يبحث الناس دائماً عمن يقوم بدور البطل،ليس في السينما وحدها، ولكن في الحياة أيضاً، في ملاعب الكرة، في المصانع، الجامعات، في كل مكان. يمنحهم وجوده الثقة، الأمان، والكثير من الأمل.

على سبيل المثال فقد انتهت منذ أيام انتخابات رئاسية مصرية كانت محسومة قبل أن تبدأ، لرئيس يبدو مرجحاً من الآن أنه لن يقنع بمدتين. حصدت فيها الأصوات الباطلة رقماً تجاوز أصوات المرشح الثاني. ربما لو تكفل أحد بفرز هذه الأصوات الباطلة لوجد أن نسبةً كبيرةً منها تذهب لشخص هو بطل المصريين الحقيقي في هذه الأيام؛ إنه لاعب كرة القدم المصري «محمد صلاح»، أو كما تناديه جماهير فريقه الإنجليزي ليفربول «الملك المصري».

بين كل حكايات الملوك السابقين، تذكرنا حكاية صلاح بحكاية ملك آخر، ملك تجسدت مملكته في ملاعب الكرة الإنجليزية أيضاً، إنه لاعب فريق مانشيستر يونايتد في أوائل التسعينات، الفرنسي «إريك كانتونا»، أو كما اعتادت جماهير فريقه وصفه «الملك».

في ملاعب الكرة، عالم السينما، معترك السياسة، في الحياة، تشترك الجماهير في شيء واحد، البحث عن حكاية. وكما نعرف، دائماً لكل حكاية بطل.


الملك كانتونا

يمكنك أن تغير زوجتك، انتماءك السياسي، دينك، ولكنك لا تستطيع أبداً، أبداً، أن تغير فريقك المفضل.

تدور أحداث فيلم «Looking For Eric» عن حياة رجل إنجليزي كهل يعمل كساع للبريد. وظيفة قاربت على الاندثار، وهكذا تبدو حياته أيضاً. تركته زوجته ولا يجرؤ على مخاطبتها رغم ما بينهما من حب قديم. يسخر منه أبناؤه ولا يلقون له بالاً. وتبقى كرة القدم وسط كل هذا كشغفه الوحيد الباقي، فتبدو اجتماعاته مع رفاقه في التشجيع من صغار الموظفين والعمال كمتنفس وحيد يعبر فيه عن نفسه ويستعيد ثقته وشبابه الماضي.

«إريك» هو اسم هذا الرجل، وهو الاسم الأول لبطله أيضاً، فحينما يجتمع أصدقاؤه ويتحدث كل منهم عن رمز القوة والأمل بالنسبة له، يذكر أحدهم الرمز الشيوعي الراحل «فيدل كاسترو» بينما يذكر آخر المناضل السلمي الهندي «مهاتما غاندي»، وحينما تصل الكلمة لإريك يخبرهم بلا تردد أن بطله هو «إريك كانتونا» لاعب الكرة الأفضل بالنسبة له على الإطلاق.

يقف إريك في منزله المتواضع أمام صورة معلقة بالحجم الكامل لإريك كانتونا، ينظر إليه، ثم يرفع ياقة قميصه كما اعتاد كانتونا أن يفعل، وبين لحظة وأخرى يبدأ هذا الرجل الإنجليزي في تخيل نجمه المفضل وكأنه يتبادل معه الحديث، ليحاول معه خطوة بخطوة إصلاح حياته، وإعادة ثقته بنفسه، بل وأخذ الثأر لكرامته في بعض الأحيان أيضاً.

يتجول إريك الذي يؤدي دوره الممثل الإنجليزي «ستيف إيفيتز» بجسده الهزيل ووجهه النحيل، كأقرب ما يكون لساعي بريد حقيقي، وبجواره صورته المتخليه لإريك كانتونا، يراه حقيقياً للغاية، ليس طيفاً متوهجاً ولا شفافاً، هو كأي رجل يقابله في الواقع. يتبادلان الحديث لفترة طويلة، فيما يشبه درساً فلسفياً من كانتونا ليتصرف إريك في النهاية بناء على نصيحته.

في مشهد واحد مدته أربع دقائق تقريباً يقدم المخرج «كين لوش» أسباب هذا الاختيار، لماذا إريك كانتونا؟ هذا اللاعب الفرنسي الذي أتي لمانشستر يونايتد في بداية التسعينات، ليلعب بقميصهم خمس سنوات، فيفوز فيها بجائزة الدوري أربع مرات، وفي المرة الوحيدة التي فقد فيها اليونايتد اللقب كان كانتونا موقوفاً لأكثر من نصف الموسم، صنعت هذه المواسم وهذه الألقاب اسم اليونايتد كواحد من أهم الفرق الإنجليزية في هذه الحقبة.

لم يكن كانتونا مجرد لاعب موهوب وشبه متكامل، يجيد اللعب بكلتا قدميه، يجيد التصويب من مسافات بعيدة، يجيد ألعاب الهواء، ولكنه كان أيضاً قائداً أيقونياً، ولهذا كان من الطبيعي أن تعتبره جماهيره ملكاً أو إلهاً.

في هذا المشهد نرى ما يمكننا وصفه بأنها واحدة من أصدق الدقائق التي شاهدناها في السينما عن علاقة جماهير كرة القدم بنجومهم المفضلين، يسأل ساعي البريد كانتونا عن لحظته المفضل طوال مسيرته، ثم يبدأ في استعادة حكايات كل أهدافه الأيقونية واحداً تلو الآخر، حتى يفاجئه كانتونا في النهاية بأن لحظته المفضلة على الإطلاق كانت تمريرة صنعت هدفاً لزميله وللفريق ولم تكن هدفاً شخصياً له.

تبدو هذه العلاقة في أحد جوانبها كمثال واضح للغاية على ما يراه المصابون بهلاوس بصرية، ولكنها تبدو على جانب آخر كدلالة معنوية على أن البطل الذي يبحث عنه إريك ليس سوى نفسه، وأن الإنجاز الحقيقي لن يأتي سوى بثقته في نفسه وفي الآخرين، فإريك كانتونا الذي يراه هذا ليس سوى صنيعة عقله. هكذا يبدو لاختيار المخرج كين لوش لاسم الفيلم «البحث عن إريك» معنى جديداً عقب مشاهدتنا له.


سينما كين لوش: الإنحياز للإنسان

«كين لوش» المخرج البريطاني الخبير، صانع حكاية البحث عن إريك كانتونا، يمكن تصنيفه كواحد من أهم المخرجين الإنجليز المهتمين بحكايات طبقة العمال في بريطانيا.

فاز الرجل بالعديد من الجوائز المرموقة منها على سبيل المثال جائزة أفضل فيلم في مهرجان كان لمرتين، الأولى في عام 2006، عن فيلمه «The wind That Shakes The Barley» والذي تدور قصته عن أحداث حرب التحرير الأيرلندية، والثانية، بعدها بعشرة أعوام في فيلمه الإنساني البديع «I Daniel Blake»، والذي تدور أحداثه عن رحلة مواطن بريطاني عجوز مع نظام التأمين الصحي وإعانة البطالة في بريطانيا.

تبدو انحيازات الرجل واضحة، فرغم مشواره الطويل فإنه لم يستجب لنداء هوليوود وظل وفياً لمشروعه الفني المنحاز لليسار بشكل واضح للغاية.

في فيلمه Looking For Eric الذي يصور ببراعة علاقة جماهير كرة القدم بنجومهم المفضلين، تبقى ملامح مشروع لوش الإخراجي واضحة، وفي أحد المشاهد البارزة في الفيلم، يتجمع مجموعة ضخمة من سعاة البريد، مشجعي فريق مانشستر يونايتد، ويندفعون مقتحمين منزل أحد الأغنياء الذين يجمع بين المال وحيازة السلاح واستخدام العنف في حل نزاعاته، يلبس هؤلاء المشجعون الغاضبون قميص فريقهم المفضل كما يضع جميعهم قناعات تحمل ملامح وجه نجمهم وبطلهم إريك كانتونا.

هكذا يصبح كانتونا في هذا الفيلم رمزاً لنضال جماهير العمال ضد رأس المال، ولا عجب في هذا، لأن هذا كان قريباً جداً من انحيازات كانتونا في الواقع، فهذا رجل قد قاد ما يشبه الثورة الشعبية ضد البنوك إبان الكارثة الاقتصادية العالمية في عام 2010، كما شارك في توقيعات تم جمعها في عام 2012 للمطالبة بالإفراج عن «محمد السرسك» اللاعب الفسطيني الذي كان معتقلاً منذ عام 2009 في سجون الاحتلال الإسرائيلي.


البحث عن صلاح: الملك المصري

أنا في صف الاتحاد الأوروبي كفكرة، ولكن ليس بشكلها المؤسسي الحالي، عليهم أن يغيروا دستور هذا الاتحاد، عليهم أن ينهوا أولوية السوق الحر، أولوية مصلحة الشركات الكبرى، وأن يضعوا مصلحة البشر أولاً، وظيفة آمنة، راتب عادل، مكاناً يصلح للحياة، بيئة نظيفة، وقبل هذا كله كرامة كل إنسان.

الكل ينادي باسمه، هتافات الجماهير الإنجليزية «Mo Salah The Egyptian King». أنظار الجماهير المصرية المرتبطة بكل شاردة وواردة ترتبط باسمه، صغار المشجعين الذين سجدوا أمامه في ليفربول، الصغار والكبار في الدلتا الذين يحلمون بأن يصل ابن قريتهم إلى جائزة الكرة الذهبية كما أوصلتهم قدمه إلى كأس العالم للمرة الأولى منذ 28 عاماً، كان كل أملنا أن يشارك أساسياً بقميص تشيلسي في عام 2013، أصبح المنافس الأول الآن أمام الخارق الأرجنتيني ليونيل ميسي على جائزة هداف العام في أوروبا.

تبدو حكاية صلاح قريبة جداً من حكاية كانتونا التي رواها لنا كين لوش، هذا رجل يمثل بطلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى بالنسبة للمصريين في هذا الزمان، ولا دليل أكبر مما حدث عقب مشاركته متطوعاً في حملة إعلانية تابعة لوزارة التضامن ضد تعاطي المخدرات، زادت نسبة التواصل من خلال الخط الساخن المجهز لاستقبال طلبات العلاج من الإدمان بنسبة 400%، وهذا طبقاًلتصريح غادة والي وزيرة التضامن الاجتماعي. يمكنني تخيل الآن شاباً مصرياً يقف أمام ملصق كبير على حائط غرفته يحمل صورة محمد صلاح ويدير معه نقاشاً عن رغبته في التوقف عن تعاطي أحد أنواع المخدرات، تماماً كما شاهدنا في فيلم Looking for Eric.

وهنا يحضرنا سؤال واحد، هل سيتمكن صلاح من الانحياز لجماهيره أمام الجميع، هل سيصبح بطل الشعب داخل الملعب وخارجه، أم ستظل الجماهير المصرية تبحث عن بطل جديد في ملاعب الكرة، خصوصاً بعد أن فشل بحثها في ميدان السياسة.