كان موعد الفجر دموياً مع المعتصمين في ميدان القيادة العامة بالسودان، خمس أوربعون دقيقة كانت كفيلة بعزل الميدان أمام رئاسة القوات المسلحة عن سبل تدفق المتظاهرين من الخارج، بل وتفريغ معظمها من المعتصمين بين قتيل وجريح وطريد خارج الميدان. دارت الأسئلة، وانطلقت المخيلة لسيناريوهات ما بعد الفض، كانت ذاكرة «رابعة العدوية» الحية ملهمة اليوم بامتياز لطرفين، كيف يتجاوز الطرفان تكرار حادثة شبيهة بتلك؟ وتبادر السؤال هل سقطت ورقة التوت عن حراك السودان؟ هل تفرق الجمع من الثوار وولوا الأدبار؟ هل سيتمكن قائد الجيش من حسم الموقف كما حسمه جاره وشبيهه في الاسم؟ وعلى كلٍ فإن هذه المرحلة تطرح الأسئلة أكثر من الإجابة عليها، لكن لكي نفهم مشهد الفض نحتاج لتعرض بشكل سريع للمراحل التي أفضت إلى هذا المشهد.


متى حُطمت عصاك؟

الفريق «محمد حامد» الملقب بـ«حميدتي»، قائد قوات الدعم السريع في السودان.

في الخامس من أبريل/ نيسان 2019 دعت القوى المشاركة في الانتفاضة ضد نظام البشير، لتنفيذ اعتصام مفتوح أمام القيادة العامة للجيش السوداني، وذلك لدعوتها للانقلاب على البشير، وما إن عزل بن عوف البشير حتى استجار حميدتي وميليشياته بالمتظاهرين، ميليشياته التي لا تُعد من جسد الجيش ويحقد عليه قيادات داخل المؤسسة العسكرية لما له من حظوة عند البشير، الذي استقدمه لحمايته من أي انقلاب من داخل الجيش، حتى ضمن له كرسيًا في المقصورة الرئيسية.

عمل الجيش على استراتيجية قديمة لكنها ناجحة، فرق تسد، استغل رغبة تجمع المهنيين وقوى اليسار في عزل بن عوف المحسوب على الإسلاميين، في شهر العسل ذلك طالبت تلك القوى الجيش للبقاء فترة أطول في السلطة، وظل المستجار بهم وهم المتظاهرون بقيادة قوى اليسار على صلة وثيقة بحميدتي.

أفضى ذلك لخوف الإسلاميين من سيطرة اليسار فاستجاروا من الرمضاء بالنار، ولجأ الإسلاميون لحماية مواد الشريعة في الدستور في صراع هوياتي غير مبرر من الطرفين، تبع ذلك سلسلة من المفاوضات بعد رغبة العديد من القوى تسليم السلطة لمدنيين، وتشكيل مجلس سيادي اختُلف على عدده في بادئ الأمر بين العسكريين ولجنة المفاوضات التابعة لقوى الحرية والتغيير، كما علقت لجنة المفاوضات مع العسكر في 21 مايو/ آيار 2019، لخلاف حول تمثيل العسكريين ورئاسة المجلس الذي رفضت القوى رئاسة العسكر له، وحول عضوية بقايا نظام البشير فيه، الشرط الذي فهمه بعض اليمينيين بأنهم معنيون بهذا الشرط.

في هذه الأثناء كان حميدتي يتحدث عن رحمة الجيش بالمتظاهرين، أرحم من تسلط البشير الذي أمر بفض الاعتصام وإن قتل ثلثهم، كان ذلك التصريح تهديداً مبطناً!

فقدت قوى الحرية والتغيير تماسكها عندما انزلقت إلى الصراع الهوياتي، واحتكموا إلى العسكر فصار خصماً وحكماً ومُصلحاً، وفقدت قوى الحرية سلاحها الأقوى وعصاها في وجه العسكر وهي تماسكها، في ظل ضغط خارجي سعودي وإماراتي بتنفيذ إقصاءٍ سياسي واجتماعي للإسلاميين مهما كلف الأمر من قبل المجلس العسكري.


استراتيجية مصرية

أعلن تجمع المهنيين وقوى اليسار بداية التصعيد ضد المجلس العسكري والضغط عليه لتسليم السلطة وذلك بتنفيذ إضراب جزئي يوم 28 مايو/ آيار. كان الجواب من المجلس العسكري على تعليق التفاوض وإحراج المجلس العسكري وتهديد شرعيته الخارجية، بعدة خطوات حاسمة تصاعدت حتى هذه اللحظة، وكانت تسير بنهج الجارة مصر على النحو التالي:

1. عزل الثوار، من خلال تفكيك قوى الحرية والتغيير وتقسيمها بين عدة تيارات إسلامية ووسط ويسار، كما شارك حميدتي في طمأنة العديد من التيارات الجهوية.

2. تنظيف الدار عبر ضبط القوات الأمنية وعزل الذين قد يعيقون سيطرة حميدتي وبرهان على السلطة، يمثل أغلب المعزولين من يحسبون على تيارات إسلامية أو بعيدين عن محور الإمارات – السعودية، في هذه الأثناء كثف حميدتي جهوده لتملق قوات الشرطة والإدارات المتضررة من تلك العمليات، وخصوصًا خلال شهر رمضان.

3. في نهاية شر مايو/ آيار، تحريض المحتاجين ومروجي المخدرات والجريمة في المنطقة المعروفة باسم «كولومبيا»، الواقعة تحت جسر النيل الأزرق جنوبي الاعتصام بقطع طريق النيل وإحداث شغب، ليتهم الجيش المتظاهرين ويرد المعتصمين باتهام الجيش بتحريضهم.

4. كذلك قامت القوات بغلق قناة الجزيرة وسحب تراخيصها، مما فهم على نطاق واسع بالتحضير لفض الاعتصام، وعزل المحور القطري بشكل نهائي عن الشأن السوداني.

5. وفي اليوم الذي يليه اتهمت قوات الدعم السريع بشكل رسمي الاعتصام بإيوائه المجرمين بين المتظاهرين، وأن الاعتصام أصبح وكراً للجريمة، وأنها لن تسكت على ذلك.

6. بعدها بساعات قامت قوات الدعم السريع بحشد قوات كثيفة حول مقر الاعتصام، محاولةً اقتحامه بالقوة، توقف الاقتحام بعد سقوط قتيل واحد وجرح عدد من المتظاهرين، كانت تلك التحركات تميل لتجربة الخطة المطروحة أكثر منها كان موعدًا لساعة الصفر.

7. وبمنطق الوصاية قال حميدتي، إن تشكيل حكومة مدنية في الأوضاع الحالية سيكون نوعًا من الفوضى، وإن المجلس العسكري سيحسم أي أعمال فوضى بالقانون.


جندٌ ما هنالك

محمد حامد حميدتي قائد قوات الدعم السريع السودان
محمد حامد حميدتي قائد قوات الدعم السريع السودان

بدأ الفض بعد فجر يوم التاسع والعشرين من رمضان، صباح اليوم الإثنين. بعد الإطلاع على العديد من الشهادات والمواد الفلمية المصورة والمنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن السيناريو الأقرب للفض كالتالي:

  • بدأ الهجوم من شمال شرقي الاعتصام عبر تقاطع شارعي القيادة والمهدي شرف، عبر قوات الدعم السريع وهجوم آخر بأسلحة نارية حية بالقرب من مبنى القوات الجوية، كانت مهمة هذا الهجوم إخلاء قلب الميدان من المتظاهرين ودفعهم نحو أطراف الميدان وشارع القيادة.
  • ظل الهجوم بشكل مكثف، استُخدم فيه القنص لجعل منطقة قلب الميدان غير آمنة تمامًا.
  • كانت المهمة الثانية هي إحكام السيطرة وغلق المداخل من الشمال تمامًا، ومن الشوارع النافذة من الشمال ودفعهم بإتجاه الجنوب أو الى شارع الجامعة عبر حواري وشوارع جانبية ضيقه.
  • وبعد التأكد من جعل الساحة الداخلية للميدان منطقة ضعيفة، تبع ذلك بداية إحراق الخيام الأقرب لشارع المهدي شريف، ومع الضغط الشديد من الشمال بدأت كتلة المتظاهرين التي لم تخلِ الميدان بالاحتشاد تجاه شارع القيادة جنوبًا.
  • بدأ الهجوم الثاني بالعصي والهراوات بالقرب من بوابة القوات الجوية في محاولة لتمشيط شارع القيادة ودفعهم نحو الشوارع المحيطة دون حدوث اعتقالات تذكر في هذه الأثناء.
  • بدأت السيطرة تفرض على مساحة كبيرة من الميدان، تبع ذلك السيطرة على المنصة، وعزل الميدان من الجنوب بقوات كبيرة تم الدفع بها لينتهي بشكل أولي فرض السيطرة على الميدان.
  • بعد ذلك أشار العديد من شهود العيان إلى اعتقال كل من يحاول الدخول الى الميدان، أو لبقايا المتظاهرين المتفرقين في شوارع جانية، إلا أنه لا توجد تأكيدات لعددهم وعن ماهية القوات التي قامت باعتقالهم.
  • حصلت بقية قوات الجيش على أوامر بعدم التدخل المباشر والاكتفاء بغلق مداخل الشارع، والمساعدة في إحكام السيطرة عليه.
  • مع الضغط من شارع القيادة تم دفع بقية المتظاهرين الناجين إلى شارع بوري ثم إلى الجامعة مع استخدام مفرط لطلاقات نارية حية لأي محاولة كر من المتظاهرين.
  • منعت قوات الجيش إدخال إسعافات للجرحى والقتلى الموجودين على أرضية الميدان، مما يؤكد رغبتها في التحكم في عدد القتلى حسب رواياتها الرسمية.
  • حاولت قوات الدعم السريع بعدها بثلاث ساعات اقتحام مستشفى رويال كير، مع فرض حصار لها واعتقال كل من يحاول الوصول إليها، كما ارتفع عدد القتلى إلى 12 حسب لجنة أطباء السودان المركزية.
تشير النجمة الحمراء بداية الهجوم، والزرقاء الثاني – يشير المستطيل إلى منطة الإحكام وغلق مداخل الميدان الشمالية الشرقية – أما الأسهم فتشير الى اتجاه المتظاهرين إلى شارع بوري والجمهورية والجامعة وبعضها عبر امتداد شارع المهدي شريف نفسه.

كان رد فعل تجمع المهنيين وقوى اليسار – بشكل جذري- التصعيد لإسقاط المجلس العسكري، وإعلان العصيان الكلي بالبلاد، والذي استعد له المجلس بتنفيذ الفض قبل العيد ليستغل إجازة العيد في وأد تلك الدعوات.

كان تجمع المهنيين قد دعا للإفطار في الشوارع والنزول إليها وعدم الاكتفاء بمكان محدد، فقوات الدعم السريع وهي المسئولة عن الفض نفوذها داخل الخرطوم، لأنها كميليشيا كانت معدة لحماية البشير من أي انقلاب عليه، لكن يجب التنويه إلى أنها تستطيع أن تخوض حربًا في الشوارع كونها لا تحتاج لتغطية كثيفة لتحركاتها، لذا فإن سياسة تشتيتها قد تكون جيدة إلا أن الوضع الدموي مرشح للارتفاع.

نددت العديد من الأحزاب والقوى السياسية بتحركات الفض، وفي نهاية المطاف فإن فشل قوات الدعم السريع اليوم أو ما سيليه، سيعني انقضاض مؤسسات الجيش عليها، ويعني ذلك أنها لن تتوانى للحظة واحدة عن تحقيق النجاح، وسحق المتظاهرين مهما كلف الأمر، وإن كان هناك اتجاه لمحاولة استخدام درجات من القوة تمثلت ذلك في استخدام العصي والهراوات.