حكاية أولى

في إحدى حلقات المسلسل الأمريكي الشهير «Sex And The City»، ظهر شاب أبيض طويل ووسيم في دور صغير ﻻ يتجاوز بضعة مشاهد. في عام 2009، وبعد 10 سنوات على ظهوره الأول، سيشارك هذا الشاب في بطولة اثنين من أنجح أفلام العام على المستوى التجاري، وبعد عامين سيقدم بطولته المنفردة الأولى في فيلم متواضع النجاح والمستوى الفني.

بعد عامين آخرين سيتم ترشيح هذا الشاب لجائزة الأوسكار لثلاث سنوات متتالية، وسيتلقى ترشيحًا رابعًا بعد 3 سنوات أخرى. بطل هذه الحكاية هو الممثل الأمريكي برادلي كوبر، الذي قطع رحلة طويلة من الأدوار التجارية البسيطة المعتمدة على وسامته وحدها، إلى الأدوار الفنية المركبة المعتمدة على موهبة اجتهد صاحبها في شحذها.

حكاية ثانية

في عام 2003 تخرج الممثل المصري أحمد مكي من معهد السينما قسم الإخراج، وفي عام 2005 سيقوم بتحويل مشروع تخرج، وهو فيلم قصير بعنوان «الحاسة السابعة»، إلى فيلم طويل بنفس الاسم. في العام التالي سيشارك في بطولة سيت كوم «تامر وشوقية» بشخصية هيثم دبور التي لاقت قبولًا لدى الجمهور فقدمها مرة أخرى في فيلم عادل إمام «مرجان أحمد مرجان» في عام 2007.

في العام التالي سيتخلى مكي عن تخصصه (الإخراج) ويبدأ بطولته المنفردة الأولى بفيلم حمل اسم الشخصية نفسها، ثم في العامين التاليين سيقدم 3 من أنجح أعماله هي فيلم «طير انت» عام 2009، ومسلسل «الكبير أوي»، وفيلم «ﻻ تراجع وﻻ استسلام» عام 2010.

في مقابلة تلفزيونية تسأل المذيعة مكي عن سر هذا النجاح اللافت، فيجيبها بيقين تام أن السر في رؤية فريق العمل، وليس النجم الأوحد سواء كان الممثل أو المخرج أو المؤلف.

أما آخر أفلام مكي فكانت قبل 6 سنوات، «سمير أبو النيل» الذي لم يلق النجاح اللافت ﻻ على المستوى التجاري أو النقدي. سيواصل بعدها إصدار أجزاء متتالية من مسلسله الناجح «الكبير أوي» التي سيتقلص نجاحها مع كل جزء جديد، ثم في عام 2017 سيقدم آخر أعماله «خلصانة بشياكة» الذي حاول فيه أن يخرج من منطقته الآمنة لكنه يفشل مرة أخرى في الاقتراب من نجاح أعماله الأولى.

حكاية ثالثة

حكاية الممثل المصري أحمد حلمي مع الثانوية العامة هي من أشهر حكايات الوسط الفني، وكذلك حكاية تحوله من تقديم برنامج للأطفال على الفضائية المصرية، إلى نجم شباك، هي أيضا من الحكايات الشهيرة ذات الطابع الرومانسي.

امتدت هذه الرحلة 10 سنوات، من بداية التسعينيات إلى بداية الألفية الجديدة عندما قدم حلمي أول بطولة منفردة في فيلم «ميدو مشاكل» عام 2003، لينطلق بعدها في مرحلة جديدة أخذت منحنى صاعد اتسعت معها قاعدة حلمي الجماهيرية فيلما بعد فيلم.

استمرت المرحلة الجديدة 10 سنوات، بدأ بعدها في مرحلة ثالثة بدأ فيها المنحنى في الهبوط بشكل واضح، ولكن دون أن يترتب على ذلك خسارة لافتة في القاعدة الجماهيرية، بل إن فيلمه قبل الأخير «لف ودوران» حقق نجاحا تجاريا ﻻفتا واعتلى قمة إيرادات السينما المصرية في حينه.

هذا العام يستكمل أحمد حلمي مرحلته الثالثة بفيلم «خيال مآتة» الذي قوبل باستياء واضح سواء على المستوى النقدي أو الجماهيري، وهو الاستياء الذي يراه حلمي وصناع الفيلم مؤامرة حيكت ضدهم.

ما القاسم المشترك بين هذه الحكايات الثلاث؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في السطور القادمة.

تنويه: المقال ﻻ يتضمن أي حرق لأحداث الفيلم

بماذا يخبرنا الإعلان الدعائي

من خلال الإعلان الدعائي لفيلم «خيال مآتة» نعرف أن أحمد حلمي يقدم شخصيتين، شخصية الجد، وشخصية الحفيد. قام الجد في شبابه بسرقة بروش الست أم كلثوم، وهناك كيان ما يحاول الاستيلاء على هذا البروش لبيعه، ومن ثم يلجأ الجد إلى الحفيد لمواجهة هذا الكيان والحفاظ على البروش.

بمجرد طرح الإعلان الدعائي للفيلم بدأ المشاهدون في الربط بينه وبين فيلم أقدم لحلمي هو «كده رضا»، ليس فقط لتشابه الأبطال المشاركين منة شلبي، وخالد الصاوي، ولطفي لبيب، ولكن أيضا ﻷنه الفيلم الوحيد الذي قدم من خلاله حلمي أكثر من شخصية، وهي التيمة المحببة لنجوم السينما المصرية على مدار تاريخها، فلا نكاد نجد ممثل كوميدي لم يلجأ لهذه التيمة ولو مرة واحدة على الأقل في رحلته الفنية.

في هذا الفيلم يواصل حلمي التعاون مع المخرج خالد مرعي الذي قدم معه عدد من أنجح أفلامه مثل «آسف على الإزعاج»، و«عسل أسود»، و«بلبل حيران»، و«لف ودوران». وبعيدا عن حلمي قدم مرعي مجموعة من المسلسلات التلفزيونية الناجحة مثل «شربات لوز»، و«السبع وصايا»، و«العهد».

يتعاون حلمي للمرة الأولى مع السيناريست عبد الرحيم كمال. بدأ عبد الرحيم كمال رحلته الفنية في بداية الألفية بالمشاركة في كتابة سيت كوم «شباب أون ﻻين»، ثم قدم للسينما أول أفلامه «على جنب يا أسطي»، تبعه المسلسل الناجح «الرحايا» مع النجم نور الشريف، ثم مسلسل «شيخ العرب همام» مع النجم يحيى الفخراني الذي سيكرر التعاون معه مرة أخرى في مسلسل «الخواجة عبد القادر» الذي مثل الانطلاقة الحقيقية لعبد الرحيم كمال.

بعد ذلك سيقدم كمال مجموعة من الأعمال التي ﻻقت نجاحا جماهيريا متواضعا، وهجوما نقديا متزايدا بدأها بفيلم «الكنز» بجزئيه، ثم مسلسلي «أهو ده اللي صار»، و«زلزال»، وأخيرا تتلاقى انتكاسة عبد الرحيم كمال مع انتكاسة أحمد حلمي في فيلم «خيال مآتة»، وهذا مؤشر هام في قراءتنا للفيلم ومحاولة صناعه إرجاع تأزمه الجماهيري الواضح في أقوى مواسم العام، إلى مؤامرة وهمية.

التوليفة الآمنة

كلنا نعرف الأنواع الفيلمية الشهيرة كفيلم الجريمة، وفيلم الحركة، والفيلم الرومانسي، والفيلم الكوميدي..إلخ. ولكن هل تعرف من أين جاءت هذه التصنيفات؟

مفهوم «النوع» هو في الأصل مفهوم أدبي استعارته السينما في بدايتها المبكرة. ومع التوسع في صناعة السينما وتضخم الإنتاج ظهرت الحاجة إلى مثل هذه التصنيفات من أجل تعريف الأفلام والتفريق بينها، ومع بداية القرن العشرين أصبحت الأنواع وسيلة تفاهم مختصرة بين موزعي الأفلام وأصحاب دور العرض.

كانت الأنواع الفيلمية هي عبارة عن توليفة محددة من العناصر الفنية أثبتت نجاحها في جذب الجمهور ومن ثم لجأت الاستديوهات إلى إعادة إنتاجها مرة أخرى بهدف تضخيم العائد الربحي.

على مدار العقود القليلة الماضية أصبحت السينما المصرية تعتمد بشكل واضح على نفس المبدأ الذي قامت عليه الأنواع وهو «التوليفة»، إذ يتقصى المنتجون والنجوم عوامل الجذب المباشرة في الأعمال الناجحة ويسعون إلى إعادة تقديمها مرة أخرى، وثالثة، ورابعة، حتى ينعدم مردودها التجاري، ومن ثم يجري البحث عن توليفة جديدة.

يرتبط مفهوم التوليفة الآمنة بمنهج آخر تتبعه السينما المصرية على المستوى الإنتاج، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «منهج النجم». السينما في كل العالم هي صناعة كبيرة تقوم على التكامل بين عدد كبير من فرق العمل المتخصصة، أما في مصر فالعملية كلها مآلها إلى النجم، فهو الذي يقوم باختيار النص، واختيار المخرج الذي سيقوم بتنفيذ رؤيته الخاصة لتوليفته الآمنة، وبالتبعية هو الذي يتحكم بشكل كبير في سير العملية الإنتاجية.

الاستسهال سيد الموقف

بعد الإعلان عن طرح فيلم «خيال مآتة» قبل أيام من عيد الأضحي، تأخر العرض لثاني أيام العيد، وهو ما أثر بشكل واضح على إقبال الجمهور على الفيلم، خاصة في ظل المنافسة القوية مع فيلمي «الفيل الأزرق 2»، و«وﻻد رزق 2». ولكن المؤشر الهام في هذا التأخير هو تأخر إخراج النسخة النهائية من الفيلم حتى قبل أيام قليلة من طرحه، وهو ما أدى بالتبعية لخروج الفيلم بهذا المستوى الضعيف.

من خلال الإعلان الدعائي يمكننا أن نقف على عدد من العناصر الهامة التي ساهمت في خروج الفيلم بهذا الضعف، بدءا من الحبكة الرئيسية التي تقوم على تيمة الشبيه والتي سبق تقديمها كثيرا في السينما المصرية، وتفتقر في «خيال مآتة» إلى أي تجديد يذكر.

المعالجة السينمائية ليست أفضل حالا من الحبكة، إذ أنها تقوم بالأساس على فلسفة الوازع الأخلاقي من خلال التناقض بين شخصيتين أحدهما تمارس فعل غير أخلاقي، والأخرى تضطر لممارسة نفس الفعل بدافع نبيل ومثالي، وهو ما ترك أثره بالتبعية على رسم الشخصيات والتي ﻻ تتناسب قراراتها الدرامية مع تركيبتها، ويأتي تحولها الدرامي في الفصل الأخير على قدر كبير من التناقض أيضا، والتفسير البسيط الذي يقدمه الفيلم لهذا التحول هو أيضا تفسير أخلاقي ﻻ يخلو من سذاجة بادية.

إذا انتقلنا إلى الأداء التمثيلي سنجد أن كل أبطال الفيلم في أسوأ حالاتهم الفنية، وبشكل خاص أداء أحمد حلمي لشخصية الحفيد والذي جاء مطابقا لأدائه في أغلب أعماله. الأداء التمثيلي بالطبع انعكاس للمعالجة الضعيفة ورسم الشخصيات غير المحكم، يضاف إلى ذلك الحوار الذي جاء مزيجا من الحكم البالية وأحيانا غير المنطقية، والكوميديا اللفظية شديدة السطحية التي تستدر النفور وليس الضحك.

من ذلك مثلا نجد في الإعلان الدعائي جملة مثل: «لما بتيجي تعمل خير، بتضطر تعمل حتة شر صغيرة» وهي جملة مفعمة بالتناقض الذي يفرغها تماما من معناها، أو جملة: «على كده بقي لما غنت أكاد أشك فيك، كانت شاكة فيك انت»، ﻻ نعرف أي رد فعل انتظره عبد الرحيم كمال أو أحمد حلمي من هذه الجملة، ولكنه بالتأكيد ليس الضحك.

حلمي العائم في بحر الغدر

بالعودة إلى الحكايات الثلاث التي استهلينا بها المقال، سنجد أن القاسم المشترك بينها هو سعي أصحابها للنجاح اعتمادا على الاجتهاد وحده، فاجتهاد برادلي كوبر هو الذي حوله من النجم الوسيم إلى الممثل الجاد، واجتهاد حلمي ومكي في بداية رحلتيهما الفنية وسعيهما الجاد للتمرد على القوالب الجاهزة والتوليفات الآمنة هو ما نتج عنه عدد من الأعمال الناجحة، ثم أتت بعد ذلك مرحلة الركون إلى التوليفة الآمنة، والنجومية ومنهجها الإنتاجي الذي أتي على قاعدتهما الجماهيرية، لتكون النتيجة هي عقد كامل من التجارب الفاشلة عملا بعد آخر.

في أحد مشاهد فيلم «عسل أسود»، وفي حوار بين مصري والطفل حماصة، يبدي الطفل ملحوظة ألمعية بشأن علم أمريكا على سطح القمر، هذا المشهد سيعاد تدويره في شكل «كوميك» على مواقع السوشيال ميديا حيث يشير حماصة إلى المفارقة في المهرجان الشعبي «وﻻد سليم»، وكيف أن أوﻻد سليم «كفاءة على حق مش أي حد»، وفي الوقت نفسه يؤكد المهرجان أن «مفيش صاحب يتصاحب».

ملاحظة ألمعية بالتأكيد ارتبطت بمرحلة المنحنى الصاعد، أما في مرحلة الهبوط غابت الألمعية عن حلمي، الذي يصر على حالة الإنكار ويبحث عن أسباب وهمية لفشله البادي، ليكون أفضل تعبير عن حالته متمثلا في مهرجان شعبي آخر يقول مطلعه: «عايم في بحر الغدر، وشط الندالة مليان».