لا شيء يتحرك في الحقيقة في اﻷفلام، اﻷمر لا يتجاوز خدعة بصرية، مرر صور ثابتة كثيرة بسرعة كبيرة أمام عينيك، وستظن أنك ترى أمامك حركة. تابع تلك الحركة، اربط معها خيوط السرد، وستجد أمامك قصة.

أوّقف تلك الصور، اجعلها تمر ببطء، أبطأ من أن تخدع عينيك، ركز على واحدة واحدة منها، وأقطع من صورة ﻷخرى في وضع آخر من زاوية مختلفة، اكسر وهم الحركة وانسياب الزمن والقصة وستجد أمامك حينها فيلم La Jetee (الرصيف) القصير لكريس ماركر، الذي أخرجه عام 1962.

في هذا الفيلم، يأخذ كريس ماركر تعريف «الفيلم» ويفككه لعناصره اﻷولى. فالفيلم كما اعتدناه هو تتابع من الفيديو والحركة، أما «الرصيف» فمكوّن بالكامل تقريبًا من لقطات ثابتة من اﻷبيض واﻷسود. اﻷبطال هنا لا يتحدثون بل يقفون في عالم الصور الصامت، القصة تحلّق فوق الصورة، يرويها لنا صوت شارد لراوٍ عليم يقع خارج الحدث.

الفيلم نفسه يبدو مترددًا حول إذا ما كان فيلمًا على اﻹطلاق، ففي التترات، يطلق على نفسه اسم «رواية مصوّرة» (Un Photo Roman)، وفي عام 1992، عندما طُبعَت كادرات الفيلم في كتاب، عاد ليطلق على نفسه اسم «رواية سينمائية» (Un Ceni-Roman).

على غرابة وثورية تكوينه، فـ«رصيف» كريس ماركر أعمق من أن يكون تجريباً مجوّفاً لإمكانات الوسيط السينمائي وكسراً اعتباطياً لتعريفاته الأولية، إنه تأمل حول الذاكرة والزمن، يستخدم القصة والتكنيك لينسج معناه.

الصورة كجسر بين الأزمنة

يتبع فيلم «الرصيف» بطل بلا اسم، في عالم جحيمي خلفته حرب عالمية ثالثة متخيلة. في مجريات تلك الحرب، لوّثت اﻷسلحة المستخدمة الهواء، وجعلته غير صالح للتنفس. من نجا من البشر، صار يعيش الآن في سراديب تحت اﻷرض حياة أقرب لحياة الجرذان. انكسر أفق المكان أمام اﻹنسانية، ولم يعد أمامها لتحقيق الخلاص سوى التجريب في أفق الزمان، هذا على اﻷقل ما توّصل إليه مجموعة من عُلماءٍ يبدو أنهم صاروا يحكمون العالم الجديد.

لم يجد هؤلاء لتجاربهم أفضل من رجل احترقت في ذاكرته صورة غريبة منذ الطفولة. صورة لنفسه كطفل في مطار أورلي بفرنسا، سقط أمامه رجل صرعته رصاصة، وتبع ارتطام جسده باﻷرض صرخة مدوية لامرأة ملتاعة. كانت تلك الصورة النابضة هي الخيط الذي شعر العلماء أنهم سيجيدون استخدامه للبعث ببطلنا مرة أخرى للماضي – إن بدت لك هذه القصة مألوفة بعض الشيء، فهذا لأن تيري جيليام قد اقتبسها بعد مرور ثلاثين عاماً في الفيلم الهوليوودي الشهير «12 Monkeys».

تربط هذه الحكاية قصة الفيلم بالتكنيك المستخدم لتنفيذه. فالعالم قد شهد نسخته الخاصة من الجحيم الذي لم يبق ولم يذر، يمكننا إذاً أن نتخيل الصور التي نراها في «الرصيف» كألبوم ذكريات بالأبيض واﻷسود تتذكر فيه الحياة نفسها قبل أن تنتهي بشكلها المعهود. يلتقط ماركر خيط الذكريات تلك، ويركز منه على صوّر بطلنا الذي يتبعه، ومن خلفه تنساب الحكاية.

يمكننا من هنا قراءة تكنيك ماركر في الفيلم كمجاز، فتتخطى الصورة هنا كونها محض مستودع للذكريات، وتصير وقود فعلي للسفر عبر الزمن، تستطيع الصورة عبر مزيج من الذاكرة والخيال أن تعيد بعث الحياة في عالم قد تحول إلى رماد. لكن اللقطات المتناثرة في ألبوم بلا سياق لا تستطيع أن ترتبط سويًا وتروي قصة. وهنا، تأتي الحكاية المحورية في قلب الفيلم.

حب بلا مستقبل ولا ماض

في سفره إلى الماضي، تلتقط عين البطل وجهاً مألوفاً لامرأة جميلة، يغلفها إحساس أثيري من الديجافو، كأنها قد زارته سابقًا في حياة أخرى. يصير سفر البطل إلى الماضي هو سفر إليها، يبدو لها كما لو أنه يظهر ويختفي من اللامكان، وتجمعهما معًا قصة حب مستحيلة بين اﻷزمنة.

تبدو هنا صور الفيلم كما لو أنها تأخذ استراحة قصيرة من عتمة سراديب الحاضر الكابوسية وصور يوم القيامة المروّعة التي أمطرها علينا كريس ماركر في البداية. فالبطل خرج من سراديب عفنة مظلمة، لعالم يضج بالحياة، وفي هذا العالم، يتأمل أكثر ما يتأمل وجه حبيبته الناعم، الذي تنساب فوقه لقطات الكاميرا، وفجأة تحدث المعجزة، من قلب تتابعات الصور الميتة، تنبعث الحركة من جديد، ويقطع ماركر في واحد من أجمل مشاهد الفيلم من الصورة إلى الفيديو، الذي يسجل لنا وجه المرأة الجميل وجفونها تنفتح على العالم.

تقع قصة الحب هنا في المركز من اﻷحداث، فهي التي تعطي التتابعات معنى وسياق، لكنها على الرغم من هذا، توجد خارج الزمن. فالبطلان هنا يتعلمان أن يكونا بلا ماضٍ ولا مستقبل، بلا «خطط ولا ذكريات»، يتعلمان أن يتركا «الزمن يشيد نفسه حولهما ببطء»، وأن «يتخذا من طعم اللحظة التي يعيشان وطنهما الوحيد». إن كان الحب هو توقف للزمن عند لحظة بعينها، فبطلانا هنا يطفو فوق الزمن.

في واحدة من نزههما، يتوقف البطل عند إحدى الأشجار، يشير لدائرة في جذع الشجرة المقطوع، وأخرى خارجها، ويقول: «هنا ولدت، وهنا سأموت». في هذا المشهد إحالة مباشرة لـ«فيرتجو» هيتشكوك الذي صدر قبل «الرصيف» بخمس سنوات، ويحيل الاثنين معًا لفكرة «العود اﻷبدي».

الزمن كأفعى تأكل ذيلها

ترى بعض الفلسفات الزمن يسير في خطوط مستقيمة متوازية – كما في فيلم Everything Everywhere All at Once – على سبيل المثال، بينما تراه فلسفات أخرى يسير في دوائر. تسمى تلك الفكرة بالـ«عود اﻷبدي» (The Theory of Eternal Recurrence)، قد دارت كثير من كتابات فريديريش نيتشة حوّل تلك الفكرة. فيقول في كتابه «العلم المرح»: «حياتك التي عشتها وستعيشها ستعاد مرات ومرات بلا نهاية دون أي تجديد فيها، كل ألم أو فرح أو تنهيدة أو فكرة، وكل شيء أكان صغيرًا أم كبيرًا في حياتك، سيعود إليك بالتتابع والترتيب نفسه، حتى هذا العنكبوت وضوء القمر المتسلل من بين الأشجار، وحتى هذه اللحظة وأنا نفسي. الساعة الرملية الأبدية للحياة تُقلَب مرارًا وتكرارًا وأنت معها كذرة من الغبار».

ترى تلك الفكرة أن كل ما يحدث مكتوب، وسيتكرر إلى ما لا نهاية في دوران عجلة الزمن، تحمل كل لحظة معها في تلك الفلسفة وكل حدث مهما صُغّر ثقل كبير، فذلك الحدث لا فكاك من حتميته وحتمية تبعاته.

تقع تلك الفلسفة أيضًا في القلب من La Jetee، فالبطل ينطلق في رحلته إلى الماضي بسبب صورة طبعت نفسها في ذكرياته لم يستطع الفكاك منها، صارت تلك الصورة إذًا كـ«قدر» مكتوب عليه أن يتبعه، بل إن أول جملة يفتتح بها الراوي السرد هي «هذه قصة رجل موسوم بصورة».

رمزت بعض الأديان القديمة لفكرة «العود اﻷبدي» بصورة أفعى تأكل ذيلها، وهي نفس الصورة التي يمكن أن نصور بها بناء الأحداث. فالفيلم يبدأ من الماضي، ثم يقفز للحاضر، ويعود مجددًا إلى الماضي، ويقودنا تتابع اﻷحداث من النهاية مجددًا إلى مشهد البداية.

مرة أخرى نرى مطار أورلي، رجل يسقط صريعًا وامرأة تصرخ. لكن عندما نرى المشهد مرة أخرى، تتكثف أمامنا – وأمام البطل – معناه ودلالاته. فالرجل الذي رآه وهو طفل، لم يكن سوى نفسه في زمانٍ آخر، والمرأة التي رآها تصرخ، هي نفسها حبيبته التي حفر وجهها نفسه في ذاكرته وعاد ليجذبه إليه من جديد، ويجذبه في هذا لنهايته المكتوبة عليه منذ لحظة البداية.

فكرة دائرية الزمن وحتمية أحداثه هي فكرة قديمة جديدة، نجدها أول ما نجدها في ديانات الشرق القديم، يخفت صوتها حقب طويلة ثم يعيدها نيتشة إلى الصادرة مرة أخرى في القرن التاسع عشر. تصدت لتلك الفكرة أعمال أدبية وفنية كثيرة، لكن ربما لم يعزف أحدًا على تلك التيمة نغمة بمثل عذوبة وشجن «رصيف» كريس ماركر، الذي أوقف انسياب كاميراه ليحيلنا إلى تأمل ذرات الزمن السينمائي: مجموعة من اللحظات والصور.