ِشهدنا في أحداث الأسبوع الأول من يناير/كانون الثاني عام 2020م، والمتعلقة باغتيال الولايات المتحدة الأمريكية قاسم سليماني، أقوى الصقور الإيرانية، ومسئول الملفات الخارجية، جولةً من المصارعة المحترفة بين الولايات المتحدة وإيران على الحلبة العراقية، وفي التشبيه بالمصارعة هنا دلالةً بلاغية مزيدة، حيث بات من المعلوم بالضرورة أن الكثير من مباريات المصارعة الطاحنة تتضمن سيناريوهاتٍ مسبقة معلومة النتائج.

ذهبت توقعات كثير من المتابعين بحدوث حرب عالمية ثالثة أدراجَ الرياح، بعد الرد الصاروخي الإيراني على عملية الاغتيال، والذي كان شديد الحذر، إذ استهدف قاعدة عسكرية أمريكية كبرى بالعراق أُخليَتْ عمدًا من الأمريكيين بناءً على اتصالاتٍ مباشرة وغير مباشرة، لتجنب خسائر بشرية أمريكية.

في السطور التالية، سنعود 37 عامًا إلى الوراء، تحديدًا إلى عام 1983م الملتهب، في لبنان الممزق والمدمَّر في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي الواسع عام 1982م الذي كان – وما يزال – من أشهر ساحات الصراع بالوكالة بين الأطراف الإقليمية والدولية.

شهد ذلك العام – 1983م – حربًا حقيقية بالوكالة بين الولايات المتحدة وإيران، شهدت أحداثًا شديدة الدموية. من خلال تذكر تلك الأحداث، سيتبيَّن سبب الحساسية الأمريكية المفرطة تجاه أي اقترابٍ من سفاراتها، ولاسيَّما عندما يتعلق الأمر بإيران. وسنسلط الأضواء كذلك على نموذج لكيفية استغلال النظام الإيراني للساحات الخارجية في استنزاف خصومه، وفي الهيمنة التدريجية على مقدرات تلك المناطق بشكلٍ يتناسب مع مصالحه.

لبنان 1983م: خريطة النار والدماء

قبل الحديث عن الواقعتيْن المفصليَّتيْن للصدام الأمريكي – الإيراني اللتيْن شهدهما عام 1983م، لا بد أولًا أن نرسم ولو بإيجاز المشهد اللبناني شديد التعقيد، بعد 8 أعوامٍ من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بين الفلسطينيين وحلفائهم من اليسار والقوميين من طرف، والمسيحيين المارونيين المدعومين من إسرائيل من طرف آخر.

اختلطت كل الأوراق بشدة مع التدخل السوري العسكري  – بضوءٍ أخضر أمريكي وإسرائيلي – منذ عام 1976م، مصطدمًا بالطرف الأول بادئ ذي بدء، ثم الطرف الثاني بعد ذلك، وكذلك مع انعكاسات معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1978م/1979م والتي أخرجت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، ثم ظهور لاعب جديد خطير على الساحة اللبنانية مع مطلع الثمانينيات، وهو نظام الثورة الإيرانية، حيث برزت على الساحة اللبنانية لأول مرة فصائل مسلحة إسلامية موالية له، تساهم في المقاومة ضد الاجتياح الإسرائيلي الشامل للبنان عام 1982م. تلك الفصائل التي مثَّلت الجذور الأولى للميليشيا الأكثر شهرة – الآن – وإثارةً للجدل وللمواقف الحدية منه، في لبنان، بل في الشرق الأوسط، وهو حزب الله.

نجح الإسرائيليون عام 1982م، في احتلال جنوب ووسط لبنان، بالتعاون مع القوات اللبنانية، الفصيل المسيطرة على الساحة المسيحية سياسةً وأمنًا. ولم يوقفوا جولات القصف «الأبوكاليبتية» ضد بيروت الغربية – عاصمة الحلف الفلسطيني – إلا بعد أن أذعن الفلسطينيون للخروج من بيروت إلى المنافي العربية المختلفة. أراد الإسرائيليون تتويج هندستهم الدموية الجديدة للبنان بتنصيب قائد ميليشيا القوات اللبنانية رئيسًا للبنان، ليوقع مع إسرائيل اتفافية مماثلة لكامب ديفيد المصرية، لكن أطاح انفجار عنيف من تنفيذ ناشط قومي لبناني ببشير الجميل في منتصف سبتمبر/ أيلول 1982م.

اقرأ: بشير الجميل و 50 كجم TNT غيرت الشرق الأوسط

انتقم أنصار الجميل بذبح مئات الفلسطينيين في مخيميْ صبرا وشاتيلا، واحتلَّت إسرائيل بيروت الغربية. اهتزَّ العالم لمشاهد المجزرة المروعة، ووصل المئات من قوات حفظ السلام الدولية، جلهم من الأمريكيين والفرنسيين، للانتشار في بيروت وجوارها، خاصةً بعد الانسحاب المذل للإسرائيليين من الشطر الغربي لبيروت تحت وطأة أعمال المقاومة الشرسة من الفصائل القومية واليسارية والإسلامية الناشئة.

اقرأ: بيروت 1982: حين استجدى الإسرائيليون الانسحاب

في الشهور التالية من نهاية عام 1982م، ومطلع عام 1983م، لم يعرف لبنان الهدوء. تكاثفت أعمال المقاومة ضد القوات الإسرائيلية خاصةً في الجنوب، بدعمٍ سوري – للانتقام من ضربة يوم 9 يونيو/ حزيران 1982م الإسرائيلية التي دمرت الدفاع الجوي السوري بلبنان، والقوةَ الضاربة للطيران السوري في أقل من نصف نهار – وكذلك بدعمٍ إيراني بدأ يتزايد، موجه بالأساس للفصائل الشيعية الإسلامية الجديدة على الساحة، وذلك رغم الحرب العراقية – الإيرانية المستعرة آنذاك، والمستنزِفة للإيرانيين، حيث كان الشارع الإيراني المعادي لإسرائيل يضغط من أجل مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بلبنان تطبيقًا لمبادئ الثورة التي كانت لا تزال قريبة العهد آنذاك، خصوصًا وقد كان الاعتقاد السائد لدى الشارع الإيراني  آنذاك بأن معركتي العراق ولبنان هي واحدة، فكلٌّ من العراق وإسرائيل – مع اختلاف التفاصيل – يدعمهم أمريكا، الشيطان الأكبر كما يلقبونها.

تناقلت الأنباء بكثافة ما تقوم به فصائل إسلامية جديدة من عملياتٍ نوعية ضد الاحتلال الإسرائيلي، والتي برز من بينها نوع لم يكن مألوفًا آنذاك بلبنان، وهو العمليات الانتحارية/الاستشهادية، والتي كان من أفتكها آنذاك تلك السيارة المفخخة التي فجَّرها استشهادي لبناني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1982م مطيحًا بمقر القيادة الإسرائيلية في مدينة صور الجنوبية، دافنًا بين ركامها أكثر من 80 قتيلًا إسرائيليًّا.

سياسيًّا، انتُخِب أمين الجميل رئيسًا للبنان بدلًا من أخيه القتيل، فكان أكثر حذرًا في التفاهم مع إسرائيل رغم المفاوضات المتواصلة للتوصل لاتفاقية سلام لبنانية – إسرائيلية، لكنه حاول بقوة فرض سطوته عبر واجهة الجيش اللبناني، والقوات الأمنية، والسيطرة على سلاح الفصائل اليسارية والقومية المعادية له ولإسرائيل. لكن أدى هذا القمع إلى اشتعال الوضع أكثر، خاصة من وجود الأطراف الإقليمية الراغبة في الثأر – سوريا وإيران – وفي تغيير المعادلات السياسية والعسكرية القائمة، وتوطئة نفوذٍ لها في ذلك البلد الحيوي الصغير.

اقرأ: اغتيال سليماني: ما نعرفه عن إيران التي يريدُها العم سام.

نيسان الدامي: العلم الأمريكي بين الأنقاض والأشلاء

اليوم هو 18 أبريل/نيسان من عام 1983م. في الصباح الباكر تدخل إلى مرآب السفارة الأمريكية ببيروت سيارة بيضاء، لا يبدو في الأمر شيء غريب. بداخل المبنى يدور اجتماع عالي المستوى بين عملاءٍ مهمين للمخابرات المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط. فجأة، تهتز بيروت لصوت انفجارٍ مزلزل، سيعرف الجميع بعد قليل أن مركز ذلك الانفجار كان تلك السيارة البيضاء التي كانت محملة بمئات الكيلوجرامات من المتفجرات.

أطاح الانفجار بقسمٍ كبير من مبنى السفارة الأمريكية بلبنان، ومعه أكثر من 60 قتيلًا، أكثر من نصفهم من اللبنانيين العاملين بالمكان أو المارين مصادفة، لكن كان من ضمن الضحايا 16 أمريكيًّا، نصفهم من منتسبي CIA، وأكثر من مائة جريح. كان هذا التفجير صفعة قاسية للولايات المتحدة الأمريكية، وخسارة ضخمة لجهاز مخابراتها القوي. أشارت أصابع الاتهام إلى التنظيمات الإسلامية المدعومة من إيران، دون دليل قاطع يحسم الجدل حول هوية المنفذين الأكيدة، والمستمر إلى لحظة كتابة هذه السطور، رغم اتهامات أمريكية مؤخرًا لحزب الله – كان قيد التأسيس آنذاك – بالمسئولية.

لم تكن تلك المرة الأولى لاستهداف سفارةٍ أمريكية من قبل إيران – أو طرف محسوبٍ عليها – فبعد الثورة الإسلامية مباشرة، اقتحم طلاب إيرانيون ثائرون السفارة في طهران، واحتجزوا 52 رهينةً بداخله لأكثر من عام، مطالبين بتسليم الشاه لإيران، ولم يُفرَج عنهم إلا بعد أن فشلت الولايات المتحدة في تحرير الرهائن بعملية خاصة  انتهت بفشلٍ ذريع ومقتل العشرات من الجنود الأمريكيين، فاضطرت بعد أشهر للإفراج عن جزء من الأرصدة الإيرانية المحتجزة لديها مقابل إطلاق رهائنها.

والآن عودةً إلى لبنان 1983م، رغم النجاح الدبلوماسي والسياسي الإسرائيلي بتوقيع اتفاقية 17 مايو/ آيار 1983م للسلام مع لبنان برضا أمريكي، بعد أقل من شهر من تفجير السفارة، فإن مشاكل الأمريكيين والإسرائيليين لم تنتهِ في لبنان. استمرت عمليات المقاومة ضد إسرائيل بفاعلية، وكذلك استعادت التنظيمات اليسارية والقومية – بدعمٍ سوري وسوفيتي – المبادرة ضد القوات المسيحية الموالية لإسرائيل، وضد الجيش اللبناني الخاضع للرئيس الجميل، لاسيَّما في معارك جبل لبنان. وارتكتب القوات متعددة الجنسيات خطأ فادحًا بتدخلها المباشر دعمًا للجيش اللبناني، مما جعلها طرفًا في المشهد الملتهب.

وهكذا لم ينتهِ عام 1983م إلا وقد حمل حدثًا استثنائيًّا غيَّر في دقائق معدودة من صباح يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1983م المشهد في لبنان والشرق الأوسط لعقودٍ تالية، وكان بداية تكريس فعليٍّ للنفوذ الإيراني هناك، والذي ما يزال مستمرًّا إلى اليوم.

دماء المارينز تسيل في بيروت

أكبر تفجيرٍ بالأسلحة التقليدية منذ الحرب العالمية الثانية، وكذلك أضخم حصيلة من القتلى الأمريكيين في يومٍ واحد منذ معارك نهاية الحرب العظمى الشرسة ضد اليابانيين. هكذا وُصِف التفجير الذي نسف مقر القوات الأمريكية قرب مطار بيروت في هذا الصباح الدامي.

الجزء 11 من وثائقي حرب لبنان (من إنتاج الجزيرة) وبه أحداث عام 1983م الدامية

اقتحمت شاحنة قادمة من الضاحية الجنوبية لبيروت الحواجز الأمنية لمقر المارينز، لتصطدم بجسم المبنى بعنف كان كافيًا لتفجير أكثر من 5 أطنان من المتفجرات بداخلها، مما اقتلع المبنى الضخم من جذوره اقتلاعًا، ليسقط 240 قتيلًا من المارينز. قبل أن تفيق القوات الدولية والعالم من الصدمة، أطاح انفجار غير بعيد بمقر المظليين الفرنسيين، ليسقط منهم أكثر من 50 قتيلًا.

ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية أن بيانًا وصلها يفيد بتبني فصيلٍ لبناني يسمى الجهاد الإسلامي (وهو غير تنظيم الجهاد الإسلامي الفلسطيني المعروف الآن) لتلك العملية. ويعتقد الأمريكيون أن هذا التنظيم كان مجرد واجهة لحزب الله اللبناني، الذي كان في مرحلة التأسيس آنذاك، ولعل هذا ما حدا بالرئيس الأمريكي ترامب لتوقيع عقوباتٍ ضد حزب الله ومسئوليه عام 2018م، تزامنًا مع الذكرى رقم 35 لهذا التفجير الهائل.

لم تمر أسابيع على تلك التفجيرات الدموية، حتى انسحبت القوات الدولية من لبنان، تاركة حكومة الجميل في مهب الرياح العاتية التي نفخت فيها طهران ودمشق، لتندلع انتفاضة مسلحة في بيروت في فبراير/ شباط 1984م يتحالف فيها اليسار والقوميون مع حركة أمل الشيعية الناشئة المدعومة من دمشق، ضد الجيش اللبناني والقوات اللبنانية، وبعد أشهر من الصدامات العسكرية والسياسية، تسقط اتفاقية مايو/ آيار مع إسرائيل، ويصبح للنفوذيْن السوري والإيراني الصوت الأعلى بلبنان، وتنكفئ إسرائيل جنوبًا تحت وقع ضربات المقاومة اللبنانية بكافة أطيافها، إلى ما بعد نهر الليطاني.

عام 1984م، ستضع الولايات المتحدة إيرانَ رسميًّا على قائمة الدول الراعية للإرهاب. وفي عام 1985م، يحدث تفجير عنيف داخل الضاحية الجنوبية، معقل الشيعة ببيروت، يسفر عن مصرع العشرات من المدنيين، ونجاة المرجع الشيعي الشهير محمد حسين فضل الله – أحد الآباء الروحيين لحزب الله – بأعجوبة، وتشير أصابع الاتهام إلى CIA في القيام بهذا العمل الانتقامي.

فضيحة إيران-كونترا وما بعدها

سيمتاز الصراع في لبنان أيضًا بتكرار احتجاز رهائن أمريكيين من طرف مسلحين إسلاميين محسوبين على إيران. شهد عام 1987 واقعة مشهورة، عرفت بفضيحة إيران-جيت أو إيران كونترا، عندما باعت الولايات المتحدة لإيران معدات عسكرية متطورة كانت بحاجة ماسة إليها في حربها ضد العراق، مقابل تدخل إيران للإفراج عن بعض رهائنها في لبنان، واستُخدمت تلك الأموال في دعم ميليشيات الكونترا الموالية للولايات المتحدة في نيكاراغوا بأمريكا الوسطى. سببت تلك الواقعة حرجًا شديدًا للطرفين، إذ مثَّلت تناقضًا كبيرًا مع العداوة الصفرية المعلنة بينهما.

في العقود التالية، ستعزز إيران من دعمها لحزب الله، إلى أن ينجح بعد حرب عصابات طويلة في إجبار إسرائيل على الانسحاب من معظم الجنوب اللبناني عام 2000م، ثم في التصدي الفعال للعدوان الإسرائيلي في حرب تموز (يوليو) 2006م، رغم الانسحاب السوري العسكري من لبنان في أعقاب الاضطرابات التي نجمت عن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005م، لتصبح إيران الرقم الأصعب في لبنان، لاسيَّما بعد صدامات 2009م التي أتاحت لحزب الله فرض نفوذه السياسي بلبنان إلى جانب الوجود المسلح، فيما عُرِف بالعهد، والذي ظل إلى العام الماضي 2019م مهيمنًا على لبنان قبل اندلاع المظاهرات الشعبية المستمرة هناك، والراغبة في إسقاطه أو تحجيمه.

إذًا فللبلديْن – إيران والولايات المتحدة –  تاريخٌ لافتٌ من الحرب بالوكالة على أراضٍ أخرى، لكن ألم تُغيِّر قرابة أربعة عقود حالة الصراع والعداء تلك، إلى حالةٍ من التنافس والتقاسم كالتي شهدتها  محطاتٌ عديدة على الساحة العراقية السياسية والعسكرية في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م؟ هناك شواهد عديدة على هذا، لكن ليس إلى حد نهاية حالة الصراع والعداء الجذرية بالكلية، وإن خفت اللهيب الأيديولوجي لها كثيرًا بعد أكثر من 40 عامًا من اندلاع الثورة الإيرانية التي كان الموت لأمريكا ولإسرائيل من أشهر هتافاتها.

لكن مع تشديد العقوبات الأمريكية على إيران لتدمير اقتصادها، ولدفع الأوضاع الداخلية هناك إلى الاضطراب، تزامنًا مع العمل الفعال على استهداف امتداداتها الخارجية خاصة بالعراق، مما يعني حشرها في الزاوية، فمن المرجح أن ينتطح القطبان أكثر فأكثر، رغبة في حلحلة الوضع أكثر لصالح هذا أو ذاك، وإن كان بشكلٍ أكثر حذرًا، في البداية.