في نهاية عام 2013 كنت معجباً للغاية بفيلم يعرض حكاية معاصرة لشابة تطارد أحلامها منفردة في مدينة نيويورك، كان الفيلم بالأبيض والأسود، كانت حواراته ومشاهده خليطًا بين الطزاجة والكلاسيكية. إنه فيلم Frances Ha للمخرج الأمريكي نوح بامباك.

في أحد مشاهد الفيلم نشاهد هذه الفتاة «فرانسيس» وهي تعود لفترة وجيزة لبلدتها الأصلية، هناك حيث عائلتها وبيتها في مرحلة ما قبل الرحيل إلى نيويورك، ما قبل تحولها من فتاة مراهقة لشابة مستقلة، هناك في سكرامنتو إحدى مدن ولاية كاليفورنيا، على الجانب الآخر من نيويورك.

عرفنا بعدها أن فرانسيس لم تكن دوراً لممثلة جديدة تُسمى جريتا جيرويج، إنها أيضا جزء من رحلتها الشخصية، ولهذا فعل المخرج نوح بامباك خيراً حينما جعل جيرويج تشارك في كتابة الفيلم. خرج المنتج في النهاية حقيقيًا وأصيلًا بفضل مشاركة فتاة في كتابة حكاية تشبهها بشكل شخصي.

الآن وفي نهاية 2017 تتصدر جريتا جيرويج ترشيحات الجوائز السينمائية الكبرى في العالم بفضل فيلم من كتابتها وإخراجها هذه المرة، فيلم تدور حكايته بالكامل عن رحلة فتاة مراهقة تحلم بترك سكرامنتو والذهاب إلى نيويورك، يبدو الأمر مألوفًا، وكأننا نشاهد ما قبل حكاية فرانسيس، هكذا يمكننا التخمين ببساطة أن هذه الحكاية مستوحاة من حياة جيرويج الحقيقية.

عن المراهقة، علاقات الحب الأولى، الصداقة، البيت، الأسرة، وفترة تشكل الشخصية، كما تراها النساء، وترويها بصوتهن شابة ذكية وكاتبة/ مخرجة تبدو أنها بدأت بعملها الأول – من وراء الكاميرا – في القمة.


حكاية حب غير معتادة في الأفلام

يبدأ الفصل الأول من الحكاية بتعريفنا بشخصية كريستين أو كما تسمي نفسها «ليدي بيرد»، فتاة تبدو مختلفة بشعرها المصبوغ جزئيًا بالأحمر، في مدرسة ثانوية كاثوليكية في سكرامنتو، نتابع معها في هذا الفصل من الحكاية حياة المراهقين داخل مدرسة محافظة يتم التفتيش فيها على طول تنورات الفتيات.

منذ مشهد البداية، وهو المشهد الذي تم اختياره لإعلان الفيلم الدعائي، نرى حالة شد وجذب دائمة بين ليدي بيرد تؤدي شخصيتها «سيرشا رونان» ووالدتها تؤدي دورها «لوري ميتكالف»، الابنة تحاول التمرد واكتشاف الحياة بمفردها وأمها تحاول بشكل دائم أن توجه النصيحة، بكلمات تبدو عنيفة بعض الشيء في ظاهرها ولكنها تحمل الكثير من الحب والاهتمام في باطنها.

تختار جيرويج إذًا أن تروي حكاية لا تتمحور حول العلاقات العاطفية بين بطلتها وحبيب ما، على الرغم من أننا نختبر هذا معها في كثير من اللحظات، ولكن المحور الحقيقي للحكاية يبقى عن العائلة، عن التوق للحرية والاستقلال الممتزج بالخوف من صعوبة ما سنلاقيه في الحياة بعيدًا عن آبائنا وأمهاتنا.

تبدو الحكاية إذًا وكأنها حكاية حب أيضًا، ولكنها حكاية حب من النوع الذي لا نشاهده عادةً في الأفلام، حكاية حب ابنة وأمها.


«رونان» في انتظار الأوسكار

يبدو أن جيرويج تهتم بشكل خاص باختيار ممثليها، كما يبدو أيضًا أنها كانت محظوظة للغاية بهم هنا، يبدو الفريق التمثيلي كله على نفس المستوى من السلاسة والطبيعية، تبدو الممثلة المسرحية لوري ميتكاليف كمرشح قوي للغاية لجوائز هذا العام عن دور الأم الذي تقدمه هنا، إنها تقدم خليط الصرامة والعاطفة الخاص بالأمهات، نظرة الشدة في مشهد تتلوها معانقة دافئة في مشهد آخر، وحينما تسأل ابنتها في أحد المشاهد «هل فكرتي يومًا أن الاهتمام هو الحب؟»، نصل لجوهر الشخصية الذي تم ايصاله للمشاهد عبر طبقات متتالية، هذه هي الأم.

على الجانب الآخر فالممثلة الإيرلندية سيرشا رونان التي لم تتعد 23 عامًا وبحوزتها ترشيحان لجائزة الأوسكار، يبدو أن ترشيحها الثالث ليس أكثر من مسألة وقت، رونان هنا جريئة للغاية أولًا على مستوى الشكل، فالفتاة الشقراء الجميلة التي رأيناها في فيلم Brooklyn منذ عامين، تبدو هنا مختلفة تمامًا بشعر قصير مصبوغ وملابس لا تبرز الأنوثة بقدر ما تبرز فتاة صغيرة في مرحلة تمرد وتخبط واكتشاف.

هذا التخبط، الشك، الذي يختبره الشباب عادةً قبل بداية مرحلة الجامعة، تنقله رونان هنا طوال الفيلم، لا يعتمد الأمر مرة أخرى على التعقيد قدر اعتماده على الطبيعية والبساطة، بين علاقات حب أولي، صداقة تنتهى وأخرى تستمر، علاقة شديدة المودة مع أبيها، وأخيراً صراع مستمر مع والدتها ينتج في النهاية عن تغير في شخصية كلٍ منهما، وحينما تخبرها والدتها أنها تقسو عليها من أجل أن تتغير لتصبح أفضل نسخة ممكنة من ذاتها، تخبرها ليدي بيرد «ماذا لو كنت بالفعل النسخة الأفضل؟». مرة أخرى تتكفل كلمات جيرويج بطزاجتها وروحها الساخرة في انتزاع ابتسامة تحمل في طياتها الكثير من المشاعر.


عدسة «جيرويج» بين الضحكات والدموع

ببناء الضحكات والدموع التي يعقبها صمت وتفكير وأثر عاطفي ينجح الفيلم فيما لم يصل له أي من الأفلام الجيدة التي شاهدنها في الأعوام الأخيرة حول حكايات فتيات صغار من المراهقة ونحو الشباب والاستقلال.

تستغل جيرويج عدستها أيضًا بشكل يحمل حميمية مع مواقع التصوير في سكرامنتو، لا غريب في هذا فهي تتجول في مدينتها الأصلية، يظهر هذا جليًا في تتابعات نرى فيها شوارع، لافتات مطاعم، واجهات محلات، طرقات داخل حدائق، والكثير من البيوت، هذه القطعات الصغيرة يتم التقاطها في كل مرة من خلال عدسة طويلة –عدسة أكبر من 75 مم- وهكذا تصبح هذه الأماكن قريبة وفي بؤرة العدسة، ويصبح كل ما عداها باهتًا، تبدو الصورة أنعم، وهكذا تبدو أكثر شاعرية، يصاحب هذا كله موسيقى هادئة ألفها جون بريون (صاحب موسيقي Eternal sunshine of spotless minds)، تحمل موسيقى بريون خليطًا بين الحنين والشك، الرغبة في الرحيل، والارتباط بالأهل والأصدقاء والذكريات، وكأن بيوت وشوارع ومحلات سكرامنتو ليسوا مجرد أماكن للتصوير، هم أيضًا أبطال في حكاية Lady Bird.

منذ ثلاث سنوات، في عام 2014، كان مشهدي المفضل في كافة أفلام العام هو مشهد وداع الابن لأمه قبل الرحيل عن البيت والاستقلال بحياته في فيلم Boyhood للمخرج الأمريكي ريتشارد لينكلاتر، كل ما أحببته في هذا المشهد يوجد وبشكل مطول في هذا الفيلم، والغريب أنهما حكايتان مختلفتان تمامًا.

حينما سأل المذيع الأمريكي ستيفن كولبيرت مخرجة الفيلم جريتا جيرويج عما يمكنها قوله عن فيلمها،أخبرته أنها تعتقد أنه فيلم يحتوى على الكثير من روح الفكاهة، ولكنه أيضًا من أنواع الأفلام التي قد تدفعك للبكاء والاتصال عقب مشاهدتها بأمِك.

هذا هو تمامًا ما يمكننا قوله عن فيلم جريتا جيرويج الأول الذي يذكرنا بلحظات سعيدة شاهدنا فيها أفلامًا أولى لمخرجين وكتاب على شاكلة وودي آلن، ويس أندرسون. من جمعوا بشكل متميز بين روح الدعابة وقوة الأفكار، كلُ بطريقته الخاصة.