ما إن تذكر الثورة الجزائرية، ونضال الشعب الجزائري في العصر الحديث للحصول على حريته واستقلاله من المستعمر الفرنسي حتى يأتي ذكر واحد من أبرز وأهم الكتّاب والأدباء الجزائريين، ألا وهو كاتب ياسين (اسمه الحقيقي محمد خلوطي) ذلك الأديب الاستثنائي الذي حمل هم موطنه وبلاده منذ شبابه، وكتب عن قضاياها وعبّر عنها بصدقٍ وواقعية، وشارك في مظاهراتها منذ كان طفلاً في السادسة عشرة من عمره، واعتقل منذ هذا الوقت المبكر وكتب مجموعته الشعرية الأولى وهو في السجن، واضطر للسفر لفرنسا والكتابة من المهجر، وهناك تعرف على عدد من المناضلين والمثقفين الجزائريين وشاركهم في الكثير من الحوارات والقضايا الوطنية.

وعلى الرغم من اعتزازه بموطنه ولغة بلاده فإنه كتب أعماله الأدبية كلها بالفرنسية، سعيًا منه لتعريف فرنسا بحقيقة قضية شعب الجزائر، وهو ما حدث بالفعل إذ غدا كاتب ياسين، وروايته «نجمة» معلمًا مهمًا في الأدب العربي الجزائري المكتوب بالفرنسية.

كما كتب عددًا من المسرحيات التي كانت توصف بأنها مسرحيات ثورية مثل «دائرة القصاص»، و«الجثة المطوقة»، و«الأجداد يزدادون ضراوة» وغيرها من الأعمال التي عرضت على مسارح مدن الجزائر المختلفة، خاصة بعد عودته من فرنسا وعمله مديرًا للمسرح الجهوي بمدينة «سيدي بلعباس» عام 1970. وهكذا تعرّفت الأجيال الجديدة على كاتب ياسين كواحد من أهم كتاب ورموز الثورة الجزائرية.


الهوية بين التشتت والتشوه

ليس عدد الجثث هو الذي يثقل على شارعنا.. إن ما يثقل عليه هو موت الجبناء في عزلتهم وانطوائهم، موت المتخوفين المضطربين الذين هم على شاكلتك.. أنتم أيها الآباء المتقاعسون المتخلفون. الذين تخونون الأجداد.. أنتم تظنون أنكم تؤمنون آخر أيامكم بإرسالنا إلى المدارس التي يطردنا منها إلى «ورشات العمل » باستمرار أولئك الذين استطاعوا أن يجعلوا من نيركم، من عبوديتكم شيئاً عزيزاً على قلوبكم.. إنكم تُعجبون بالقوة، بمظاهر الأبهة، بأسلحة المرتزقة والمأجورين التي انتصرت على أجدادنا وأجدادكم.. لم يعد للنضال أي معنى في نظركم. فماذا يعني كل ذلك؟ هل يعني كل ذلك؟ هل يعني إلا أن نفوسكم الخانعة قد قادتكم إلى عار الانسحاق الذي تتقبلونه بغبطة؟ لقد قادتكم إلى أن تغذوا أحلام العبودية حتى على أكتاف أبنائكم.. تحذون بذلك حذو الغاصبين، المتسلطين على رقابكم.. هم أيضاً يظنون أنهم يحبونكم بسلامة طوية «إن الحثالة دائماً سليمةُ الطوية» ما داموا يعيشون على كَدكم ويشركونكم في خزيهم. وهم يحملون الشعور بأنهم ليسوا إلا آباء موجهين..يا للآباء الموجهين!
من مسرحية «الجثة المطوقة»

لم تكن الكتابة بالفرنسية مجرد خيارٍ أوتجربة لدى كاتب ياسين، وهو الذي تعلّم في المدارس الفرنسية منذ صغره، ولكنها كانت رهانًا وتحديًا خاصًا قرر أن يخوضه هو وعدد من كتّاب الرواية الجزائريين، لكي يؤكدوا لفرنسا وللعالم قدرتهم على التعبير عن قضاياهم ومشكلاتهم بلغة المستعمر الذي مارس عليهم أقسى درجات طمس الهويّة العربية طوال سنوات الاحتلال. واستطاعوا (مالك حداد، ومولود فرعون، ومحمد ديب، وغيرهم) أن يكتبوا الرواية الجزائرية بالفرنسية، وأن يقتحموا مجال التأليف الروائي بل وفرضوا أنفسهم في مجالٍ شديد الخصوصية مثل الأدب. ولم يمنعهم ذلك من أن تكون كتابتهم أيضًا ذات صبغة عربية خاصة في محتواها المناهض والمقاوم للاستعمار، والمؤكد هويّة الجزائر وأصالة شعبها، مؤكدين في ذلك مهارتهم وقدراتهم على التعبير عن أنفسهم بلغة المستعمر.

في روايته الأشهر «نجمة» يرسم كاتب ياسين أسطورة لتاريخ بلاده الجزائر وعلاقة الشعب الجزائري بها، وذلك من خلال تمثيل رمزي صاغه عبر أبطال الرواية الذين يدورون حول بطلة الرواية «نجمة» التي ترمز للجزائر، ويكتشف القارئ أنها فتاة ذات جمالٍ خاص، وتاريخ مجهول ممزق أيضًا، إذ إنها تحمل أصولاً مختلفة، فهي ابنة الفرنسية اليهودية، وأبوها جزائري عربي، يتم اختطافها بعد ذلك من إحدى العصابات، ويبقى عدد من الشباب يحلمون بها وبالوصول إليها، إذ إنها تمثل لديهم حلم المرأة النموذج الأمثل.

أبطال الرواية الأصدقاء الأربعة «مراد ولخضر ومصطفى ورشيد» تجمعهم صلات القرابة من جهة، وحلم التمرد والثورة من جهةٍ أخرى، كلهم يبحثون عن «نجمة» المرأة والحبيبة والوطن الضائع المشتت، تلك الهوية الضائعة بين أصولٍ مختلفة، والضائعة بين حب الأبناء وسيطرة الأعداء من جهة أخرى. وهكذا يعبّر كاتب ياسين في هذه الرواية بشكلٍ رمزي عن التشويه الكبير الذي حدث للهوية الجزائرية من خلال المستعمر الفرنسي طوال فترات الاحتلال، وكيف أن ذلك الاستعمار لم يكن كما يروج لنفسه منارة للحرية والحضارة والرقي.


عوالم مسرحية ثورية

لا تبتعد عوالم مسرحيات كاتب ياسين كثيرًا عن روايته، بل على العكس نجد صدى واضحًا لعدد من أفكار المقاومة والثورة والتمرد، حتى أن بطلة روايته «نجمة» ونجد حكايتها في مسرحية «الجثة المطوقة»، وكأنه أراد أن يستعيدها مرة أخرى من خلال وسيط مختلف، ومتفرج ذي خصوصية وانتشار آخر، يكتب الكاتب الفرنسي إدوار غليسان في مقدمة المسرحية:

هناك مؤلفات تغوص إلى أعماق عصرنا بقوة، وتقيم نفسها جذورًا لا محيد عنها لذا العصر، تمثله بقوة وتستخلث منه نشيده العميق، إن ميزتها الرئيسية تتلخص في أنها تنظر إلى العالم وكأنه جهد أو عمل يجب أن ينجز، لا كسرٍ غامض ينبغي أن نجاهد بلذة لاستكشافه، إنها ترى العالم وحدة مجزأة يجب الوصول في النهاية إلى وحدتها.. هذا الأسلوب الذي يتجاوز الرتابة الباهتة للواقعية الكاملة التي لا تريد أن تهمل ولا تهمل شيئًا من التفاصيل فتجرد الواقع من قوته الحقيقية، هذا الأسلوب هو أسلوب مسرحيات كاتب ياسين ولعل خير اسم نطلقه عليه هو الواقعية الشعرية .. إن النتاج المسرحي لكاتب ياسين هو صورة مثالية للمأساة المعاصرة، المأساة التي يحاول بها الفن عامة والفن المسرحي على الأخص أن يتصل بالعالم، ويجعله ينسجم معه ويوضح بهذا الشكل القدر المشترك لجميع البشر.

وهذا ما نجده في مسرحيات «الجثة المطوقة» التي تتحدث عن أحداث الثامن من مايو عام 1945، وهي المظاهرات التي قام بها الشباب ونتج عنها الكثير من الأحداث الدامية في الجزائر في ذلك الوقت. حتى أن الفرنسيين قتلوا فيها قرابة 45 ألف شهيد.

تستعرض المسرحية موقف عدد من الشباب الثوريين يقودهم الأخضر ويحثهم على مواصلة المظاهرات والاعتراض وعدم الاستسلام لقوات الشرطة الموالية للاستعمار، وما يحدث بينهم وبين آبائهم وكبار رجال البلد الذين يمثلهم سي الطاهر الذين يقنعون بالقليل، ويرفضون مقولات هؤلاء الشباب وحماسهم الزائد، هي مشكلة الثورات القديمة المتجددة دومًا بين شباب يرفض الواقع ويتمرد عليه ورجال وسادة يريدون فرض الأمر الواقع بالقوة والسلطة.

ربما يلحظ قارئ مسرحيات كاتب ياسين اليوم أنها شديدة الخطابية والمباشرة، بل إنها في فقراتٍ كثيرة منها تخرج عن سياق ومنطق المسرح بطريقته المعروفة، حيث نجد حوارًا طويلاً من شخصيات العمل الرئيسية، ولا شك أن ذلك عائد لطبيعة المسرحية والهدف الذي يكتبه من أجلها كاتب ياسين، إذ تحمل مسرحياته طابع المنشور السياسي، ويضع فيها الكثير من الأفكار المتعلقة بالثورة والنضال وضرورة الخروج والتمرد ورفض الأوضاع السياسية المهينة القائمة، كما يناقش من خلال شخصيات العرض المسرحي الكثير من الأفكار المتعلقة بالثقافة والهوية وغير ذلك.


الأثر الفرنسي والعربي

احتلت أعمال كاتب ياسين وخاصة رواية «نجمة» مكانة بارزة في الأدب الفرنسي، وبقيت حتى اليوم نموذجًا يحتذى به ويدرس ويشار إليه دومًا في الأدب المقاوم، لا سيما وأنها بقيت معبرة عن تاريخ وأحداث شديدة الخصوصية دارت في وقت الثورة الجزائرية، وكتب عنها عدد من المستشرقين والدارسين الفرنسيين الكبار، كما تناولها العديد من الباحثين الجزائريين والعرب بالدراسة والتحليل، باعتبارها رواية كاشفة ومؤثرة في تاريخ الأدب بشكلٍ عام.

توفي كاتب ياسين، بعد حياةٍ حافلة بالنضال والكتابة ومقاومة الاحتلال، في أكتوبر/تشرين الأول عام 1989 بفرنسا بعد معاناته من مرض السرطان، عن عمرٍ يناهز الستين، ونقل جثمانه ليدفن في بلده التي عاش عمره كله حالمًا بها معبرًا عنها بلد المليون شهيد ..الجزائر.