يبدو الحديث عن السياسة ومحاولات التغيير في العالم العربي، منذ ما سُمي بربيع الثورات العربية في 2011، سلاحًا ذا حدين، إمّا أن ينجح الكاتب في تصويره واستغلاله على النحو الأمثل في روايته، ويوازن بين الاستخدام الفني والأدبي وبين وصف الحالة السياسية الراهنة والشائكة، وإمّا أن تغرق روايته في بحر السياسة العنيف وتخرج في النهاية وكأنها بيان ثوري أو خطابٌ سياسي معارض لسلطة قمعية غاشمة فحسب.

بين هذا وذاك تمضي الروائية الكويتية «بثينة العيسى» في تصوير عالم روايتها الجديدة «كل الأشياء» الصادرة مؤخرًا عن الدار العربية للعلوم، والتي تتناول فيها أحداث «الكويت» السياسية التي ربما غابت في زحام ثورات العالم العربي، ربما لأنه قد تم التعامل معها بشكلٍ سريع سواء بقمع المعارضين، أو الاتفاق مع تياراتٍ منهم على عدد من الإصلاحات الشكلية العابرة، وهو ما حدث في عدد من البلدان العربية الأخرى بطرقٍ مختلفة.

تبدأ الرواية بمفتتحٍ شديد البلاغة والدلالة على طبيعة الموقف السياسي الكويتي، نقلته بثينة عن «ماركيز» حينما قال؛ «في هذه البلاد لم يقتلونا بالرصاص، قتلونا بالقرارات» وهكذا يحضر مشهد الموت بطرفيه (المادي والمعنوي) منذ السطور الأولى للرواية، لنجد أننا إزاء بطل الرواية «جاسم العظيمي» الذي عاد لبيت أسرته ليتقبّل عزاء والده المتوفى، والذي نعرف من تتابع الأحداث أن علاقته به تشبه إلى حدٍ كبير علاقة المواطن بالسلطة، من جهةٍ أخرى نكتشف أن ثمّة حبيبة لهذا البطل هي «دانة» التي لم يتمكن من الارتباط بها والتي تشبه علاقته بها إلى حدٍ كبير علاقة المواطن بوطنه.

الموت المادي والمعنوي، والعلاقة بالسلطة الحاكمة وما فيها من شدٍ وجذب، ثم العلاقة بالوطن وما يتخلله من أحلام رومانسية بالعدل والرخاء، هذه هي الأفكار الثلاثة التي تدور بينها رواية «كل الأشياء» والتي تسعى من خلالها العيسي لعكس حالة التشرذم والضياع التي يعاني منها كل فردٍ في العالم العربي في الوقت الراهن، بين فقدان الأمل في أي تغيير وبين ضياع أحلامه وآماله بإمكانية التحقق حتى ولو هربًا خارج البلاد/الوطن .

كان يحمل في رأسه ذاكرة والده، وقد أنصت إليه مرارًا وهو يقصّ عليه ما حدث في أيامه، حل المجلس وتعطيل بعض مواد الدستور، رقابة مسبقة على الصحف «قلنا البلد ضاعت»، كان يقول .. عندما عُطِّل البرلمان اجتمعنا في الدواوين كل يوم إثنين، مئات وآلاف الرجال والنساء كل أسبوع في ديوان، الحكومة طوّقت المناطق، أرسلوا لنا القوات الخاصة والشرطة والحرس الوطني لمنع التجمعات، ضربونا بالهروات، استخدموا القنابل الصوتية، احتجزونا في المخافر .. كان والده يلهب مخيلته بتلك التفاصيل، وقد تمنّى مراراً لو كان جزءًا من ذلك المشهد الملحمي.. مع أول ضربة تلقاها بصدره امتلأ بنشوةٍ غير مفهومة، لقد تحققت أمنيته، لكنه لم يفهم لماذا كف والده عن ذكر دواوين الإثنين بعد الحراك الأخير؟ وكيف صار يلعن المعارضة اليوم ويتحسّر على معارض الأمس؟!

ثمّة مشكلة خطيرة إذًا تتعلق بوالده، ليس الأمر مقتصرًا على كونه ابنًا عاقًا غير بار، ولكن المشكلة ظهرت من ذلك التحوّل الكبير الذي حصل بعد ما يسمى «الحراك الأخير» عندهم، وهو ما يصوّر بشكل واسع موقف الكثير من «الكبار»، و«الآباء» مع الثورات بشكلٍ عام، تلك الثورات أو التحركات المجتمعية التي قام بها الشباب في الأساس، وقادها بعضهم، وحاربهم فيها من الكبار من كانوا ينتظرون منهم دعمًا ومؤازرة!

ولكن الرواية لا تتوقف عند ذلك، بل يدخل «جاسم» السجن، ورغم أنه لا يقضي فيه أكثر من ستة أشهر، إلا أنها تكون فترة كافية لكي يكفر بكل أحلامه وآماله ويخرج محبطًا كافرًا بكل شيءٍ معرضًا حتى عن حبيبته، تلك التي يتركها في النهاية ويسافر دون أن يترك لها أي أمل في أن يعيشا معًا، هنا تبدو الحبيبة كالوطن فعلاً، لا يقدر على فراقها، ولا يصرّح لها بحبه، ولكن المفاجأة تأتي في النهاية حينما يضطر أن يتتبع حكايتها ليعرف ما خفي عنه من مصيرها في غيابه.

في تلك الليلة رأى جاسم الحلم نفسه .. كان يقف أمام الجدار إياه، يسمع دانة تصرخ باسمه من الطرف الآخر. اقترب من الجدار يتحسسه بأصابعه. وجده صقيلاً وباردًا، كان جدارًا من زجاج عاكس. ألصق وجهه بالسطح الزجاجي فرأى عبره “دانة” جالسةً أمام طاولة بيدين مصفدتين، الأضواء الكاشفة مسلّطة على وجهها. كانت تناديه. تراجع خطوة وتعثّر، ازدرد ريقه.. جاسم يعرف هذه الغرفة، غرفة التحقيق لكنه لا يعرف لماذا يجد نفسه في غرفة المراقبة..

ربما تكمن مشكلة الرواية في أن الكاتبة حاولت أن تجمع تلك الأفكار كلها في رواية واحدة، وأن تتحدث عن «كل الأشياء» دفعة واحدة، فأفلتت منها في الوقت نفسه أشياء كثيرة، وخرجت من الرواية دون أن نتعاطف مع أبطال روايتها رغم ما دار في واقعهم من أحداث مأساوية مؤلمة.

ولكن عدم التركيز، والتشتيت بين عددٍ من الأفكار، بين موقف جاسم من والده، وموقفه من وطنه، ثم قصة حبيبته التي اكتشفها بشكلٍ مفاجئ وبتفاصيل غير مترابطة، كل ذلك قلل من الحالة الشعورية التي يخرج بها القارئ من حالة الرواية، وإن كانت تبقى في النهاية تجربة مختلفة تُحسب لقلم «بثينة العيسى» ورواياتها، التي تحرص في كل مرة أن تقدّم فيها عالمًا مغايرًا، وأن تبتعد عن عالم المرأة أو الكتابة النسوية المجردة لتنتقل إلى فضاءٍ أرحب، وقضايا أكثر عمومية وثراء حتى وإن كان في النهاية مقبضًا!

«بثينة العيسى» روائية كويتية حصلت على جائزة الدولة التشجيعية في الرواية عام 2006، صدرت لها سبع روايات، ومجموعة قصصية، وهذه الرواية هي الثامنة في مشوارها الأدبي، أنشأت مؤخرًا منصة تكوين للإبداع.