هل فكرت يوما وأنت تشاهد أحد الأفلام فيما كان يمكن أن يحدث لو أنك شاهدت هذه الأحداث لحظة وقوعها، لو أنك شهدتها كما حدثت لأول مرة دون مونتاج أو تقطيع. لو كان بإمكانك أن تقفز إلى داخلها متسللا بين الكاميرات لتغير مجرى الأحداث وتضع أبطال الفيلم أمام تحدٍ للتعامل مع مفاجأتك. الأمر أشبه بمسرحية تجري ولكنها تستخدم شوارع المدن ومطاعمها كخشبة مسرح، أو ربما هي خليط بين المسرحية وبرامج الأخبار والأفلام التسجيلية. ولكن حينما يُعرض كل هذا في بث مباشر على جمهور سينمائي في قاعة عرض سينمائية. هذه إذن سينما جديدة لم نشهدها من قبل.

الجديد أن هذه الفكرة العجيبة قد حدثت بالفعل. في التاسع عشر من يناير الجاري، قام الممثل الأمريكي «وودي هارليسون» ببطولة فيلم من فكرته وإخراجه بعنوان «Lost in London»، الفيلم صور حكاية اليوم الذي تعرض فيه وودي لإلقاء القبض عليه منذ بضع سنوات أثناء تواجده في لندن. ولكن الجديد أن هذا الفيلم تم تصويره وعرضه بشكل مباشر لجمهور السينما في قاعات عرض سينمائية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. فيلم طويل تقترب مدته من الساعتين، يتم تصويره بطريقة اللقطة الواحدة One shot، ويتم عرضه بشكل مباشر. هذا لم يحدث من قبل، أبداً!


فكرة سينمائية قديمة تعود لتخلق سينما جديدة

في عام 1982 فاجأ المخرج المجري الشهير «بيلا تار» عشاق السينما بفيلم سينمائي عن مسرحية شيكسبير الشهيرة Macbeth، وذلك من خلال تجربة جديدة، وهو أن يكون الفيلم مكتملا مصورا على طريقة اللقطة الواحدة One shot، هذه الطريقة التي استخدمها الكثير من قبله، ولكن في مشاهد منفردة، وليس في فيلم كامل.

من بين من استخدموا هذه الطريقة، والمعروفة سينمائيا قبل ذللك باسم «اللقطة الطويلة»، أو Long Take، المخرج الأمريكي الكبير «ألفريد هيتشكوك» الذي بدأ هذه المحاولة في عام 1948 من خلال فيلمه «Rope»، ولكن الكاميرات التي كانت متاحة في هذا التوقيت لم تكن تتحمل أكثر من ألف قدم من خامة أفلام الخمسة وثلاثين مللي المستخدمة حينها، وبالتالي انتهى الأمر بهيتشكوك بصنع مجموعة من اللقطات الطويلة التي لا يتجاوز أي منها عشر دقائق، وتنتهي كل منها بشكل يتيح التنقل إلى اللقطة الأخرى، كأن تنتهي اللقطة على ظهور إحدى الشخصيات، وتبدأ اللقطة اللاحقة بنفس الكادر، فيشعر الجمهور وكأن المشهد لم ينته بعد.

بعد سنين من المحاولات الأولى، وبعد تجارب سينمائية لم يحظ معظمها بشعبية كبيرة عادت الفكرة فى عام 2014 حينما أبدى معظم محبو السينما إعجابهم بفيلم «Birdman» الذي حصد جائزة الأوسكار في فئة أفضل فيلم، بالإضافة لثلاث جوائز أوسكار أخرى، إحداها جائزة أفضل مخرج التي ذهبت إلى «أليخاندرو إيناريتو».

كان أبرز نقاط الإبهار هو المشاهد الطويلة الذي أعطت للجمهور إيحاء بأن الفيلم تم تصويره بطريقة اللقطة الواحدة. وحتى اليوم لا تزال بعض مشاهد الفيلم خالدة في ذاكرة نقاد ومحبي السينما ويعود الفضل في ذلك لمدير التصوير المبدع «إيمانويل لوبزكي» بتكنيكه الفريد وقطعاته التي لم نشعر بها، وأعطتنا إحساس الذهول برؤية مشاهد طويلة ممتدة نطارد فيها بطل الفيلم خلال سلسلة من الأحداث والمواقف الممتدة، وكأننا في رحلة حقيقية داخل الفيلم. حصل «لوبزكي» على جائزة أوسكار في فئة أفضل تصوير سينمائي عن هذا الفيلم،وهي الجائزة التي احتكرها «لوبزكي» في السنوات الثلاثة الأخيرة، فبالإضافة لهذا الفيلم فاز «لوبزكي» بالجائزة عن فيلمي «Gravity»، و«The Revenant»

بعد ذلك بشهور قليلة وفي عام 2015 فاجأ المخرج الألماني «سباستيان شيبر» محبي السينما بفيلمه «Victoria» الذي عرض لنا رحلة فتاة إسبانية في شوارع برلين في فجر إحدى الليالي وحتى الصباح من خلال ساعتين وثلث من المشاهدة دون انقطاع لفيلم كامل تم تصويره بطريقة اللقطة الواحدة One shot. فاز الفيلم حينها بثلاث جوائز مهمة في مهرجان برلين السينمائي الدولي، إحداها جائزة الدب الفضي.


فيلم كامل في لقطة واحدة وفي بث حي

وجد عشاق السينما ممن أحبوا مشهدا واحدا فى «The Birdman» وجبة كاملة مما أحبوه بانتظارهم في فيلم «Victoria» ليرفع وودي هارليسون الرهان أخيرا بفيلمه Lost in London فى بداية 2017 بفكرة وصفها كثيرون بالجنون، وقليلون بالعبقرية، في تقديم تجربة جديدة لفيلم كامل يتم تصويره على طريقة اللقطة الواحدة، ولكنه أضاف هذه المرة عاملا جديدا، حيث تم بث ذلك بشكل مباشر في قاعات السينما. يبدو أن الفكرة قد أتمت دورتها ووصلت لأقصى حد منطقي، بل من الممكن أن تكون تجاوزته.

الفيلم وتبعا لموقع «The VERGE» تم تصويره باستخدام 14 موقعا للتصوير، وبمشاركة 30 ممثلا، وجرت أحداثه في مدينة لندن، وفي تلك الليلة تحديدا بدءا من الساعة الثانية صباحا وحتى الساعة الرابعة صباحا.

تدور أحداث الفيلم كما ذكرنا حول قصة ليلة في حياة «وودي هارليسون» وقعت أحداثها في عام 2002 حينما تم القبض عليه إثر قيامه بكسر أحد أبواب سيارات التاكسي في مدينة لندن بعد أن مر بليلة سيئة تشاجر فيها مع زوجته السابقة التي اتهمته حينها بقيامه باستئجار بعض فتيات الليل. قرر وودي تحويل هذه الحكاية إلى فيلم سينمائي كوميدي وشاركه في بطولة هذه الحكاية صديقه الممثل الأمريكي «أوين ويلسون».


تجربة سينمائية ثورية

في معظم التجارب الجديدة لأفلام اللقطة الواحدة One shot انتقد كثيرون اهتمام صناع الفيلم بالتجربة السينمائية على حساب القصة والحبكة، وهذا ما توقعه كثيرون بخصوص فيلم وودي هارليسون الجديد. خصوصا أن الأمر أكثر صعوبة هذه المرة كون الفيلم جرى بثه بشكل مباشر.

خرجت معظم ردود الفعل الجماهيرية على الفيلم من الحضور بشكل يوحي بأن Lost in London لم يقدم جديدا في هذا التحدي، ولكنه أيضا لم يتحول لمأساة كما تخوف معظم أصدقاء وودي هارليسون وأوين ويلسون الذين حذروهما من الإقدام على هذه المغامرة السينمائية.

روى بعض المشاهدين ردود أفعالهم من خلال موقع IMDB، حيث أبدى معظمهم إعجابهم بالفيلم رغم أنه لم يحتو على حبكة محكمة، أو قصة تحمل حكمه فلسفية، أو لحظات مؤثرة، لأنهم لم يتوقعوا أكثر من كوميديا ممتعة وحوار مضحك من فيلم كوميدي يحكي حكاية ليلة غريبة في حياة نجم سينمائي. أبدى كثيرون إعجابهم بشكل خاص بأداء «أوين ويلسون»، وخصوصا في حديثه الحقيقي وإطلاقه للنكات عن بعض زملاء مهنته، وخصوصا الممثل الأمريكي صاحب اللكنة المميزة «ماثيو ماكهونلي».

ربما لم يتح لمحبي السينما في الشرق الأوسط والمنطقة العربية مشاهدة الفيلم في بث مباشر في قاعات السينما، كما حدث في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ولكننا ربما ستتاح لنا مشاهدة الفيلم قريبا. وحينها ربما يمكننا الحكم بشكل أكبر على ما فعله وودي هارليسون كبداية لثورة سينمائية جديدة في مجال التصوير وهندسة الصوت والإخراج والعرض. ثورة بدأت بفيلم فتح الباب لكثيرين من بعده لصنع سينما قادرة على جعلنا جميعا مشاركين في الأفلام.