الحياة قاسية، هذا ما تخبرنا به نشرات الأخبار، وحوائط التواصل الاجتماعي، والبرامج اليومية. الحياة قاسية ومؤلمة وهناك من يقتلون كل يوم، بل كل ساعة، بلا جريرة معينة، ودون أن يقترفوا ذنبًا سوى كونهم وجدوا في زمن يأكل الأبرياء ويشرب دماءهم وتسكره صرخات الأطفال.

الحياة قاسية ليس اليوم فقط، ولا من عام، أو خمسة أعوام، الحياة لم تصبح قاسية فجأة، والبشر لم يستوحشوا ليقتلوا بعضهم البعض مؤخرًا، القسوة موجودة منذ الأزل وستظل للأبد، نحن نرى قسوة اليوم «لايف»، ونرى قسوة الماضي في الكتب وعلى شاشات الأفلام، دائمًا ما كان الجنون يسيطر على البشر ويجعلهم يدينون بدين القتل.

يومًا ما كان هناك مجنون يبيد شعبًا «ليس شعبه فهو لم يكن مجنونًا لهذه الدرجة»، يجمعهم ويكدسهم في غرف الغاز ويعدمهم، الكثير قيل عن هذا المجنون المتعصب، معسكراته النازية حكى عنها التاريخ حتى التخمة، كان ما فعله من دمار وتخريب مادة ثرية لصناع السينما ليحكوا عن الحرب العالمية، ومعسكرات الألمان النازية، وزبانية هتلر وإبادتهم لليهود، الكثير من البكاء والدراما والأفلام المؤثرة، من ضمنهم الفيلم الذي نتحدث عنه اليوم، الشيء الوحيد المختلف أن فيلمنا هذا يحمل عنوانًا يقر أن «الحياة جميلة».


هل حقا الحياة جميلة؟

يدور فيلم «Life Is Beautiful» أثناء الحرب العالمية الثانية في إيطاليا، حيث شاب إيطالي، يهودي، لطيف، خفيف الدم، يشق طريقه في الحياة ويقابل فتاة جميلة يقع في حبها ويتزوجها ويرزقان بطفل، ثم يلقى القبض عليهم ويرحلون لأحد المعسكرات النازية، الأب مع الولد والأم في معسكر السيدات. منذ اللحظة التي يستقلون فيها حافلة الشرطة مكدسين مع جيرانهم يتساءل الابن عن وجهتهم، وبسرعة وتلقائية يجيبه الأب أن هذه مفاجأة قام بترتيبها مع الأم كهدية لعيد ميلاد الابن، وأنه سيخبره كل شيء عندما يصلون.

عندما يعرف الأب قوانين المعسكر يسخر كل قواه في إقناع ابنه الصغير أنهم في معسكر للعب، وأنهم لابد أن يبذلوا قصارى جهدهم للفوز بالمركز الأول ليربحوا دبابة حقيقية يعودون بها للمنزل، يراوغ الأب كل الظروف كي يجعل من نفسه حائط صد بين ابنه وبين قسوة المعسكر، وطوال فترة وجودهم بالمعسكر يفلح في استمرار إيهام ابنه أنهم يلعبون وأنهم يبلون بلاءً حسنًا.

يوشك الطفل أكثر من مرة على كشف الحقيقة، بل يقترب جدًا من أن يكون أحد المعدومين في غرفة الغاز بالمعسكر، وفي كل مرة يفلح أبوه في إقناعه أن اللعبة تصبح أكثر إثارة، وأنهم يقتربون جدًا من الفوز، وتنتهي اللعبة عندما يدخل الأمريكان للمعسكر، ويؤدي الأب آخر خطوة في لعبته المزيفة ليربح ابنه اللعبة حتى لو خسر هو كل شيء.


يبكي ويضحك

عندما سئل «بينيني»، بطل الفيلم ومخرجه الحائز على أوسكار أفضل دور رئيسي وأوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1997، عن الآراء المتباينة حول الفيلم، صرح بأنه تراجيديا قاسية، فالضحك والبكاء يخرجان من نفس النقطة في روحك، والفيلم لا يستهين بالهولوكوست ويصوره على أنه نكتة، بل يعمق المأساة لأقصى عمق لها حتى يضحكك من فرط الألم.

الفيلم مصنف على أنه كوميدي ودراما، ولكنك لن تضحك فيه أبدًا، ربما تبتسم بتعاطف، ولكن حتى ابتسامتك تلك سوف يصاحبها عيون دامعة. «روبرتو بينيني» يغير نظرتك للحياة قطعًا في هذا الفيلم، خاصة عندما تشاهده متأخرًا عن زمنه في زمن آخر أكثر قسوة.

الاختلاف الجوهري بين هذا الفيلم وبين كل الأفلام التي حكت عن مآسي الهولوكوست هو كم الرقة والإنسانية التي يستنفرها داخلك دون أن يعرض عليك مشاهد مبكية، وأطرافًا مبتورة، وقتلى مكدسين، ودماءً في كل صوب. دون ألم مباشر استطاع الفيلم أن يصل لأقصى نقطة مؤلمة ويضغط عليها بشدة، فأقسى الضحك هو أن تضحك من البراءة التي تساق لمصير مؤلم، وهي مستبشرة ولا تعرف ما ينتظرها.


الحب في مواجهة الألم

يقولون إن الحب بإمكانه أن ينتصر على كل شيء، نحن الآن نرى ما يحدث حولنا في العالم ونوقن أن هناك أشياء لا يقدر الحب على مواجهتها والانتصار عليها، هناك شعوب يبيدها حكامها بدم بارد، هرب الحب من هذه البلاد خوفًا من القتل، وترك البشر يتساقطون، لا مزيد من الرومانسية، الحب لا يستطيع الوقوف أمام قاذفات اللهب والقنابل والأسلحة الكيميائية والطائرات.

في الفيلم استطاع الحب أن يواجه الألم، أن ينقذ الأحباء من الموت حتى لو كان الثمن مدفوعًا مقدمًا دون ضمانات، في الفيلم راهن الأب على أن حبه لابنه وزوجته سوف ينقذهما، تمسك بهذا الأمل حتى آخر لحظة، حتى آخر غمزة من عينيه لعيني طفله القابع في صندوق الهاتف، كان الحب أقوى من هتلر ومن أفران الغاز ومن الهولوكوست.

الحب أقوى من الألم، على الشاشات وفي الأفلام، أما اليوم. حسنًا. فلنكن واقعيين، لا حب في هذه البلاد.