كنت أرى المسيحيين والأتراك ينظر كل واحد منهم إلى الآخر شذراً بنظراته القاسية، ثم يفتل كل منهما شاربيه بغضب. وكنت أرى المسيحيين يدعمون أبوابهم بالمتاريس واللعنات، في حين تعبر الشوارع قوات الاحتلال المسلمة، وكنت أسمع العجائز وهم يحكون عن الحروب والأعمال البطولية، وعن الحرية وعن اليونان، وكنت أعيش ذلك بعمق وبصمت، وأنا أنتظر أن أكبر وأفهم ما يعنيه ذلك كله، بحيث أنني، أنا أيضاً، أستطيع أن أشمر عن ذراعي وأذهب إلى الحرب.
نيكوس كزانتازاكي: تقرير إلى غريكو

لا تحظى صورة الاحتلال العثماني داخل أوروبا بالكثير من الاهتمام بقراءات الأدب الذي قدمها، رغم القيمة الكبرى للذين كتبوا كالأديب الصربي إيفو أندرتش، والأديب اليوناني نيكوس كزانتازاكي، رغم أن بقاء الدولة العثمانية حقبة طويلة من الزمان كحاكم لتلك المستعمرات في جزر البلقان وأوروبا الوسطى ما كان له شديد الأثر على هوية وثقافة تلك البلدان وحتى حدودها الجغرافية، وبإمكان المرء أن يرى آثار ذلك الاحتلال على الهوية الأوروبية وانبثاق العديد من القوميات خلالها في أفلام السينمائي ثيو أنجليوبولوس كمثال، إلا أن نيكوس كزانتازاكي بشهرته الكبيرة، وأهميته القومية لبلاده اليونان، وأهمية اليونان بحد ذاته كعدو تاريخي وأول المستقلين عن الدولة العثمانية في أوروبا، تجعل من أدب نيكوس صورة حية يمكننا من خلالها رؤية العثماني في أدب مستعمرات العثمانيين الأوروبية.

رجل الزمن الصعب

الناظر في أدب نيكوس كازانتازكي وحياته يلحظ أن ذلك الأدب تمخض عن سنوات كبرى من الحروب المدمرة داخل القارة الأوروبية والتي كانت اليونان لاعباً أساسياً فيها، فكازانتازكي المولود عام 1883م شهد الحرب التركية اليونانية وحروب البلقان الأولى والحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، مما كان له أبعد الأثر في إحساسه بهويته اليونانية والتي يظهر إعتزازه بها في كل أدبه، فهو يرى في اليونان مهداً للحضارة ومنبعاً للديمقراطية والفلسفة والأدب المسرحي بشقيه المأساوي والملهاوي، ورأى أن اليونان تشكل قلب العالم وتتحكم في مصيره أجمع.

وتلك النظرة المعتزة بقوميته اليونانية، والشوفينية في بعض الأحيان، كان لابد لها أن تصطدم بتاريخ بلاده التي كانت محتلة طيلة أربعة قرون من الزمان من الدولة العثمانية، حتى تأثرت تركيا باليونان والعكس، وتداخل المجتمعان جغرافياً وثقافياً بشكل أصبح ينذر بكون علاقتهما علاقة جواز كاثوليكي يدوم إلى الأبد.
فكان أكبر مؤثر ترك بصمته على أدب كازانتازكي هي تلك العلاقة العدائية بينه كيوناني معتد وبين المستعمرين الأتراك الذين عاش معهم في طفولته في كريت وكبر بينهم، وفي ظل فورة جزيرة كريت ضد الاحتلال العثماني، رأى كازانتازكي أن يناضل بقلمه الساخن والحاد.

كان يهدف كازانتازكي أن يسهم من خلال الكتابة في تحقيق الخلاص والتحرر من أغلال الترك، لذلك نرى في أدبه تصويراً نمطياً للتركي واليوناني في حالة صراع مانوي دائم، فاليوناني هو رمز الخير والحق، والتركي رمز الشر والاغتصاب والتجبر، ⁷من هذا المنطلق أصبح بإمكاننا اعتبار كازانتازكي مثقفًا عضويًا بالتعريف الغرامشوي للكلمة حيث إنه أسهم بوظيفته في مساعدة بلاده وشعبه.

لا نرى الترك في أدب كازانتازكي كشخصيات روائية افتراضية رسمها قلم بارع وأضفى عليها من الأبعاد ما أراد، ولكننا نراهم كصور حية في شهاداته من طفولته في مذكراته الشهيرة “تقرير إلى غريكو” كما يقول عن حدثة رآها صغيراً:

الهواء مملوء بالصرخات: صرخات المسيحيين وصرخات الأتراك، وتلتمع أمام عيني المسدسات ذوات القبضات الفضية، كريت وتركيا تتقاتلان، تصرخ الأولى: الحرية، فتجيبها الأخرى: الموت، ويمتلئ ذهني بالدم.


إن صرخات الحرية والموت تلك التي سيعود نيكوس ليستلهم منها عنوان رواياته المباشرة عن ذلك الصراع المرير بين الأتراك واليونانيين، رواية الحرية أو الموت، ولكن تتضح لنا هنا نظرة نيكوس للأتراك حيث يقول إنه بالرغم أن للحرب معنى واحدًا هو الصراخ والدم، ألا أن هناك صرخات الأحرار الكريتيين، وصرخات الظلمة الأتراك.

ويوثق نيكوس في مذكراته لسيكولوجية يونانية متأهبة دوماً، تعذبها ذكرى المذبحة، وتنتظر الموت الذي يحدق بها، وفي تلك الصورة بالطبع بينما يلعب اليونانيون دور الشياه، يلعب الأتراك دور الجزار، فيقول نيكوس عن مواطنيه أنهم:

أنصاف مجانين، ربما لأنهم ينعزلون طوال العالم داخل الجدران الأربعة لبيوتهم، فقد هيمنت عليهم قصص الأجداد عن المجازر والحروب وتعذيب المسيحيين، حتى يقف شعر رؤوسهم، فإذا جاء أحد ووقف أمام بيوتهم، فإنهم يقفزون واقفين، وقد صعقهم الخوف، فكيف ينامون ليلاً؟ تظل عيونهم مفتوحة وآذانهم متربصة، إنهم ينتظرون ساعة الشر، التي لابد أن تأتي.

وتتخذ أشكال هذا الصراع صوراً أخرى عند نيكوس يسردها في مذكراته، شهادته الأخيرة قبل الممات، ففي إحدى الأيقونات المسيحية التي رآها صغيراً، تكون كريت هي العذراء المقدسة، ويكون الترك هم الشيطان الأسود، والملاك الأبيض كالثلج هو الملك اليوناني الذي سيقطع ذات يوم كفي تركيا، إن تلك الصورة تعبر ولا شك عن تداخل بين الصراع الهوية الدينية وصراع الهوية القومية عند اليونانيين، فيتخطى صراعهم مع الأتراك أكثر من صراع حول الأرض والوطن، ولكنه صراع للحفاظ على عذراء المسيحية المقدسة من أن تُمس من الشيطان التركي.

يستلهم نيكوس أيضاً الجانب الديني الميثولوجي ويوظفه في سرد صورة مبهرة للصراع ضد الترك وكيف يستمد اليوناني شعور بالهوية ومقاومة تذويبها في وجه العثماني من تلك الميثولوجيا حين يقول: «كلما شحذ الأتراك خناجرهم، وتهيؤوا للانقضاض على المسيحيين، كان القديس ميناس يقفز من أيقونته من جديد: ليحمي سكان ميغالو كاسترو، ولم يكن الأتراك يرونه، لكنهم كانوا يسمعون جواده، وهو يصهل.. ويرون الشرر، الذي تطلقه حوافره، وهي تضرب بالحصى، فيتقوقعون في بيوتهم وقد جمدهم الرعب».

لقد عاش نيكوس كازانتازكي زمن مقاومة كريت في وجه الترك وسعيها الحثيث للحرية، وكان حتماً لتلك الأحداث أن تؤثر على نفسيته وشخصيته وأدبه وتشحنه بالكراهية ضد الترك، كراهية تصل إلى درجة أن يقتله أبوه وأن لا يقع في أيدي الترك فيسرد في مذكراته قائلاً على لسان أبيه، في إحدى ليالي الثورة التي ذبح فيها الجنود الأتراك أهالي القرية:

«إذا حطم الأتراك الباب، ودخلوا فإن في نيتي أن أذبحكم بنفسي قبل أن تقعوا في أياديهم». ستطبع شخصية أبيه على أدبه وسيجسدها في شخصية الكابتن ميخايليس الذي لا يلين أو يهادن في مقاومته ضد الترك، والذي يعجن أولاده بكراهية محضة ضد الترك، ولكن تلك الكراهية الشديدة العمياء سنرى أن نيكوس كازانتازكي سيحاول أن يتغلب عليها في روايته الحرية أو الموت حين تصارع نزعته الإنسانوية شعوره القومي المسيحي الصلب.

الكابتن ميخايليس

تعد رواية الحرية أو الموت في شخصيتها الرئيسة القبطان ميخايليس هي درة أعمال نيكوس في تصوير الصراع اليوناني الترك، ولأن شكل الترك في بقية أعمال نيكوس كان يؤخذ دوراً غير رئيسي في أحداث القصة فقد كانوا دوماً يؤدون أدوار الشر في أعمال نيكوس، أما في رواية الحرية أو الموت ورغم صلابة شخصية القبطان ميخايليس والنبرة الوطنية الحادة التي كتبت بها الرواية، إلا أنها أكثر رواية نيكوس التي تحمل في أسلوبها وتصويرها للترك نزعته الإنسانوية الكونية والتي تصارع نزعته القومية اليونانية، فتلك الرواية وبما سمحت فيه من مساحة للأدوار كبرى بسبب تناولها المباشر للصراع، جعلت الكتاب مرغماً على أن يتعاطف مع شخوصه من الترك ويقدمهم بأسلوب إنساني رمادي خليط من الخير والشر، وهذا ما نراه واضحاً في أنسنة التركي في ذلك المقطع من الرواية:

«وبين الجانبين من المسيحيين، كان الجنود الأتراك يدفنون هم أيضاً موتاهم ويداوون جرحاهم ويفكرون وهم يحدقون في صمت حول نيران المخيم: في زوجاتهم وأطفالهم هناك بعيداً في الأناضول، من يا ترى يحرث الآن حقولهم هناك ويجمع الكروم ويوفر الخبز الأسود لأسرهم؟ كانوا هم أيضاً آدميين..ولم يكونوا أبداً كلاباً كما يصفهم المسيحيون».

ولكن نلاحظ لغة نيكوس المترددة تجاه الترك، حين يتحدث عن الجنود الترك في موضع آخر، فيصورهم كعاجزين عن قتل جواد أميرهم نوري بك، ويصورهم في قمة الإنسانية حين يعاملون جواداً لم يجرؤ أحد منهم على قتله تنفيذاً لوصية القائد، ولكنهم لا يترددون في ذبح رجل يوناني الذي يبدو في الفعل مكافئاً لذبح ثور أو خروف.

يركز نيكوس في روايته ذات الأسلوب القوي المتدفق على كفاح تلك الشراذم من الفلاحين والصيادين والملاحين، المسلحين بالأسلحة البدائية، والثائرين في وجه الإمبراطورية العثمانية، يقارعونها في معارك وحشية، باذلين الجهد والأرواح، وخلال ذلك الإطار الدموي للصورة، توجد العديد من المشاهد الإنسانية الرقيقة، والعرض المسهب المتعاطف لنفسيات الكثير من الشخصيات المختلفة أشكالاً وأعماراً ومذاهب وأجناساً، من ملاحين ومدرسين وقسوس وفلاحين وأتراك ويونانيين ويهود ومسيحيين، فجاءت تلك الرواية دقيقة في وصف فسيفساء كريت أثناء الاحتلال التركي في شخوصها العديدين كالكابتن ميخايليس والعمة كاترينة ومصطفى بابا وأمينه وديمتروس ورمضان وفوتبوس وسليمان، ونوري بك وكوزماس، وكل تلك الشخصيات حية وذات مساحة للتعبير عن ذواتها وعرض مبرراتها وصراعاتها الداخلية، وتقاطعاتها الشخصية مع واقعها السياسي والإجتماعي، حتى تقودنا إلى المشهد الأخير الذي يسأل فيه الكابتن ميخايليس نفسه، حين يسير إلى المعركة الميئوس منها والتي يعرف أنه لن يكسبها، أهي الحرية أو الموت؟

إنها رواية تعبر عن ذلك النوع من التاريخ الذي يصنعه الله والإنسان والشيطان، ويستحوذ على القارئ لأنه يسبغ على الشخصيات حتى في لحظة الموت، انتفاضة الحياة، ولكننا أيضاً لا نغفل فيها لغة الحقد على الترك وشهوة التوق إلى ذبحهم ونشر عظامهم في كل قرية يونانية، كما فعلوا باليونانيين، فتأتي لغة نيكوس في بعض الأحيان في تلك الرواية عند حديثه عن الترك لغة متشنجة تنبض بعداوة وكراهية، وتلحق بالتركي كل الصفات السلبية.

حتى أنهم صلبوا المسيح

في شخصيات رواياته، ما نلاحظه على أدبه أنه حين يهاجم الترك في كثير من المواضع، لا يضفي صبغة ملائكية على اليونانيين أو المسيحيين، فتجد شخصيات أدبه مليئة أيضاً بالأنذال من بني جلدته ودينه، والمتواطئين مع الترك دائماً، وتلك النظرة إلى اليوناني البورجوازي تعبر عن نزعة نيكوس الشيوعية، حيث إنه يصور في رواياته في بعض الاحيان صراعاً ضد العدو الخارجي الممثل في الأتراك، وضد العدو الطبقي الممثل في الأغنياء ولو كانوا يونانيين، وضد العدو الداخلي الممثل في رجال الدين ولو كانوا مسيحيين.

يتخذ الأتراك في أدب نيكوس عدة صور تتشارك كلها في أنها تأتي من قلم غاضب وساخط وكاره، ففي رواية الحرية أو الموت نجد التركي علي آغا: «لزجاً كالقوقع، نصف رجل ونصف امرأة، يقضي أمسياته مع جاراته اليونانيات، ويشاركهن الثرثرة». أنها محاولة لنزع الرجولة وصفاتها عن التركي ومحاولة لتخنيثه، وستكون ثيمة متكررة في أدب نيكوس دائماً، تشكل نوعاً من أنواع الاستعلاء اليوناني على التركي.

ويتقدم الحاكم التركي في أدب نيكوس كازانتاكي في رواية المسيح يصلب من جديد كمثال للمجون والفساد الخالص، فهو غارق في الخمر والقيء، مرائي ومدعي للتقوى حيث يرفض أكل لحم الخنزير علناً، ولكنه مدمنه سراً، بل ويذهب نيكوس إلى أبعد من هذا ويصور الحاكم التركي وكأنه المسئول عن صلب المسيح، حيث يلعب دور بيلاطس النبطي الذي سلم أهل القرية تحت الالحاح جسد المسيح\مانولي ليؤخذ إلى الكنيسة ويقتل.
ولكن ما نلاحظه على نيكوس كازانتازكي في تصوير الترك، أنه لا يمس عقيدتهم الإسلامية بتهكم أو ازدراء أو انتقاد، وعند تصوير مشاهد الشخصيات التركية حين تقوم بإحدى الشعائر الدينية، فيبدو قلم نيكوس قمة في التعاطف والروحانية في وصف ذلك المشهد.

ربما تتوافق تلك النظرة مع النزعة الإنسانوية لدى نيكوس كازانتازكي، والتي تقدم مانيفستو مناهضاً للحرب ومناهضاً للأيدولوجيا وللدم ولكل شيء على لسان زوربا اليوناني في رواية نيكوس الأشهر حين يقول زوربا: «إنها أحجية عظيمة، فإذا أردنا الحصول على الحرية في هذا العالم القذر، يجب أن نقوم بهذه الجرائم، وهذه الخدع القذرة، أليس كذلك؟».

وفي العلاقة المتوترة التي تتحول لصداقة بين نوري بك والكابتن ميخايليس في رواية الحرية أو الموت، نجد أنه يمكن التوفيق بين اليونان والترك، بين محمد والمسيح، فقط إذا دعا إلى لغة الحوار، وإذا توقف رجال الدين عن إشعال فتيل الحرب والتحريض على القتل.

إن نيكوس كازانتازكي كاتب ذو روح صوفية، وبالتأكيد كان لأدبه محاولة موفقة في سرد الصورة العثمانية في الذهنية اليونانية، حيث إنك تجده في أدبه مشتتاً بين سرد الحقيقة التي عاشها، والكره الذي رضعه صغيراً، والولع بالحرية الذي تاق إليه، ولكن تجد في نفس الوقت تغلب عليه نزعته الصوفية الإنسانوية ليحاول أن يوفق بين الترك واليونان في مزيج إنساني واحد، يمكن التفاهم والحوار بينهم، ولهذا جاء أدب نيكوس كازانتاكي خير معبر.