بتصفح مجموعات القراءة على الفيس بوك بحثاً عن عنوان جديد لرواية لم أكن قرأتها، صادفت منشوراً يتحدث عن رواية لا أعرف محتواها، فوجدت فتاة كتبت تعليقاً تخبرنا فيه أن هذه الرواية هي ما جعلتها تذهب للطبيب لأنها عرفت أنها تعاني مشكلة حقيقية.

هذه الرواية غيرت حياتها بشكل حرفي، أخذني الفضول وقرأت الرواية، وهنا يجب أن أعترف أنني وقعت في غرام الأدب مرة أخرى، وترسخ إحساسي أن الفنون والآداب إحدى الضرورات الحيوية للإنسانية، ليس لأن الرواية تحفة أدبية، ولكن لأنها أثبتت للمرة التي لا أعرف كيف أحصيها، أن الأدب والرواية والخيال والفن قادرون على تشكيل وجه العالم، وتغيير الإنسانية ودفعها نحو الأفضل.

نسخة معيبة

كارو أنت لست الجائزة الكبرى، أنت نسخة معيبة، ولكنك نسخة معيبة ساحرة وتستحقين الحب.

تحمل الرواية التي صادفتها عنوان «نسخة معيبة»، وهي تحكي عن فتاة تعمل بالعلاقات العامة تكتشف فجأة أنها تعاني من مرض الاكتئاب، وتصحبنا الكاتبة «سارة كوتنر» في رحلة لنصحب «كارو هيرمان» في مشوار تعرفها على نفسها وعلى مرضها وكيف تناضل بشجاعة للشفاء، ننغمس مع كارو في عالمها الفوضوي المرح الذي لا يحدث فيه تقريباً شيء على الإطلاق، ورغم ذلك فإن تغييرات جذرية تحدث فيه في كل لحظة.

الرواية تشبه الواقع تماماً، فرغم أنها تدور في عالم عادي وبطيء دون أحداث كبرى ومفاجآت وتشويق وإثارة، دون قصص أسطورية وملحمية فإن العالم يدور، وفي دورانه هذا يحدث الكثير من الأحداث الصغيرة التي تشبه تأثير الفراشة، فيتغير كل شيء فيك، ويتغير كل شيء من حولك، لذلك فإن الرواية في حديثها عن معاناة كارو وشخصيتها وتقلباتها، تغير في وجه العالم أشياء وأشياء، أشياء تعجز مؤتمرات الطب النفسي عن تغييرها، الرواية تخاطبنا جميعاً، تغير وجهة نظرنا عن مرض الاكتئاب دون كلام علمي صارم غير مفهوم، ودون ضغط على أعصاب من لا يعانون من الاكتئاب وإشعارهم بالذنب والمسئولية كما تحاول المنصات غير المتخصصة أن تفعل، ودون أن تشعرك –لو كنت أحد مرضى الاكتئاب– بالوصم والوحدة.

استطاعت سارة كوتنر الصحفية الألمانية الشابة في أول إنتاج روائي لها أن تمس العالم،العالم الجديد القاسي الصعب الذي يصيب الكثيرين بالاكتئاب، والذي يصعب فيه الحصول على علاقة عاطفية جيدة، والذي يفقد فيه الجميع وظائفهم وتتفسخ علاقاتهم الأسرية،استطاعت أن تمس العالم كله وتجمعه في ثلاثمائة وخمسين صفحة تقريباً، في رواية هادئة لا تحدث فيها أحداث فارقة في عرف العالم.

كيف يغير الفن العالم؟

ترى آنيت مثلاً أنه ليس مطلوباً مني أي شيء، وأن الأمر ليس مرتبطاً بالشفاء أو بالوصول إلى الكمال، الأمر يتطلب مني فقط أن أقبل الوضع الذي أنا عليه الآن بكل ما يساورني من مخاوف لأن لها ما يبررها.

ما الهدف من الفنون؟ باعتبار أن الأدب هو أحد أنواع الفنون بالطبع، فالهدف من الفن هو التسلية والمتعة في المقام الأول، وباعتبار الأدب أحد أرقى أنواع الفنون فيمكن اعتبار تحسين جودة الحياة وإفادة البشرية والدفع نحو التغيير للأفضل هي أيضاً أهداف منطقية للفن، حسناً، هل يمكن أن نعتبر أن رواية واحدة لصحفية شابة يمكن أن تفعل ذلك؟ أم أن في هذا نوعاً من المبالغة؟ الإجابة على هذا السؤال تحتاج بعض التحليل.

ليس مطلوباً من الرواية أو أي نوع من أنواع الفن أن تغير العالم تغييراً فورياً على طريقة الآن تراه الآن لا تراه، بل لو غيرت شيئاً واحداً في شخص واحد، فهي قد أدت المطلوب وغيرت العالم بالفعل للأفضل وبالتالي ساهمت في تحسين جودة الحياة، ومرض الاكتئاب في العصر الحالي وفقاً للجمعية الأمريكية للطب النفسي هو مرض يصيب واحدًا من كل خمسة عشر شخصًا بالغًا، وأن واحدًا من كل ستة أشخاص يعاني من أحد أعراض الاكتئاب أو أكثر في مرحلة على الأقل من مراحل حياته، وبالتالي فنحن هنا نتحدث عن مرض حقيقي معترف به، ورغم ذلك فإنه ما زال لا يلقى قبولًا مجتمعياً كافياً حتى خارج المجتمعات العربية، ومرضى الاكتئاب يشكون بشكل أساسي من عدم حصولهم على الدعم الكافي سواء من أسرهم أو من مجتمعاتهم.

في رواية نسخة معيبة تحاول الكاتبة بسلاسة أن تعرف القارئ على مرض الاكتئاب، وتقدم نموذجاً مناضلاً لفتاة قوية وذكية تريد الشفاء، حتى أن رغبتها الكبيرة هذه في الشفاء تعطل تعافيها، فتعطيها الكاتبة الفرصة لالتقاط أنفاسها وتعلمها كيف تتعامل مع مرضها، وتعلم القارئ كيف يتعامل مع شخص يشبه كارو بطلة الرواية، أو حتى يتعامل مع نفسه إذا ما اكتشف فجأة أنه هو نفسه كارو هيرمان المصابة باكتئاب مزمن.

أنت تحتاج المساعدة

مدام هيرمان ألم تلحظي أي شيء؟ أنت في منتهى الذكاء والواضح أنك تملكين قدراً كبيراً من معدل الذكاء الشعوري بمعنويات الآخرين، إلا أن كل هذه الصفات لا تنطبق عليك أنت، ولا تنفذينها مع نفسك، فأنت تسرعين الخطى أمام أحاسيسك، حاملة لوحاً كبيراً يمنع نفاذها إلى داخلك.

كم مرة فخرت بنفسك لأنك تستطيع المرور بين الأحداث المدمرة دون أن تحترق روحك؟ كم مرة شعرت أنك قوي وشجاع لأنك تستطيع التحكم في مشاعرك ولا تترك الأحزان التي تخلفها الصدمات العاطفية مثلاً في تشويه نفسيتك وإصابتك بالاكتئاب؟ كم مرة شعرت أنك انتصرت على أحداث ضخمة جداً في حياتك دون أن تخسر نفسك؟ ثم أخبرني بأمانة، كم مرة انهرت دون أسباب منطقية؟ أو اضطرب نومك، أو فقدت شهيتك أو أكلت بنهم غير معتاد؟ كم مرة شعرت أن هناك شيئاً ما خطأ، وأنك حزين جداً دون أن يحدث شيء؟

الرواية هنا تدهمك بحقيقة أن ما تفعله ليس نجاحاً على الإطلاق، أنت قوي الشخصية فعلاً، ولكنك تظلم نفسك ولا تساعدها بطريقتك تلك، تفعل الرواية ذلك دون محاضرات ودون تأنيب ودون شعارات، تنير لك درباً صغيراً كان معتماً، ولكنك تعرف أنك تعرف مكان الزر الذي يجب أن تضغط عليه لترى، الرواية تضغط هذا الزر عنك، فتتكشف الحقائق.

رواية نسخة معيبة رواية جيدة جداً على المستوى الإنساني، ومهمة لإنسان هذا العصر بالتحديد، رغم أنها أدبياً لا تحمل تميزاً من نوع خاص، ولكنها مهمة، والأهم أنها تمارس دورها التثقيفي دون إملال، بقي فقط أن نشير إلى أنها ترجمت من الألمانية للعربية على يد ناهد الديب، ترجمة جيدة ولكنها تفتقر للمراجعة، فهي تخلط العامية بالفصحى، ليس بطريقة مقصودة ومحترفة، ولكنك تشعر أن المترجمة كانت منهمكة في الترجمة فلم تلحظ أنها خرجت عن سياق الترجمة اللائقة، ولكنها مقروءة ومفهومة، بل وأحياناً خفيفة الدم.