في عام 2008 بدأت شركة مارفيل مشروعها الطموح تحت عنوان «عالم مارفيل السينمائي» لصناعة ملحمة طويلة ممتدة تضم عددًا كبيرًا من الأبطال الخارقين. لكل من هؤلاء الأبطال سرديته الخاصة والتي صدرت في سلاسل منفصلة عبر قصص مارفل المصورة (كوميكس) في انطلاقتها الثانية على يد ستان لي بدءًا من عام 1961 والتي استمرت حتى اليوم. في عالم مارفيل السينمائي تتداخل هذه السرديات المنفصلة لتشكل سردية واحدة ممتدة عبر أزمنة وأماكن مختلفة، وهي السلسلة السينمائية التي تجاوزت العقد من الزمن، وبلغت إيرادات أفلامها أكثر من 20 مليار دولار على المستوى العالمي.

على النقيض من ذلك، جاءت سردية مارفيل التلفزيونية عبر مجموعة أوسع من الأبطال الخارقين، أغلبهم أقل شهرة من أبطال العالم السينمائي، كما أنها لا تنتظم في سردية واحدة، وإنما تدور في عوالم وأزمنة مختلفة ومنفصلة، وتقوم بإنتاجها مجموعة مختلفة من الشبكات التلفزيونية والمنصات الإلكترونية. بدأت السردية التلفزيونية عام 2015 من خلال مسلسلي «Agent Carter»، و«Jessica Jones».

كما يضم العالم التلفزيوني مجموعة من أبطال العالم السينمائي أيضًا في أعمال مثل «The Falcon and the Winter Soldier» والذي يضم شخصيتي سام ويلسون، وباكي بارنز (فارس الشتاء)، وهناك أيضًا مسلسل «WandaVision» والذي يدور في إطار قصة الحب التي تجمع بين البطلة الخارقة «واندا»، والذكاء الاصطناعي «فيجن». أما آخر إصدارات العالم التلفزيوني وأكبرها حتى الآن فهو مسلسل «Loki» والذي يستكشف شخصية لوكي الأخ الأصغر لثور إله الرعد.

تباين الأزمنة في عوالم مارفيل

يبدأ مسلسل «Loki» من نقطة أقدم زمنيًا في عالم مارفيل السينمائي وتحديدًا عام 2012. في فيلم «Avengers: Endgame» ينتقل أبطال الأفنجرز إلى عام 2012 في مسار زمني موازٍ لمحاولة استرجاع حجر «التيسيراكت». تفشل المحاولة بعد وقوع الحجر في يد لوكي الذي يختفي على الفور بعد إمساكه، ومن هنا يبدأ الخط السردي لمسلسل «Loki» من لحظة اختفائه في العالم السينمائي.

لا يكاد لوكي يهرب من المنتقمين حتى يلقى القبض عليه مرة أخرى بواسطة ما يسمى «سلطة تباين الزمن» وذلك لارتكابه جرائم ضد «الجدول الزمني المقدس». نفهم من الحلقة الأولى أن لوكي استخدم حجر التيسيراكت للانتقال من مساره الزمني إلى مسار موازٍ، ونعرف كذلك أن هناك عددًا لا نهائيًا من المسارات الزمنية التي تضم تنويعات مختلفة من نفس الأشخاص والأحداث. كل هذه المسارات الزمنية تنتظم معًا فيما يسمى «الجدول الزمني المقدس» والذي تقوم على حراسته «سلطة تباين الزمن» لمنع التداخل بين هذه المسارات المختلفة بما يخلق صراعًا هائلًا بين سكان كل منها.

هكذا منذ البداية، يطالعنا مسلسل «Loki» بكم كبير من المعلومات والتفاصيل المركبة والمتداخلة والتي تؤسس لعالم جديد بالكلية، وتفتح المجال لاحتمالات لا نهائية لما يمكن أن يحدث، ليس في هذا المسلسل فقط، ولكن في عالم مارفل ككل. هذه العوالم والمسارات الزمنية الجديدة تفرض بالضرورة تعقيدات جديدة على السردية الأعم والأشمل لعالم مارفل، والتي هي بالفعل على قدر كبير من التعقيد إذ تمتد سلسلة العالم السينمائي إلى 24 فيلمًا حتى الآن، بالإضافة إلى 10 آخرين تحت الإنتاج.

يرتبط التعقيد كذلك بالاقتباس المجتزأ من الأصل الأدبي (الكوميكس) إذ يعتمد صناع المسلسل على إلمام المشاهد بالكثير من تلك التفاصيل عبر سلسلة القصص المصورة، ومن ثم فلا حاجة لمعالجة كل التفاصيل في العمل التلفزيوني بما أن المشاهد المخلص للقصص المصورة يعرف الخلفية التاريخية الكاملة، ولا يحتاج إلى التوسع في التأسيس لهذا العالم أو شخصياته، وهو ما أثر بشكل كبير على منطقية النهاية وهو ما سنتطرق إليه بالتفصيل في الفقرة الأخيرة من هذا المقال.

على الرغم مما قد يبدو من انفصال بين الأعمال المختلفة في عالم مارفل التلفزيوني، ولا سيما الأعمال الثلاثة الأخيرة، فإن مسلسل «Loki» ينفي هذه الفكرة بشكل أو بآخر، ويمثل انعكاسًا واضحًا لإستراتيجية مارفل المستقبلية إزاء عالمها السينمائي الشاسع الذي يواصل جني المليارات تلو المليارات.

تحذير: الفقرات التالية تتضمن مناقشة أحداث المسلسل ونهايته

لوكي: تنويعات لا تشبه الأصل

لوكي هو أحد أكثر الشخصيات جاذبية في عالم مارفيل، ونموذج رائع لنقيض البطل Anti-hero. رغم حقيقة كونه الأخ الأصغر لثور، إله الرعد وأحد أشهر الأبطال الخارقين، إلا أن لوكي لم يكن شخصية ظل هامشية، وكان دائمًا محركًا للأحداث ومثيرًا للصراع. علاقته بثور، وبالأحرى غيرته منه، هي أحد المحددات الرئيسية لشخصيته. قدرته الفائقة على التحايل والخداع هي أبرز أسلحته ومواطن قوته. لا يخلو من جانب مظلم، ولا تنقصه أيضًا خفة الدم. توليفة مميزة وثرية للغاية من الخصائص التي تجعل من لوكي شخصية جذابة ومغرية بخط سردي منفصل وبما ينبئ بمسلسل قوي بالتأكيد، العقبة الوحيدة هي صناع المسلسل الذين قرروا الانقلاب على كل الملامح المميزة للشخصية.

في أول حلقات المسلسل نعرف أن المقر الرئيسي لسلطة تباين الزمن يقع خارج الجدول الزمني المقدس، ومن ثم خارج كل المسارات الزمنية، ولهذا لا تنطبق عليه نفس القواعد الفيزيائية الخاصة بهذه المسارات. تخبرنا هذه المعلومة الإضافية -والتي تزيد من تعقيد الخط السردي- أن أحجار الأبدية تصبح منعدمة القيمة ومن ثم لن يستطيع لوكي الهرب حتى بعد استرجاعه حجر التيسيراكت، وكذلك تنعدم قدراته الخاصة على الاختفاء أو الحلول في أشكال أخرى. أما مهاراته في الخداع فيتم اختزالها في قيامه بسرقة مفتاح التحكم من جيب المحقق موبيوس.

يستبدل صناع المسلسل كل الملامح المميزة لشخصية لوكي بمحاولة شديدة الفقر لإضفاء عمق درامي في صورة رحلة تعرف على الذات وتحول إلى نسخة أفضل. في الحلقة الأولى، وفي مشهد طويل للغاية يقوم فيه موبيوس بالتحقيق مع لوكي، وهو المشهد الذي يدور في إطار يشبه إلى حد كبير برامج «التوك شو» الأمريكية، يستعرض موبيوس على الشاشة مجموعة من المشاهد التي يظهر فيها لوكي في عدد من أفلام عالم مارفل السينمائي، ليذكر لوكي بجرائمه السابقة. يعقب ذلك حوار طويل يلقي فيه موبيوس مجموعة من الأسئلة السطحية والمباشرة التي يفترض كتاب المسلسل أنها ستساعد المشاهد على فهم أعمق للشخصية. من هذه الأسئلة: «ما الذي تود أن تفعله بعد خروجك من هنا؟»، ومنها أيضًا: «هل تستمتع بأذية الناس؟»، ويجيب عليها لوكي بكلمات رنانة لا تخلو من الابتذال وادعاء العمق، كأن يقول: «الكذبة الأولى والكبرى هي أغنية الحرية. الاختيار يولد الندم والعار وعدم اليقين.».

هذه المعالجة الفقيرة لشخصية لوكي لم تفقدها جاذبيتها وحسب، وإنما دفعتها إلى الهامش كذلك. في الحلقة الأولى ينشغل المشاهد عن الشخصية الرئيسية أغلب الوقت في محاولته لإدارك هذا الكم الكبير من التفاصيل المعقدة التي يعج بها هذا العالم الجديد. وفي الحلقة الثانية يبدأ الانخراط في مواجهة تقليدية بين الخير والشر ممثلًا في شخصية مجهولة هي «المتغير» الذي يقوم بقتل أفراد سلطة التباين، والذي من المفترض أنه أحد تنويعات «لوكي»، وبنهاية الحلقة نكتشف أنه شخصية أنثوية تدعى «سيلفي». في الحلقة الثالثة نتعرف على القصة الخلفية لشخصية «سيلفي» وسعيها للانتقام من سلطة تباين الزمن. ثم تتوالى الحلقات الستة التي يتراجع فيها دور لوكي (الشخصية الرئيسية) ويظهر بشكل سلبي بينما تتحرك الأحداث برغبات وأفعال باقي الشخصيات من حوله، حتى النهاية التي لا يكون له فيها أي دور حقيقي.

عودة لوكي ونهاية مارفل

في الحلقة الأخيرة من مسلسل «Loki» تظهر شخصية «الخالد» الرجل الذي صنع الجدول الزمني المقدس، وأنشأ سلطة تباين الزمن، وبالتبعية المتحكم في كل المسارات الزمنية. بدلاً من المواجهة المباشرة في صورة معركة ضارية كما هو المعتاد في مثل تلك الحالات، يدور الجزء الأكبر من الحلقة الأخيرة في صورة حوار طويل وجدالات مستمرة بين كل من لوكي وسيلفي من ناحية، والخالد من ناحية أخرى. خلال هذا المشهد الحواري الطويل، يقص «الخالد» على لوكي وسيلفي قصة نشأة الجدول الزمني المقدس، ليضيف المزيد من المعلومات والتفاصيل ومن ثم المزيد من التعقيد على هذا العالم، ثم تنتهي الحلقة بمفاجأة غير متوقعة، والكثير من الخطوط المفتوحة، وجملة طبعت على الشاشة تقول: «سيعود لوكي في الموسم الثاني».

إذا كنت من القراء المخلصين لسلاسل القصص المصورة التابعة لمارفل لن يستعصى عليك فهم النهاية. أما إذا لم تكن على اطلاع بهذه السلاسل -مثلي- ستعرف بعد عملية بحث قصيرة أن هناك الكثير من التفاصيل التي خفيت عليك، منها مثلا أن «الخالد» هو نفسه أحد شخصيات القصص المصورة الذي يدعى «كانج الفاتح» أو Kang the Conqueror، وستعرف أيضًا أن مارفل قد أعلنت أن هذه الشخصية ستظهر في الجزء الثالث من سلسلة البطل الخارق Ant-Man، وسيقوم بأدائها الممثل جوناثان ميجورز الذي قام بأداء شخصية الخالد في الحلقة الأخيرة من مسلسل لوكي. ستعرف أيضًا أن شخصية القاضية رافونا التي انتهت قصتها نهاية مفتوحة وغير مفهومة هي في الأصل الأدبي عشيقة «كانج الفاتح». هل يمكن للأمور أن تتعقد أكثر من ذلك؟ الإجابة: بلى.

كما أشرنا في المقدمة، اعتمد مشروع مارفل منذ بدايته على تعظيم الاستفادة من سرديات الأبطال الخارقين عبر جمعها في سردية واحدة متداخلة وشاملة. لم يتوقف الأمر على مشاهير الأبطال في عالم الكوميكس، بل تم الاستعانة بعدد من الأبطال الأقل شهرة مثل أبطال سلسلة «حراس المجرة» وهي التجربة التي نجحت بكل تأكيد، وكفلت للمشروع الاستمرار لعقد ونصف، وعلى ما يبدو أن هذا النجاح قد حفز مارفيل للاستمرار في تضخيم عوالمها لتعظيم المكسب إلى حده الأقصى.

سردية المسارات الزمنية المتباينة، والجدول الزمني المقدس هي سردية مشوقة بكل تأكيد، ولكنها تفتح الباب لاحتمالات لا نهائية لتضخيم هذه العوالم، وهو ما يتطلب المزيد من التفاصيل والتعقيدات التي لن يستطيع المشاهد مجاراتها مع هذا الكم الكبير الذي ينتظره من الأفلام والمسلسلات والسرديات المتداخلة، وهو ما سيفضي في النهاية إلى تقلص جمهور مارفل بشكل كبير ليقتصر على قراء الكوميكس المخلصين والقادرين على فهم كل هذه التعقيدات، من يعرفون من هو «الخالد» أو «كانج الفاتح»، ومن يعرفون أين ذهبت رافونا. الاستمرار في إستراتيجية التضخيم والتعقيد لن يؤدي إلى المزيد من المليارات، وإنما سيكتب فصل النهاية في قصة مارفل.