لا يزال الروائي المصري الكبير خيري شلبي حاضرًا بل ومؤثرًا في الأدب العربي بصفة عامة، وفي الأدب المصري والرواية المصرية بشكلٍ خاص، إذ إنه يُعد بجدارة واحدًا ممن أرسوا دعائم «الواقعية السحرية» في الرواية المصرية بما تركه من روايات تنتمي إلى هذا التيـار الذي التفت إليه النقاد مع صعود أدب أمريكا اللاتينية، ولكن القارئ المدقق والمتابع للإنتاج الروائي العربي والمصري لا شك سيجد أثرًا واضحًا لهذا التيار في الأدب العربي، لا سيما أنه مستمدٌ في الأساس من التراث العربي من حكايات «ألف ليلة وليلة» والقصص الشعبي والغرائبي الذي زخرت به العديد من كتب الأدب القديم.

من هذا التراث العربي الأصيل، ومن حكايات البسطاء والأجداد في ريف القرية المصرية، تشكّل وعي الطفل خيري شلبي المولود في قرية شباس عمير التابعة لمحافظة كفر الشيخ، وسرعان ما لاحظ فيه والده ومعلموه اهتمامه وولعه بقراءة الكتب والحكايات والسير الشعبية التي كانت شائعة في قريته منذ صغره، وكان لهذه التنشئة الخاصة أثرها البالغ في بداية تفتح وعيه وجمعه للحصيلة اللغوية التي بنى من خلالها عالمه الأدبي الخاص.

لم يكن ذلك الولع والاهتمام مقتصرًا على فترة الطفولة، بل كان اهتمام خيري شلبي بالتراث والمخطوطات والنوادر شغفًا أساسيًا عنده، ظهر ذلك في عدد من المخطوطات والمسرحيات النادرة التي اكتشفها وأعاد نشرها للمكتبة العربية تزامنًا مع عمله في «البرنامج الثاني/الثقافي» في الإذاعة المصرية،  إذ حقق ونشر مسرحية مصطفى كامل «فتح الأندلس» ومسرحية «الراهب» للشيخ أمين الخولي، كما كشف النقاب عن أوراق محاكمة طه حسين التي كتبها النائب العام محمد نور الذي حقق في قضية كتاب الشعر الجاهلي، وغيرها من المخطوطات والنوادر التي كان يكشفها ويعيد نشرها وتحقيقها في فترة عمله في السبعينيات.

من السنيورة إلى إسطاسية .. تاريخ روائي حافل

في عام 1964، نشر خيري شلبي أولى محاولاته السردية، وكانت مجموعة قصصية باسم «السنيورة» التي تعد نوفيلا وعددًا من القصص الأخرى، ومن تلك المجموعة أدرك الجميع أنهم إزاء موهبةٍ قصصية فريدة، إذ حملت «السنيورة» تقريبًا كل ملامح عالم خيري شلبي وخصوصيته، ففيها نجد وصف الريف بطريقة فريدة، كما نجد طريقة الحكي التي تمزج الواقعي بالغرائبي المتخيّل، تلا ذلك روايته الأولى «الأوباش» عام 1978 التي يحكي فيها مأساة عمال التراحيل في الريف المصري وما يلاقونه من صعوبات ومشكلات، والتي استطاع من خلالها أن يرسّخ حضوره كروائي كبير في جيل الستينيات.

كتب خيري شلبي بعدها عددًا كبيرًا من الروايات، وأصبح علامة مميزة وفارقة في الأدب المصري، بل إن البعض يعد ثلاثيته «الأمالي» واحدة من الملاحم الروائية الفريدة في أسلوبها والنادرة في وجودها في الأدب المصري المعاصر، كما ظهر أثر التراث العربي والسير الشعبية على عدد من رواياته التي استلهم طريقة القص الشعبي فيها وصاغ حكايات واقعية من نسجه الخاص، كما فعل في «منامات عم أحمد السماك» و«رحلات الطرشجي الحلوجي» وغيرها من الأعمال الروائية المتميزة.

كان الناس والبسطاء اهتمام خيري شلبي الأساسي في حياته وكتابته، ومحاولة رصد تفاصيل حياتهم البسيطة وما فيها من تفرد وإعجاز، برز ذلك من خلال رصده لهم بشكل واسع في عدد من الأعمال الروائية الهامة، بل ورسمه لشخصيات مركزية لا تُنسى مثل «صالح هيصة» الذي غدا أيقونة ورمزًا للبلطجي المصري خفيف الدم في كل زمان ومكان، كما عبّر عن نفسه وعمن حوله جيدًا في روايته «موال البيات والنوم».

إلى جانب الروايات، كتب خيري شلبي عددًا من الكتب التي رصد فيها علاقته وحكاياته مع أشخاصٍ أثروا في حياته سواء كانوا من كبار الفنانين والأدباء المشهورين، أو المعلمين والبسطاء في كتب «أنس الحبايب» و«صحبة العُشاق» و«كتب وناس».

المطلع على نتاج خيري شلبي الروائي والأدبي، يكتشف غزارة في إنتاجه ربما لم تتوافر عند غيره من جيل الستينيات، ولعل ذلك ما ميزه عنهم، بالإضافة إلى خصوصية أسلوبه وفرادته، كل ذلك كان كاشفًا لولعه الأساسي بالكتابة منذ تعرّف عليها، وهو دفعه لكتابة أكثر من نوعٍ أدبي، بل وما جعله يبتكر فنًا خاصًا في الكتابة الصحفية عن المشاهير وهو فن البورتريه الأدبي الذي عرف وتميز به، وجمعه في كتاب صدر في جزئين عن دار العين بعنوان «عناقيد النور» و«برج البلابل» الذي قال عنه الفنان حسين بيكار:

لقد صحح لي مفهومًا خاطئًا كان غائرًا في أعماقي حتى النخاع، وهو أن البورتريه لا يتحقق إلا رسمًا أو نحتًا، ولكنه نسف هذا المعتقد الخاطئ في لحظة عندما رأيته يرسم بالكلمة وكأنه ممسك بريشة بارعة ينقل أدق التفاصيل التشريحية والنفسية، ويغوص بها في أعمق الأعماق ليبرز أدق المشاعر التي يحتكرها الباطن ويعتبرها من ممتلكاته الخاصة.

الجميل في كتابة خيري شلبي لهذه البورتريهات أنه كان يجمع فيها باقتدار بين وصفه الدقيق لملامح وجه وشخصية من يتحدث عنه وبين سيرة حياته ودوره في الحياة، يكتب عن توفيق الحكيم الذي سماه «المسامر الأعظم» فيقول:

 طويلٌ عملاق كنهر النيل يتخذ من الوادي سريرًا وثيرًا يتقلّب فوق حشاياه، أقصد أمواجه الشبيهة بالقطن المندوف. يتوكأ على عصا من فروق شجرةٍ نيليةٍ عتيقة الصلابة .. وجهه في مجمله انعكاسٌ لأرض مصر المنبسطة، السمراء ذات النفس الأخضر، وبحر سمائها الأزرق، وعيون نيلها العسلية، وتدفق القمح في شرايين البشرة الخمرية، واستطالة المصاطب تحت شبابيك البيوت من الداخل ومن الخارج إغراء للسائرين أن يجلسوا ليتشربوا أنفاسهم فلا داعي للعجلة.. ترى وجه الحكيم فيزايلك الشعور بالغربة لكن يحل محله الشعور بالرهبة والحميمية والشوق لمجالسته ولو لدقائق معدودة، جاذبية الحكيم أقوى من المغناطيس لا تقارن إلا بالجاذبية الأرضية نفسها، وأنت إذا عرفته واقتربت منه يستحيل عليك الطيران بعيدًا أو التحليق في فلكه… 
عناقيد النور _خيري شلبي

روايات خيري شلبي إلى الدراما  

لاشك أن اسم «فاطمة تعلبة» من أشهر أسماء بطلات المسلسلات الدرامية في العصر الحديث، وهي البطلة التي أجاد رسمها ووصف تفاصيلها خيري شلبي في روايته القصيرة «الوتد»، والتي تحوّلت إلى عملٍ درامي شهير بنفس الاسم بطولة الفنانة هدى سلطان وأخرجها أحمد النحاس عام 1996، كما أخرج له محمد راضي مسلسل «الكومي» عام 2001 عن ثلاثية الأمالي بطولة ممدوح عبد العليم وإلهام شاهين، وربما لم تحظَ بنسبة المشاهدة العالية التي حظيت بها الوتد، وكذلك تم تحويل روايته «وكالة عطية» إلى مسلسل عام 2009 بطولة حسين فهمي، كتب له السيناريو وأخرجه المخرج الكبير رأفت الميهي.

وعلى شاشة السينما كتب بشير الديك سيناريو فيلم «الشطار» عن رواية خيري شلبي، وأخرجه نادر جلال وكان من بطولة نادية الجندي عام 1993، كما كتب المخرج داوود عبد السيد سيناريو «سارق الفرح» من قصة خيري شلبي بنفس العنوان وأخرجها للسينما عام 1995 بطولة ماجد المصري ولوسي. ولا شك أن التفاصيل التي كتبها في كل تلك الأعمال الدرامية أدبيًا تبقى أكثر جمالاً وثراءً من الأعمال المنقولة على الشاشة مهما كانت محاولات المخرجين لاستلهام روح النص وحالته.

نصائح عم خيري للكتاب الشباب

كان خيري شلبي واحدًا من الأدباء شديدي الاهتمام بالقرب من الكتّاب الشباب، حريصًا على الاطلاع على الإنتاج الأدبي الشبابي لا سيما ذلك الذي بدأ ينتشر ويتسع في أواخر أيامه مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت أواخر 2008 وما بعدها في حوارٍ خاص له مع الروائي أحمد العايدي.  

 يرى خيري شلبي أنه على الكاتب الشاب ألا يتعجل في النشر، وأن يكدح في الحياة قدر ما يستطيع، ويواجه المشكلات والصعوبات بنفسه، ويعمل ويودع الأناقة وحياة الرفاهية، إذ يرى أن الرفاهية مرض قاتل للجنس البشري عمومًا، كل ذلك حتى يتمكن الكاتب من الوصول إلى ما يسميه الحسن البصري بالعقل المكتسب الذي لا يمكن الوصول إليه وتنميته إلا بخبرات الحياة المتنوعة المختلفة، وكلما قوي العقل المكتسب من العقل الغريزي الفطري وصل الإنسان للصورة الكاملة التي سماها الغرب فيما بعد “سوبر مان”. كما كان رافضًا لفكرة حفلات التوقيع والندوات المتعددة التي يقوم بها الكتاب الشباب لكتبهم كنوعٍ من الدعاية لإنتاجهم، إذ كان يرى أن الكاتب كلما قلل من هذه الندوات والمناقشات كلما كانت موهبته أكبر وأكثر ثراءً على خلاف الشائع.   

 الكتابة حتى الموت

من ريف مصر إلى مدنها، يلتقط القصص والحكايات، ويعيد صياغتها في كتابته ورواياته، يصوغ عالمًا فريدًا يمتلكه، ويجعل الناس والقراء مشغولين به وبالبحث عن أصوله وبداياته، حائرين في تفاصيل ذلك العالم التي تبدو قريبة وغريبة في الوقت نفسه، استطاع طوال عمره أن يكون مخلصًا للحكاية أولاً وللكتابة بعد ذلك، في كل جلساته ومسامراته، تجد الحكايات تقفز بين طيات الكلام، وتجد معها مرحًا لا ينتهي ووجهًا بشوشًا لا ينطفئ.

تحكي زوجة الأديب الكبير الراحل خيري شلبي  لحظة وفاته فتقول إنه كان منكفئًا على مكتبه في الخامسة صباحًا يكتب، ودخلت عليه تسأله أن تعد له كوب اللبن الذي اعتاد أن يشربه في هذا الوقت، فطلب منها أن تؤجله قليلاً فلمّا عادت إليه وجدته قد فارق الحياة! 

رحم الله خيري شلبي الذي عاش حياته بجوار البسطاء والمهمشين، واستطاع أن يعبّر عنهم ويرسم حياتهم بصدقٍ وواقعية شديدين، وأن يبقى حتى آخر لحظة في حياته مخلصًا للكتابة الفريدة، ورائدًا حقيقيًا من رواد الرواية المصرية المعاصرة.