إذا كنت من مواليد السبعينيات فلابد أنك تتذكَّر رمضان عام 1983، عندما أهَّل علينا الفنان «فؤاد المهندس» بصوته ووصفه المختصر والمضحك ببرنامج هو الأول من نوعه في مصر والعالم العربي: «الكاميرا الخفيَّة».

عدة مقالب مضحكة يقوم بها أشخاص متنكرون، يستهدفون رجل الشارع العادي، ربما تكون ساذجة بالنسبة إلينا ونحن جيل الهواتف الذَّكية، الذي اعتاد على مقالب «رامز جلال» العنيفة والمليئة بالصراخ والسباب.

عندما يتحدث الآن أبطال الكاميرا الخفيَّة في الثمانينيات والتسعينيَّات ليسردوا حكاياتهم والمواقف المضحكة التي واجهوها بذات أنفسهم أثناء صناعة برامجهم، تتذكر حينها والدك أو جدك وهو يحكي حكاية حدثت له في عمله أو جامعته، ويبكي من شدة الضحك على موقف تجده أنت ساذجًا جدًا وغير قابل للضحك إلى هذه الدرجة.

تلك الفجوة المتسعة بين الكاميرا الخفية في عام 1983 التي كنا نسمع فيها أنوشكا بصوتها الرقيق: «خلي بالك هنصور، وأنت ولا على بالك» وبين إعلان برنامج «رامز جلال» 2016 وهو يقول «أنا قلبي مات وضميري انتحر»، تجعلنا نبحث عن تاريخ تلك الكاميرا الخفية وكيف وصلنا من مقلب الشخص الذي يركب حمارًا ويدخل به محطةً للبنزين، إلى شخص يستخدم البنزين نفسه في إحراق الناس وجعل آخرين يضحكون.


«ألن فانت» مبتكر الكاميرا الخفية

«بيتر فانت» منتج ومقدم البرنامج الأمريكي «الكاميرا الخفية»

عندما كان «ألن فانت» يؤدي الخدمة في الجيش الأمريكي، وأثناء جلسة من جلسات السَّمر التي اعتاد الجنود التحدث فيها عن همومهم وذكرياتهم ومشاكلهم، أدار «ألن» شريط الكاسيت دون أن يلاحظ أحد، وضغط زر التسجيل أثناء شكوى أحد الجنود من الحياة العسكرية بشكل فكاهي، وفي اليوم التالي قام بإذاعة الشريط على راديو الجيش، ومن هنا جاءت فكرة «Candid Microphone» أو «الميكروفون الخفي».

أذيعت أولى حلقات «الميكروفون الخفي» على راديو «أي بي سي» عام 1947، وأول حلقة لبرنامج الكاميرا الخفية من تقديم «ألن فانت» على تليفزيون «أي بي سي» كانت في العاشر من أغسطس عام 1948، واستمر «ألن» في تقديم البرنامج حتى أعجزه المرض وتولى الدَّفة من بعده ابنه «بيتر».

يعتبر برنامج الكاميرا الخفية الذي قدمه «ألن» أول برنامج تليفزيوني واقعي، فهو يعتمد على ردود أفعال الناس العادية في الشارع ورصدها بواسطة كاميرا غير مرئية بالنسبة إليهم، وكان أحيانًا يستعين بمشاهير في بعض الحلقات لعمل مقالب لهم أو بمعاونتهم، أو مجرد السير في الشارع وسؤال الناس عن بعض الأشياء المضحكة والمثيرة دون إخفاء الكاميرا، أو طلب منهم فعل بعض الحركات المضحكة. وما إن يتم كشف المقلب يقول للضحية: «اضحك، إنها الكاميرا الخفية»

تعتبر الكاميرا الخفية نواة شرائط الفيديو الخاصة للكبار فقط، ففي عام 1970 كتب وأخرج «ألن فانت» فيلمًا واقعيًابعنوان «?What Do You Say to a Naked Lady» مستخدمًا أسلوب الكاميرا الخفية، والفيلم عبارة عن رجل وامرأة عاريين تمامًا يسيران في الشارع في مواجهة الناس لتسجيل ردود أفعالهم ومحادثتهم عن الجنس، كان الفيلم مدته 85 دقيقة وقد وصلت إيراداته لخمسة ملايين دولار.

بعد تجربة «ألن فانت» انتشرت فكرة الكاميرا الخفية حيث صدرت النسخة البريطانية في عام 1960، وأعقبها العديد من النسخ في دول مختلفة حول العالم. وربما كان من المثير أيضًا معرفة أن المخرج والسيناريست العالمي «وودي ألن» كتب وشارك في بعض حلقات الكاميرا الخفية في بداية السيتينيات.


الكاميرا الخفية في الوطن العربي

تزامنًا مع بدء الموجة الثانية من برنامج الكاميرا الخفية الأمريكي، التي بدأت في الثمانيات، اجتاحت المنتج «طارق نور» رغبة في إنتاج أول كاميرا خفية في العالم العربي. فقام بالاتفاق مع المخرج الشاب «إسماعيل يسري» وبدأوا تصوير أولى حلقات الكاميرا الخفية عام 1983. وبعد الانتهاء من الحلقة رقم ثلاثين، اقترح «يسري» أن يقوم الفنان «فؤاد المهندس» بتقديم البرنامج وذلك بشرح المقلب للمشاهدين في بداية الحلقة.

تأتي في بالك تلك المقالب البسيطة والمضحكة التي كانت في الثمانيات من القرن الماضي، مع صوت «عمو فؤاد» وبعض الخدع البسيطة المصاحبة لتقديمه. لا بد أنك تتذكر أيضًا صوت «أنوشكا» وموسيقى التتر التي استمر استخدامها في عدة نسخ فيما بعد. كما نشاهد بطول التتر صورًا لأناس عاديين يضحكون بملء أفواههم في إشارة إلى أن الهدف الأساسي من البرنامج هو إضحاكهم وإسعادهم بتلك المقالب البسيطة.

تابع «إسماعيل يسري» تقديم الكاميرا الخفية لمدة ثمان سنوات، وفي عام 1995 اشترك مع «يوسف معاطي» في برنامج «مفيناش زعل»، واعتمد على وجود الكاميرا وليس إخفاءها وطرح عدة أسئلة على الضحية مع ظهور إسماعيل يسري متنكرًا وعمل مقلب في الشخص المراد. وفي عام 1996 قدم الممثل «محمود الجندي» نسخة أخرى من الكاميرا الخفية ولكنها لم تلقَ نجاحًا كما لاقت مثيلاتها من قبل.


رحلة الـ «زكية زكريا»

إذا كنت ممن اشتروا «الشيبسي» الذي حمل رسومات لـ«غباشي النقراشي» و«نجاتي» و«زكية زكريا»، فلا بد أنك تتذكر الفنان «إبراهيم نصر» وهو يقدم برنامج الكاميرا الخفية، وشرحه للمقلب في بداية الحلقة الذي يختمه بجملته الشهيرة «ماتيجي نشوف».

في عام 1996 التقى إبراهيم نصر بمسئول القناة الثانية المصرية، واقترح عليه فكرة برنامج مقالب باسم «انسى الدنيا»، شاهده «طارق نور» وقرر أن يستعين به لإكمال مشوار الكاميرا الخفية.

قدم إبراهيم نصر العديد من الشخصيات في برنامجه مثل «غباشي النقراشي»، «نجاتي»، «عبد الودود»، ثم انتقل ليقدم شخصية نسائية بدينة ذات شعر قصير ومساحيق تجميل مبالغ فيها، يقوم بعمل المقلب في الضحية وعندما تأتي لحظة الكشف عن الحقيقة يتخلى إبراهيم نصر عن صوته الأنثوي الرفيع، ويسأل الضحية في صوت أجش «لو تحب نذيع قول ذيع» فيرد الضحية مبتسمًا «ذيع».


اديني عقلك

في أحد مشاهد فيلم «التجربة الدنماركية» يجلس «عادل إمام» مع أولاده في أحد المطاعم ثم يدخل مجموعة من الأشخاص يجلسون على طاولتهم ويأكلون الطعام الذي طلبوه، تنشب معركة هائلة مع محاولة «حسين مملوك» و«منير مكرم» أن يشرحوا لهم أنها الكاميرا الخفية ولكن بلا جدوى.

الفريق الذي اشتهر بالحركة المشهورة برفع إبهامهم إلى شاشة التليفزيون وهتفاهم «اديني عقلك» كانوا الأكثر تلقٍ للضرب في تاريخ برامج المقالب الواقعية في التليفزيون.

على مدار أربعة عشر عامًا منذ 1998 ألف وأخرج «هاني العسّال» برامج «إديني عقلك» و«إلحقونا» بأفكار متعددة ومختلفة.


حسين ع الهوا

كما قدم المخرج «رائد لبيب» والكاتب «شامخ الشندويلي» الكاميرا الخفية مع إبراهيم نصر، استمرا في تقديم نوع آخر تدور فكرته حول إقناع المشاهير أنهم في برنامج تليفزيوني مع الفنان الراحل «حسين الإمام»، ثم تتخلل الحلقة عدة مواقف غريبة وغير مألوفة تثير الضحك لدى الجمهور. في رمضان من عام 2002 كانت الحلقة الأولى من «حسين ع الهوا»، والتي لاقت نجاحًا باهرًا ونسب مشاهدات عالية، وكانت محور الحديث بين الناس لفترة طويلة.

وبعد نجاح «حسين ع الهوا» استمر في تقديم برامج أخرى تعتمد على فكرة الكاميرا الخفية مع اختلاف طريقة التقديم، مثل «حسين في الأستوديو»، «حسين على الناصية»، «فاصل ونواصل»، وغيرها من البرامج.


مقلب دوت كوم

في عام 2004 وعلى مدى عامين قدم الفنان الكوميدي «أشرف عبد الباقي» برنامج «مقلب دوت كوم» والذي أخرجه «إيهاب أبو زيد»، وأشرف على أفكاره «زكي عبد الحميد».

تعتمد فكرته على الكاميرا الخفية ولكن بأسلوب مختلف، حيث يستهدف «أشرف» عامة الناس بالاتفاق مع أصدقائهم لعمل مقلب بهم لتلقينهم درسًا في السلوكيات الإنسانية، كالغرور أو العنف أو التكاسل عن التعلم، أو الغيرة وغيرها، مع جو من الألفة والضحك يخلقه «عبد الباقي» في البرنامج.


الكاميرا الخفية: من الدخول بالحمار إلى اللعب بالنار

نحن دائمًا ما نفعل هذا من منطلق أن الناس رائعون ونحاول أن نثبت ذلك، بعض البرامج الأخرى تنطلق من منظور أن الناس أغبياء، ونحن نحاول أن نصحِّح هذه الفكرة.

لا زالت الكاميرا الخفية وبرامج المقالب تحتل مركزًا مرموقًا بين البرامج من حيث نسب المشاهدة والإعلانات، ولعل أضخمها على الإطلاق من حيث ميزانياتها وعائداتها هي البرامج التي يقدمها «رامز جلال» كل عام، والتي تعتمد في الدرجة الأولى على الترويع والعنف مما جعلها تتلقى انتقادات واسعة وهجومًا شرسًا، ولكنه ما زال مستمرًا مع رصد أعلى نسب مشاهدة وإعلانات.

رصدت النسخ المختلفة للكاميرا الخفية عدة كوارث وحوادث من جرّاء استفزاز الجمهور وصلت لحد القتل، ففي إحدى النسخ الروسية أطلق رجل النار على صندوق بريد لأنه كلما وضع الخطاب فيه وجده يلقى مرة أخرى إليه! اُستفز الرجل إلى درجة أن أطلق النار على الصندوق الذي احتوى رجل مقالب الكاميرا الخفية بداخله!

في عام 1964 طلب قسم علم النفس في جامعة «كورنيل» أن يتم الاحتفاظ بحلقات «ألن فانت» التي تم تسجيلها على مدار السنوات لاستخدامها في أغراض تعليمية، ودراسة التغيرات النفسية الاجتماعية واختلاف ردود أفعال الناس وألفاظهم وملابسهم وطريقة حديثهم.

في عام 2014 اقترح «إسماعيل يسري» أن يعيد إخراج البرنامج مرة أخرى بنفس مقالبه لدراسة ردود أفعال الرجل المصري والتغييرات التي حدثت في المجتمع، ففي إحدى الحلقات صنع «يسري» مقلبًا بوضع ميكروفون في بلاعة على الطريق العام، وكلما مر أحد بجانبها سمع صوت صراخ واستغاث رجل محجوز فيها، وفي مرة كانت سيدة عجوز ذاهبة لزيارة ابنها العسكري في الجيش حاملة معها «ربع فرخة» فقامت بإعطائها إلى الرجل المزعوم في البلاعة.

وبين عام 1983 وعام 2016 الذي يطل فيه رامز جلال ببرنامجه «رامز بيلعب بالنار» والبرومو الذي يقول فيه «أد إيه شيء ممتع إنك تشوف واحد بيولّع قصاد عينيك»، مع مشهد رجل يحترق بالنار، يبدو أننا بالفعل نحتاج إلى دراسة هذه البرامج لمعرفة إلى أين آلت نفسية الرجل المصري والعربي! فهل من الممكن أن تعطي سيدة ما «ربع فرخة» إلى صوت رجل تسمعه في بلاعة؟!

صعدت برامج الكاميرا الخفية وهبطت ما بين الابتذال والعنف والضحكة الراقية الهادئة، والاستفزاز والمشاجرات، فهل حقًا هي تعبر عن تغيرات المجتمع أم أنها تحاول تغييره بفرض نمط فعلي معين؟! هل حقًا الفن يعبر عن المجتمع أم أنه يحاول تغيير المجتمع؟

ربما يجيب على هذه الأسئلة النتائج الذي ستؤول إليها عملية رصد نسبة المشاهدة لنيران رامز.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.