها، لم تكن هناك من تفلت من شرك الخطابات المعقدة لكافكا. التوغل العميق في تفاصيل حياتهن، والانبهار المركب بأشياء قد لا تستحق، ولكن بعد انحسار موجات التشكي ولعن مشاكله «الكافكاوية» الخاصة، كان ببساطة لا يعرف ماذا يصنع، كيف يخرج من هذه الأعاصير التي خلقتها خطاباته جيئة وذهابًا؟، فكان ينهي العلاقة، شاعرًا بمزيج ثقيل من الذنب وكره الذات، والذي كان ينفث عنه بتبني فكرة أن له نداء أعلى، ولكافكا كان ذلك النداء بالطبع هو الكتابة.في كتابه «محاكمة كافكا الأخرى» يُلقي «إلياس كانيتي» ضوءًا على علاقة كافكا بــ «جريت بلوخ»، الصديقة التي عهدت إليها «فيلس» بالتوسط بينها وبين كافكا. هنا نرى كافكا سريعًا يتحول بخطاباته لـ «جريت»، طارحًا نفس الأسئلة القديمة ومطالبًا بالتفاصيل نفسها، ثم –بالطبع- يطلب منها اتباع جدول منتظم للرد، لكنها ترفض، بوضوح شديد يخطب كافكا ودها.يُلمح «كانيتي» كذلك أن «جريت» هي شخصية «الآنسة برستنر» التي تظهر في «المحاكمة» والتي يوجد بينها وبين البطل ثأثير تحت-شبقي، فلكافكا لا يوجد جنس صريح أبدًا.كان افتقاره للثقة الجسدية بذاته مصاحبًا له منذ الطفولة، لم يكن مرتاحًا للجنس ولا يحب مناقشته، وليس أكيدًا أنه كان على علاقة جنسية بأيّ ممن عرفهن، كان يلجأ لمواخير براغ، وفي الأغلب للصور البونروجرافية. لم يكن كافكا مرتاحًا لفكرة الحميمية الجسدية أو أي اقتراب معيشي، وفكرة العيش مع إحداهن كرفيقة أو كزوجة، كانت تجتذبه في البداية ثم لا تلبث أن تهبط عليه مخاوفه كانهيار ثلجي.كان كافكا يفزع من النساء الناضجات، وكان خوفه يقوده إلى الارتباك ثم محاولات التودد التي تكون بالكتابة. وبرغم كثير من الشخصيات النسائية المساعدة التي تظهر في رواياته والتي يعتمد عليهن البطل بشكل تلقائي مريب، إلا أنه مع ذلك لا يبدو على كافكا أنه مدرك لديناميكية العلاقات ولا تعرف قصصه امرأة من لحم ودم. فالشخصيات النسائية، بجانب مساعداتها غير المشروطة، أو تقديرهن المبالغ الذي لا سبب له للبطل، كانت عدا ذلك وظيفتهن إغواء البطل والإيقاع به لجرّه للجنس. هكذا يختبر كافكا رعبه الجنسي مرة بعد الأخرى من خلال كتاباته.والأغلب أن علاقات كافكا كانت تشبه «هروب غير مكتمل» لإنقاذ نفسه من سطوة والده، فلفترة طويلة جدًا أوهم نفسه بأنه يريد الزواج، وفسخ خطبته مع «فيلس» مرتين خلال ستة أعوام، كما أنهى علاقته مع «ميلينا»، التي كان بصفة خاصة يحب كونها متزوجة. لم يعرف كافكا كيف يخلص نفسه، ففي البداية أراد تخليص نفسه بالزواج، ثم أراد تخليص نفسه من الزواج، حتى أنه خطط للالتحاق بالجيش للهروب من زواجه الوشيك.هنا يمكن تتبع نمط ما، ففي لقائه الأول بفيليس شعر بالنفور منها، إلا أنه ما لبث أن كتب لها، وأدخلها في شبكة خطاباته. كذلك الحال مع «ميلينا» التي لم يلحظها في أول لقاء في مقهى ثقافي ببراغ مع عديد من الأصدقاء، ولكن بعدما صارت مترجمة أعماله للتشيكية، تحولت الخطابات المهنية إلى زوبعة غرامية.

يحبهن لأنهن بعيدات

ميلينا، علينا الكف عن هذه الخطابات المترنحة؛ لقد حولتنا لمجانين، فليس بإمكاني -على أية حال
الاحتفاظ بزوبعة في حجرتي.

تبقى كذلك حقيقة المسافة، فكانت «فيلس» تعيش وتعمل على بعد ست ساعات بالقطار من كافكا، وهذه الست كيلوات كانت العذر والواقي الأمثل له، وحتى لو كانت كيلومترًا واحدًا فإنه كان سيجعل منها مأساة. ومن الواضح أن أيًّا من «فيليس» أو «ميلينا»، كانت تعيشان في براغ، لما كان لكافكا أي علاقة بهما.ويمكن القول إنه لم تكن لكافكا علاقات، بل كانت له خطابات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.