يعد كتاب اللفياثان للفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، الذي صدرت أولى طبعاته في لندن عام 1651م، أحد أهم الأعمال الكلاسيكية في النظرية السياسة الغربية، بجانب كتاب الأمير لميكيافيللي -الذي دشن لفصل علم السياسة عن علم الأخلاق-، إذ جاء الليفاثيان بعد الكتاب الأخير ليؤسس لمفهوم نظري جديد لطبيعة الدولة، تزامن تاريخيًا في ولادته مع انعقاد صلح ويستفاليا في عام 1648م الذي أنهى حرب الثلاثين عامًا، ودشن لميلاد مفهوم الدولة الحديثة قانونيًا وسياسيًا.

وقد جاء اللفياثان في هذا السياق التاريخي كتعبير عن نتاج المخاضات التي أفضت لها تلك الحرب، حيث خرجت الدولة الأوروبية الحديثة عمليًا من تلك الحرب كتنين مرعب كما الوحش البحري التوراتي المخيف المذكور في سفر أيوب بالعهد القديم، والمسمى بـ«ليفاثان»، الذي استخدمه توماس هوبز كتجسيد رمزي لها ولطابعها القائم على القوة والعنف، وهي شاكلتها التي استقرت عليها بعد ذلك، وتم التعبير عنها من خلال العديد من التمثيلات والتناولات النظرية لاحقًا، ومن أشهرها في هذا الإطار رؤية من عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، في تناوله للأساس الذي تقوم عليه الدولة الحديثة، و هو فكرة احتكار العنف والقدرة على تنظيمه.

و قد كانت تلك القضية؛ أي ارتكاز الدولة الحديثة على مبدأ احتكار العنف وتنظيمه، كما هو معروف، هي إحدى أهم ركائز نقد مدرسة فرانكفورت النقدية في العلوم الاجتماعية بوجه خاص، ومدارس ما بعد الحداثة بشكل عام، للسلطة الغربية الحديثة، والذي انتقلت تأثيراته إلى بعض النخب في العالم الإسلامي التي تجاوزت الإسلاموية المعاصرة، وقدمت العديد من الأطروحات في نقد الحركات الإسلامية منذ سنوات، وفق أسس مشتركة تتقاطع كثيرًا مع أطروحات مدراس ما بعد الحداثة الغربية في نقدها للدولة الحديثة للحداثة بشكل عام.

وتمثل المفاهيم السياسية التي وردت في كتاب اللفياثان، ومن قبله في كتاب الأمير للميكيافيلي، والتي فصلت الدولة عن المعايير الأخلاقية المستمدة من الدين، أن تكون النقيض الموضوعي للتصورات الدينية للدولة، والتزاماتها الأخلاقية، المتجاوزة للأفق النظري القروسطي المحدود لعالم السياسة، كالأطروحات المعاصرة التي قدمها على سبيل المثال الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في كتبه: سؤال الأخلاق، روح الحداثة، فقه الفلسفة، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، والعمل الديني وتجديد العقل، أو كأطروحة البروفسور وائل حلاق عن مفهوم الدولة في الإسلام، التي قدمها في كتابه «الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي».


و لعلنا إذا أردنا تجسيدًا رمزيًا للدولة في التصور الإسلامي في إطار مقارن مع نموذج وحش اللفياثان من الكتاب المقدس، فلن نجد ربما في هذا السياق خيرًا من نموذج ناقة صالح في القرآن الكريم، التي لم تخرج من الماء كاللفياثان، بل خرجت في المقابل من صخرة جامدة ميتة، في مفارقة عميقة بينهما منذ البداية، والتي تصفها الآيات بأنها: {نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}، وذلك لأنها كانت تشرب يومًا بأكمله لا يستطيع فيه الرعاة أن يسقوا فيه، ثم تأتي في اليوم اللاحق تسقي لبنًا يشرب منه جميع الناس.

و تسرد الآيات تحذير صالح لقومه بقوله: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، إلا أن كبار الملأ تآمروا بنهاية المطاف على تلك الناقة، وخرج أحدهم في الأخير و قتلها، وكان في هذا الفعل نهايتهم كما تخبر الآيات {فعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَاركُمْ ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِكَ وَعْد غَيْر مَكْذُوب}.

والناقة كما تذكر الآيات تطلبت تضحية يجب أن يدفع ثمنها الناس طيلة يوم بأكمله، ولكنها كانت ترد في مقابل تلك التضحية بفائدة أكبر تطال الجميع في اليوم التالي، وهو ما يتفق في أعلى مستوى من ممكناته التأويلية المتجاوزة لحدود الحدث وتفاصيل وقوعه وحسب، مع فكرة الشرعة الأخلاقية التي تمثل الجوهر المشترك للشرائع الدينية، والتي إن كان يقتضي الالتزام بها إلى قدر من التضحية من البشر بصورة مؤقتة، إلا أن ثمرته عمومًا تفيض بالخير العام الذي يتجاوز آحاد الناس ويطال الجميع بالنهاية.

والقرآن يقول في هذا السياق: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، حيث تخبرنا هنا هذه الآيات من سورة يوسف أن القصص القرآني هو سرد لوقائع حقيقية حدثت بالفعل، ولكنها تحمل مضمونًا اعتباريًا في صميمها يحتاج منا إلى بعض التأمل والتدبر.

وقصة الناقة ليست وحدها في هذا الإطار، بل هي جزء من سياق قصصي قرآني كبير مليء بالإشارات الضمنية العميقة التي تحتاج ربما إلى المزيد من تسليط الضوء عليها من قبل المعنيين بالتأويل القرآني، فقصة الخضر التي حدثت مع النبي موسى والتي وردت في سورة الكهف بالقرآن الكريم، تحمل، على سبيل المثال، إشارات قوية أبعد من مجرد السرد لأحداث قد جرت، إذ تشير وقائعها من بعيد لفكرة حكمة القدر الخفية التي لا يدركها أحد.

تتخذ القصة من الخضر ذاته وأفعاله غير المفهومة التي يقوم بها، تجسيدًا لفكرة القدر الإلهي الذي يحمل معنى مجهول الحكمة في هذه الحياة، إذ نرى أفعال الخضر كما جاء في سياق السرد القرآني تجاوزت الفهم التقليدي لقضية الخير والشر، تمامًا كمجريات القدر، وهو ما جعل نبيًا من أولي العزم لا يستطيع أن يصبر على كتمان حيرته وتساؤلاته كما تعهد للرجل، من عجب المفارقات التي تجري أمامه.

و تأتي كذلك في نفس السياق أيضًا قصة أصحاب الجنة في سورة القلم، التي تجسد لنا آيات القرآن فيها نهاية ومصير المجتمع الذي يغيب فيه التراحم والتضامن ويضيع خلاله معنى العدل الاجتماعي.

و بالعودة في هذا الإطار إلى المعنى وراء ناقة صالح، فيجدر بالذكر في النهاية أن النبي الذي أسس دولة كاملة بجانب دعوته الدينية كان قد وصف رسالته بالقول: {إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق}، بل وربطت آيات القرآن على مستوى آخر أكثر، حقيقة الدين والإيمان بالخير الفطري والتراحم والتكافل بين البشر، كما في سورة الماعون التي يقول مطلعها: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}.

و قد ربط القرآن مفهوم الخلاص، ليس فقط بالمعتقد ولكن تحديدًا بمد يد العون للمستضعفين في هذه الحياة، وقد أوردت آيات القرآن ذلك في الترتيب حتى قبل الإيمان نفسه، كما جاء في سورة البلد في قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.

وفي هذا السياق الأخلاقي المتجاوز للمفاهيم الدينية السائدة اليوم لدى الكثير من المسلمين، عندما أمر النبي ألا يتصدق إلا على فقراء المشركين، نزلت هذه الآيات التي تستحق الكثير والكثير من التأمل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}.

وقد كانت الرسالات الكبرى السابقة للإسلام، الذي يتصل بها من خلال النسق الإبراهيمي الواحد الذي يسميه القرآن بـ«ملة إبراهيم »، ترتبط كلها بغايات ذات أبعاد أخلاقية واضحة، فرسالة النبي موسى قد جاءت بدايةً لتحرر بني إسرائيل من الطغيان والظلم والهائل الذي تعرضوا له في مصر القديمة، وفي هذا الإطار كانت كذلك رسالة المسيح التي واجهت فساد وقسوة المجتمع اليهودي قبيل الشتات والخراب الثاني للهيكل.


ولا يخفى أن البعد الأخلاقي رغم جوهريته قد غام في الخطاب الديني للعالم الإسلامي منذ زمن طويل، بل وحدث انفصام تاريخي بين المعنيين الديني والأخلاقي لدى المسلمين منذ أمد بعيد، وتحولت رؤية المسلمين ولاسيما الإسلاميين المعاصرين إلى الدولة في الأزمنة الحديثة بعد قرون من الفقه السلطاني المنحاز دومًا لحكم التغلب و القهر، بغض النظر عن أي معايير أخلاقية في هذا الشأن، إلى «ليفاثان إسلامي» كما عبر سيد فالي رضا نصر، في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه، أو كما عبر المودودي عفو الخاطر في تصوره للدولة في الإسلام قائلاً: «إنها تشبه الحكومات الفاشية والشيوعية بعض الشبه»، وهو ما جعل الدولة في أدبيات حركات الإسلام السياسي والحركات الجهادية المعاصرة بالنهاية أشبه بالطاغوت.

و لا يرتبط في هذا الإطار، ذلك الخطاب السائد للحركات الإسلامية بشتى مشاربها، فكرة إقامة شرع الله في الأرض، بأي معانٍ أخلاقية واضحة، رغم أن القرآن يربط بشكل واضح كل تلك المعاني، إذ نجد هذا في تناول القرآن للجهاد على سبيل المثال، الذي لا يحض عليه الله من أجل بناء إمبراطورية ما للمسلمين، بل لنصرة المستضعفين كما جاء في الآية الـ75 من سورة النساء: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}.

وقد آن الأوان اليوم ربما أكثر من أي وقت مضى، لمراجعة الخطابات والأدبيات والتصورات الإسلامية السائدة التي غيبت الوجه الأخلاقي للإسلام، لاستعادة حضوره من جديد، حتى لا يفتتن المسلمون أنفسهم في دينهم في الأخير، ويتجهون إلى تخطيه عقائديًا وروحيًا بالنهاية كما انتهى الحال بالكثيرين خلال السنوات القليلة الماضية، لاسيما بعد الصعود السياسي لحركات الإسلام السياسي في بداية الربيع العربي، وبعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، الذي أدى توحشه غير المسبوق وهول ما يقترفه، إلى طرح أسئلة جوهرية كثيرة حول الدين والدولة والعنف وعن قضية الحريات في الإسلام، قد تظل معلقة ربما إلى سنوات عديدة، إلى أن نعيد اكتشاف ذلك الوجه الأخلاقي للإسلام المتواري منذ قرون.