نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 يفتح خفر السواحل الروسي نيرانه على ثلاث سفن تابعة للبحرية الأوكرانية حاولت أن تتسلل من البحر الأسود إلى بحر آزوف عبر مضيق كيرتش ليقتل 6 بحارة، ويحتجز 24 آخرين. المضيق استغلته روسيا لإنشاء جسر بري يمر من خلاله بعد احتلالها لشبه جزيرة القرم ثم بعد إتمامه في مايو/ آيار 2018 تم الاتقاق نظريًا على أن يكون المضيق وبحر آزوف مياهًا إقليميةً لروسيا وأوكرانيا، لكن الحادثة الأخيرة تقول إن كل ما يقع في مرمى نظر فوهات السلاح الروسية هو روسي.

شدٌ وجذبٌ بين الطرفين، روسيا تقول إن السفن لم تُنبئ عن قدومها ولم تستجب للتحذيرات الروسية بعدم الاقتراب. أوكرانيا تروي أنها أرسلت مُسبقًا إخطارًا للجانب الروسي باقتراب زوارقها، لكن الروس آثروا عدم الاستماع. غير أن البحرية الأوكرانية عادت لتُلمح أنها لم تطلب الإذن لأن المياه ملكٌ لأوكرانيا لا روسيا، وأنها؛ أي البحرية الأوكرانية، ضاقت بعمليات التفتيش الروسية على الجسر البري التي تحجز بعض المركبات على الجسر لمدة سبعة أيام قبل أن تسمح لها بالمرور، لذا أرادت أن تقوم بخطوةٍ جريئةٍ تُثبت بها أحقيتها بمضائقها.

اقرأ أيضًا: المضائق: حرب التحكم في مفاصل العالم

أوكرانيا مزعجة لبوتين ولا تريد الانضمام تحت لوائه، بل وقّع الرئيس الأوكراني «بترو بوروشينكو» في 2014 اتفاقيةً تجاريةً مع أوروبا قائلًا بأنه يتمنى أن تصبح بلاده ولو ليومٍ واحد بلدًا كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي. وكذلك فإن أوكرانيا وما ينشب بينها وبين روسيا من توترات دائمًا ما تكون هي السبب الأوروبي لوضع مزيد من العقوبات على الكاهل الروسي.

إن الغرب يحاول منذ عقود، إن لم يكن منذ قرون، تقويض مقدرات روسيا. وإن لم تكن هناك أوكرانيا، لاخترعوا مبررًا آخر لاحتواء روسيا بالعقوبات. إن سياسة الاحتواء لم تُخترع بالأمس، وقد طُبقت على بلادنا لسنوات عديدة، في كل مرة رأى أحدهم أن روسيا أصبحت قوية ومستقلة، عادوا إلى هذه الأدوات لتطبيقها.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

دبلوماسية الحمّامات العامة

الحادث مثل حلقة جديدة في مسلسل الصراع الروسي الأوروبي. روسيا لا ترى نفسها دولةً في عالم، بل عالمًا موازيًا يضطر إلى التقيد بالمساحة الجغرافية للكرة الأرضية. لذا فلا غرابة أن ترى روسيا دول أوروبا جميعها، أكثر من 48 دولة، كدولة واحدة فقط. كنقطةٍ قد تبدو هامشيةً لكننا نراها أساسيةً في التعامل الروسي مع بقية العالم، وفي التعامل الشخصي لفلاديمبر بوتين، الرئيس الروسي منذ عقدين، مع رؤساء العالم، أن روسيا ترى أوروبا متخلفةً حضاريًا ولم تنهض إلا بالتطفل على الحضارة الروسية.

رد الفعل الدولي تجاه الحادثة يمكن تصنيفه إلى مستويين؛ الأول هو المستوى الانفعالي المباشر وقادته كندا بتصريحها بضرورة وقف العدوان الروسي على الموانئ الأوكرانية. نهجت جورجيا وليتوانيا نفس النهج، إذ أكدتا أن ما قامت به روسيا هو عمل عداوني وانتهاك صارخ للقانون البحري الدولي يهدد أمن المنطقة بأسرها.

أما المستوى الثاني من التصريحات فحمل لواءها الاتحاد الأوروبي، هي التصريحات الدبلوماسية التي تقف في المنتصف. فحلف الناتو والاتحاد الأوروبي دعوا جميع الأطراف إلى ضبط النفس، مع التأكيد بالضرورة على سيادة كل دولة على أراضيها وحرية الملاحة في المياه الدولية. حتى بولندا شديدة العداء لروسيا اكتفت بتصريح مماثل، أما فرنسا ماكرون فتبدو مهتمةً بمصير المضيق أكثر من أطراف الأزمة. في 2 يناير/ كانون الثاني 2019 ناقش ماكرون مع نظيره الروسي كيفية التعامل الروسي مع «الاستفزاز» الأوكراني.

بالجمع بين الفقرات السابقة نرى التعاطي الروسي مع كل هذا القلق باردًا تمامًا. فالروس ينظرون لأوروبا كمُدعيي حضارة لا يحق لهم أن يطالبوا روسيا بها. فبينما كانت العمليات الجراحية تتم دون تخدير في أوروبا كانت روسيا هي أول من اخترع التخدير، وأن روسيا هي من اخترعت الآليات الزراعية القوية ليسرقها الأوروبيون لتتحول عندهم إلى دبابات مُقاتلة، وأن الغازات السامة هي اختراع أوروبي خالص، بينما اكتفت روسيا باختراع الأقنعة الواقية.

اقرأ أيضًا: كيف يحدد الطموح الجيوسياسي السياسة الروسية؟

بل تمتد معايرة المواقع الروسية للأوروبيين إلى ذكر النظافة الشخصية والحمامات وصناعة الصابون. فالروس يمنّون على أوروبا أنهم من أدخلوا إليهم أسرار صناعة الصابون، ثم بناء الحمامات عند زيارة القيصر بطرس الأكبر لأمسترادم، ثم توسع الأمر بعد أن سيطرت روسيا على مناطق واسعة من أوروبا بعد هزيمة نابليون بونابرت.


أوروبا تدفع ثمنًا لا تريده

أوروبا هي الحلقة الأضعف في الصراع الروسي الأمريكي. فبينما تكتفي الولايات المتحدة بما تنتجه من النفط، وتُعتبر وفق الإحصاءات الرسمية أكبر دولة منتجة للنفط متجاوزةً المملكة العربية السعودية، لذا فيمكنها فرض عقوبات على روسيا متى أرادت دون أن تتأثر بها. أما أوروبا الضعيفة تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، ألمانيا مثلًا تستمد نسبة 40% من احتياجاتها النفطية من روسيا. فبينما ترى الولايات المُتحدة أنها توجع روسيا حين تفرض عليها عقوبات تؤدي إلى انهيار الروبل الروسي، فإن روسيا أيضًا يمكنها أن تنقل الضرر إلى الجانب الأوروبي.

لذا تحاول أوروبا خوض صراعها بهدوء مع الدب الروسي دون الاعتماد على الجانب الأمريكي. حتى حين خشي باراك أوباما، الرئيس الأمريكي الأسبق، من ضجر الحلفاء الأوروبيين من العقوبات على روسيا فوعد بتوريد كل احتياجات أوروبا من النفط، أثبتت الدراسات الاقتصادية أن الولايات المتحدة لا تمتلك البنية التحتية التي تُمكنها من الوقاء بهذا الوعد. وإذا وُجدت البنية التحتية فأمريكا ستوفر 118 مليار متر مُكعب فقط، هو أقل بكثير مما توفره روسيا لأوروبا.


علاقة روسيا بأوروبا

2000 إلى 2005

صدق أو لا تصدق، في بدايات حكم بوتين كان يرى في الاتحاد الأوروبي شريكًا مهمًا وحليفًا سياسيًا، كان ذلك على نهج سلفه بوريس يلتسين، أول رئيس لروسيا بعد السوفييتية. لكن بعد غزو العراق في 2003 بدأ بوتين بالحديث عن ضرورة أن تصبح روسيا قويةً لتواجه أي اعتداء محتمل. استنتج بوتين نظريته من قوله بأن الاتحاد الأوروبي هو من دعم «الثورات الملونة» في جورجيا 2003، أوكرانيا 2004، ثم قيرغيزستان 2005.

2006 إلى 2011

من بدايات 2006، منتصف الولاية الثانية لبوتين، بدأت رؤية بوتين في وضع الولايات المتحدة وأوروبا وحلف الناتو جميعهم في خانة أعداء روسيا. وانتقد بوتين في 2007 النظام أحادي القطب الذي تسعى الولايات المتحدة لفرضه على العالم، قائلًا إنها تجاوزت حدودها في جميع المجالات. هذا التحول دخل المرحلة الجدية بشن روسيا حربها على جورجيا، ثم ما تبعها من تعليق الاتحاد الأوروبي لاتفاقية التعاون بين موسكو وبروكسل.

ثم في يناير/ كانون الثاني 2010 أنشأت روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان الاتحاد الجمركي الأوروبي ليحل محل الاتحاد الأوروبي .

2012 إلى 2018

عاد بوتين إلى الرئاسة في 2012 وهو يرى أن المظاهرات التي ضجت بها روسيا احتجاجًا على انتخابات 2011 البرلمانية المزورة ليست سوى مؤامرة أوروبية على روسيا. فاض كيل بوتين حين انتفض الأوكرانيون على رئيسهم الفاسد وداعم بوتين بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. الأمر الذي رآه بوتين أيضًا مؤامرةً من الاتحاد الأوروبي، لذا لم يتردد في تبني خطاب أشد صراحةً وأكثر عدوانيةً تجاه كل العالم. وكرر بوتين أنه سيحمي سيادة روسيا حتى لو تدخّل في كل دول الجوار.

ثم جاء التدهور الأكبر بقضية تسميم الجاسوس الروسي الأخير سيرجي سكريبال في بريطانيا مارس/ آذار 2018.

اقرأ أيضًا:ألكساندر ليتفينينكو: العميل المزدوج الذي فضح ألاعيب بوتين


الحل

نرى أن أمام الاتحاد الأوروبي في تعامله مع الروس أن يختار نهجًا واضحًا من اثنين؛ القوة أو الصداقة. القوة في أن يتحد الاتحاد الأوروبي عند تعامله مع الروس ليبدو كقوة عسكرية موحدة هي بالتأكيد أكبر من القوة الروسية، حينها يمكن للاتحاد أن يكون حازمًا بصورة كافية في مواجهة الرعونة الروسية التي تظهر من حين لآخر.

الاختيار الثاني أن يدرك الأوروبيون أن روسيا مختلفةٌ عن بقية الدول، وأن التأثير في سياساتها الخارجية سيكون عبر صداقتها وبناء روابط قوية معها كلما أمكن، بحيث تتقاطع المصالح الأوروبية مع روسيا فتكون مصالحهما مشتركة، لعل تراكم آثار هذا التعاون يعمل على تشذيب أنياب الدب الروسي وجعله أكثر قابليةً للترويض والمساءلة.