عقب ثورتين ولأكثر من خمس سنوات يعاني الشارع المصري حالة من الاغتراب السياسي، فرغم كثرة التيارات السياسية وتعددها إلا أنها فشلت جميعا في جذب تأييد الشارع.

ويعتبر التيار اليساري أحد ابرز وأقدم التيارات والفكرية في مصر الذي نشأ في منتصف القرن الماضي، و ارتبط ظهور هذا التيار بقضايا الاستقلال وإقامة مجتمع العدالة الاجتماعية والانتصار لطبقة عمال وفلاحين، كما اختلف شكل ورؤية التيار اليساري باختلاف الفترة الزمنية التي مرت بها مصر وطبيعة النظام الحاكم.

ورغم قدم هذه الحركة في التاريخ السياسي المصري إلا أنها فشلت في تحقيق أي من أهدافها في مختلف الفترات، فخلال خمس سنوات شهدت مصر ثورتين قادها جموع الشعب لتحقيق أهداف المساواة والعيش بكرامة، ورغم أنها الاهداف التي ينادي بها أي تيار يساري نجد أن التيار اليساري المصري غائبا عن المشهد بشكل جذري بدلا من قيادة تلك الجموع.

يسعى هذا التقرير إلى تلمس مستقبل اليسار في مصر بالتزامن مع حالة الحراك الفكري التي سيطرت على البلاد منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير، عبر بيان عوامل ضعف هذا التيار، وأهم ممثليه الفاعلين على الأرض.


كيف ومتى ظهر اليسار في مصر؟

كان ظهور التيار اليساري في مصر على يد الطلاب المصريين الموفدين للدراسة في أوروبا والذين بدأوا في نشر الأفكار الاشتراكية عند عودتهم في بداية العقد الأول من القرن العشرين، وشهد عام 1921 تاسيس أول كيان تنظيمي يعبر عن الفكر اليساري «الحزب الشيوعي المصري» على يد بعض المثقفين المصريين حتى تم حله بقرار من حكومة الوفد آنذاك سنة 1925.ومع حلول الأربيعنيات عاد اليسار المصري إلى الساحة مجددا، نتيجة لحالة الحراك التي شهدتها البلاد مع بدء الحرب العالمية الثانية، وتكونت على إثر ذلك 3 منظمات يسارية: الحركة المصرية للتحرر الوطني «حمتو»، والشرارة «ايسكرا»، وتحرير الشعب، كذلك فقد تم تأسيس جريدة «الفجر الجديد» لتكون أول صحيفة تعنى بنشر الأفكار الشتراكية.ومع قيام ثورة يوليو 1952 بدأت صفحة جديدة في تاريخ اليسار المصري، وشهدت العلاقة بين الوجود اليساري ونظام عبد الناصر حالة من الجمود والعداوة استمرت اغلب الوقت نتيجة لموجة الاعتقالات التي واجهها اليساريين كغيرهم من القوى السياسية، إلى أن هدأت الأمور وتم تأسيس التنظيم الطليعى الذي لعب دورا بارزا في نشر الفكر الثورى والاشتراكي.وكان قرار الرئيس الراحل انور السادات بالتعددية الحزبية وانشاء أمنابر أهم عامل في عودة ظهور اليسار المصري بعيدا عن الدولة وتمثل ذلك في تأسيس حزب التجمع 1976.وتعتبر الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم أكثر صفحات اليسار المصري ظلمة نتيجة لانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك منظومة المعسكر الاشتراكي مما تسبب في زيادة حالة التشويش الفكري والتنظيمى التي عانى منها التيار منذ نشأته إلى جانب الضغوط الأمنية الشديدة.لكن شهدت السنوات العشر السابقة على ثورة 25 يناير حالة من النشاط اليساري صاحبت تزوير انتخابات 2000 البرلمانية واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية واحتلال أفغانستان والعراق مما أفضى إلى تكون مجموعات يسارية ضد نظام حسنى مبارك أشهرها «كفايا».وكانت ثورة 25 يناير طوق نجاة لليسار المصرى التي أعادت ظهوره بشكل علنى ودفعته مره أخرى للعمل الجماهيري، كما شارك اليسار في الاحتجاجات التي تلت ثورة 25 يناير وصولاً إلى ثورة 30 يونيو على حكم الإخوان المسلمين، الملاحظ أنه على الرغم من مشاركة اليسار في العمل الميداني إلا أنه تواجد على استحياء دون وجود دور حقيقي في قيادة أو توجيه تلك الاحتجاجات.


الوجود اليساري في مصر

تتعدد أوجه الوجود اليساري في مصر بين عدد من الاحزاب والحركات والتي يأتي على رأسها:

الحزب الشيوعي المصري

تم تأسيسيه عام 1925 في الأسكندرية على يد عدد من المثقفين اليساريين الذين اعتنقوا المذهب الماركسي اللينني، واتجه للعمل السري نتيجة للاعتقالات والملاحقات الأمنية حتى عام 2011، ويتواجد معظم حضور الحزب داخل أوساط العمال والفلاحين.

الاشتراكيون الثوريون

تم تأسيسه على يد فصيل راديكالى من الشباب اليساري عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، الذين دشنوا مركز الدراسات الاشتراكية ليكون سبيلهم لنشر الأفكار الماركسية واليسارية، وقد لعب التنيظ دورا في ثورة 25 يناير كذلك فقد شارك في حملة تمرد ضد حكم الإخوان المسلمين.

الحزب الاشتراكي المصري

تأسس على يد مجموعة من اليساريين في عاقاب ثورة 25 يناير، ويسعى الحزب للحفاظ على مكتسبات الثورة وتدعيم الوجود اليساري في مصر.

حزب التجمع الوطني التقدمي

تأسس عام 1976 وحظى بالاعتراف القانوني سنة 1977 بعد السماح بتأسيس الأحزاب السياسية في مصر، وضم وقتها مجموعة من اليساريين الاشتراكيين، والشيوعيين، والناصريين، والقوميين، وبعض الليبراليين، وكان الشيوعيون أكبر الداعين إلى إنشائه.وهو أحد الأحزاب العلمانية اليسارية في مصر، تتمحور رؤيته حول وجود دولة قوية قادرة على حماية المواطن من الاستغلال الاقتصادي.ودعم ثورة 25 يناير واتجه للتصدى للتيارات الإسلامية ومشاركتها في العملية السياسية، كما دعم نظام ثورة 30 يونيو التي أطاحت بحكم جماعة الإخوان المسلمين.

حزب الكرامة

هو حزب سياسي ناصري التوجه تأسس في 1997 وظهر جليا في اعقاب ثورة 25 يناير، خاض الحزب أول انتخابات تشريعية بعد تأسيسه رسميا 2011-2012 وحصل على 6 مقاعد.


تراجع وانحسار

نشأ التيار اليساري في مصر منذ اوائل القرن العشرين مع وصول رياح الايديولوجيات الفكرية المختلفة التي حملها الطالب المصريين لدى عودتهم من الخارج، ورغم كم الخبرة التي يجب أن يكون اكتسبها هذا التيار إلا أننا لا نجد له أي دور أو وجود ملموس في الشارع، إنما تنحسر شعبيته بين أوساط المثقفين وبعض العمال.ويرجع تراجع دور اليسار إلى تعدد الجهات والاحزاب التي تعمل تحت مظلته، واتباع كل فريق لايديولوجية مخلفة عن نظيره لنفس الموضوع مما يشتت الهدف الرئيسي إلى أهداف ثانوية، فمثلا نجد أنه اختلاف واسعا بين أطياف اليسار المصري حول ثورتى 25 يناير و30 يونيو، ذلك الانقسام وعدم وجود أدوات اتصال قوية تعبر عن أفكاره أثرا على تواجد اليسار في الشارع وبين الجماهير، فنجده حاضر في المظاهرات والمؤتمرات دون وجود ظهير جماهيري له.كذلك نجد أن حالة من الانشقاقات تنتشر بين صفوف قوى اليسار وذلك بسبب فقدان اليات العمل المؤسسي والتنظيمي فكثير من هذه التنظيمات ترتبط بشخصية قيادية معينة، كما يعانى التنظيم من ترهل مؤسسي يحول الخلاف السياسي إلى خلافات شخصية، وكذلك فأن دور الشباب يكاد يكون مختفى نظرا لسيطرة كبار السن على المناصب القيادية، كل ذلك يسبب في النهاية حالة من الصراع يسفر عن تلك الانشقاقات.ولم تهتم قوى اليسار بتكوين تربة مشبعة بالأفكار اليسارية الاشتراكية يستطيعون من خلالها تحقيق أهدافهم، فنجدهم يسعون إلى تنظيم مظاهرات وحركات الاحتجاج دون نقل ثقافتهم الفكرية إلى الطبقات التي يمثلونها، وهو الأمر الذي يرجعه البعض إلى نشأت التيار اليساري في مصر متأثر بالتجربة الأوروبية دون محالة تكيفيها على الواقع المصري.ويتهم البعض التيار اليساري بالتخلى عن افكاره والسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية، فالواقع يشير إلى أن التنظيمات اليسارية توقفت عن المطالبة بالمساواة والاقتصادية والاجتماعية واتجت إلى تحالفات مع قوى مناوئة لها وذات توجهات فكرية مختلفة لمجرد الحصول على تمثيل في البرلمان أو الحكومة.


طوق النجاة

بناءً على ما سبق، يمكننا التأكيد على حالة الضعف التي تشمل كافة أطياف المجتمع اليساري في مصر، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن اليسار المصري يحتاج إلى الاقتراب أكثر من الشارع والأحتكاك بالطبقات الفقيرة والمهمشة للتعرف عن قرب على مشاكله وأهم أولوياته بعيدا عن النظريات الفلسفية، وعليه أيضا التوسع في أنشاء فروع وتوسيع رقعته الجغرافية لتغطي كافة مناطق البلاد، مما يساعده على خلق ظهير شعبي مؤيد له.كذلك عليه خلق نوع من التواصل مع القوى الأخرى المنتشرة على الساحة الساحة السياسية، يكون نواة هذا التواصل تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية بعيدا عن المصالح السياسية.وعلى اليسار ايضا التركيز على تطوير برامجه وهياكله المؤسسية حتى يستطيع من خلالها التعبير عن أفكاره ورؤيته وتحقيقها، كما عليه إعداد قيادات شابة عبر عملية تثقيفية واسعة لتكون كوادر قادرة على القيادة وتولى المناصب العليا.