إدمان الحب/ إدمان العلاقات/ إدمان الأشخاص/ إدمان الرومانسية/ إدمان حالة الشغف، هل يمكن أن يصبح الحب إدمانًا؟

إن أبسط تعريفات «الإدمان»: هو استخدام شيء ما لتغيير الحالة المزاجية، للهروب من الواقع وبالأخص من المشاعر غير المحتملة. الإدمان ببساطة هو صناعة واقع بديل؛ لمحاولة التعامل مع الواقع الموجود غير المستساغ. الإدمان هو استخدام (شيء ما) كمغير للحالة المزاجية، مع الوقت يجعل باقي أعمدة الإدمان تترسخ من حيث أعراض الانسحاب، بمعنى الوجع والألم والقلق وربما أعراض جسمانية كالأرق وغيره تظهر عند سحب هذه المادة من المحيط، وكذلك محاولات متكررة للتوقف مع الفشل في التحكم وفقدان السيطرة، وكذلك الاستمرار في نفس السلوك رغم آثاره السلبية!

قد يكون ذلك الشيء المستخدم لتغيير الحالة النفسية هو المخدرات أو الكحول أو القمار أو المهدئات أو الجنس أو الطعام أو حتى شخص ما. المهم أن هيكل الشخصية الإدمانية يتمثل في عدم القدرة على التعامل مع الواقع المجرد، وعدم القدرة على إدارة المشاعر غير المحتملة (رغم الادعاء الشائع لدى كل مدمن منا أنه خير من يقرأ الواقع ويفهمه ويبرع في التعامل معه، ولكن الحقيقة مختلفة واعتقاده العميق مغاير لذلك) لذا نهرع لوسيلة ما تختلف باختلاف الشخص وظروفه لنخدر تلك المشاعر ونتعايش مع واقع مرفوض، ولكنه مفروض بصناعة واقع بديل وحياة افتراضية موازية مخففة!

فهل ينطبق ذلك على الحب لدى بعضنا؟ نعم، بكل تأكيد. ولكني منذ بضعة أشهر تغيرت نظرتي تجاه مصطلح «إدمان الحب» نحو «إدمان الرومانسية Romance addiction»، فليس الحب في ذاته كشعور هو المخدر هنا، إنما الممارسات الرومانسية، حالة العلاقة ذاتها، ما قبلها والإعداد لها، والمطاردات السابقة على المصارحة، الاقتراب الحثيث، الخطوات الحذرة ثم العلاقة نفسها بكل ما فيها من ارتباط وحميمية، بل حتى بما فيها من تساؤلات وخلافات وقراءات للكواليس.

نعم هذا النوع ربما متعلق كثيرًا بإدمان الجنس، وهناك مساحات مشتركة واسعة بينهما، وتجد ربما نسبة كبيرة من المصابين بواحد منهما يحملون الآخر أيضًا، وقد يفضي كل منهما نحو الآخر، ولكن لكل منهما أيضًا بعد مغاير تمامًا للآخر ومنفصل عنه، بينهما اشتراك وانفصال. فهناك مدمنون للجنس المجرد، ينطلقون نحو العاهرات حينًا ونحو النزوات العابرة حينًا، ونحو علاقات الليلة الواحدة حينًا أخرى، وتعد الممارسة ذاتها بالنسبة لهم هي مغير الحالة النفسية.

وهناك مدمنون للعلاقات/ الحب/الرومانسية المجردة، يدمنون التخيلات والحرارة والشغف والانفعالات المتعلقة، بل ربما تفصلهم العلاقة الجنسية ويؤرقهم الوصول للنشوة بسكونه. بل إن بعض مدمني العلاقات (مدمني الحب المحض) يستاؤون من الجنس ويتقززون منه ويحملون فقدان شهية تجاهه ولا يمارسونه ربما إلا لدوافع أخرى، كاستبقاء الشريك أو تحقيق القرب والدفء أو نوع من الثمن للحصول على بعض الحميمية في مقدماته!

وهناك النوع الأكثر إرهاقًا وهو الإدمان الترافقي، بأن يكون الشخص مدمنًا للعلاقات وكذلك مدمن للجنس، وربما يمتد الأمر نحو المهدئات أو الطعام أو الإنفاق والشراء، لأنه كما قلنا الأصل المسبب للإدمان هو خلل في البناء الشخصي، يجعل الشخص منا أكثر عرضة لاستخدام مغيرات الحالة النفسية، ومحاولة الهروب من المشاعر بدلًا من قبولها أو مواجهتها.

المصاب منا بإدمان العلاقات، أو الحب، أو الرومانسية مريض بمرض مزمن، وليس فاسدًا أخلاقيًا أو يسلك سلوكًا عهريًا فينقصه بعض الوعظ أو النصح. وهو في تعافيه لا يعود للنقاء والأخلاق، إنما هو فقط يتماثل للشفاء. وهذه الفكرة التأسيسية مهمة للغاية لأن مشاعر الذنب والعار المتعلقة بالسلوك الإدماني فينا بكافة أنواعه تعد وقودًا لمزيد من هذا السلوك نفسه!

إن نفس الضغط الاجتماعي الذي يُمارس على المصاب بالاكتئاب حين نقول: «قرب من ربنا»، «إنت عندك كل حاجة»، هو ذاته ما يُمارس تجاه المدمن حين نقول: «بَطّل»، أو «تحلى بقوة الإرادة»؛ فالإدمان مرض عقلي مزمن وليس فسادًا أخلاقيًا أو ميوعة بالإرادة. والسلوك الإدماني ليس خاضعًا للسيطرة، ولا يملك المدمن أدنى مساحة من الحرية ليفعل أو يكف عن فعله! وليس هذا تبريرًا للمضي في الإدمان النشط وإنما رفع للواقع، وإزاحة للشعور بالذنب الذي تستمر من خلاله الحلقة الإدمانية.

وخطوة ضخمة يتخذها المدمن حين يبدأ في تغيير التوجه الذاتي القديم ونظرته لنفسه كفاسد أخلاقيًا أو سيئ وغير مستحق أو ضعيف الإرادة، ليبدأ في النظر لنفسه كصاحب مرض مزمن يحمل أساسًا بيولجيًا ونفسيًا معًا مع بذرة داخلية من الصدمات والإساءات التي تعرض لها، وأنه من ناحية ما ليس مسئولًا عن مرضه، وإن كان مسئولًا عن تعافيه منه. عقيدة مهمة: لسنا مسئولين عن المرض، ولكننا مسئولون عن تعافينا!

ومرتكز إدمان العلاقات/الحب هو استخدام حالة الحب أو العلاقات العاطفية أو الحالة الرومانسية كمهرب من حالة نفسية أخرى.

فتلك الدفقة من الدوبامين المرتبطة بكلمات الغزل والشوق وأغاني الهوى تثير نوعًا من السعادة الموازية للضغوط العصبية الحياتية؛ فتمنح الشخص مهربًا ومخدرًا.

لك أن تتخيل أن أحدهم قد ركب في جسدك زِرًّا بمجرد الضغط عليه ستزول بعض آلامك ويختفي القلق، ثم تتساءل: لماذا تلتصق أصابعك بهذا الزر بشدة!

إننا كمدمنين لم نعتد تحمل الضيق والإحباط. أعلم جيدًا أننا لاقينا من الأوجاع والإساءات ما كان يمكن أن يؤهلنا لنزع الحساسية، لكن ما حدث هو العكس، فقد أصبحنا أكثر حساسية من الداخل تجاه المشاعر اللامحتملة، نخاف المشاعر وكأن هذه المشاعر ستعيدنا لمرحلة الهشاشة القديمة والألم الذي نجونا منه بصعوبة، وصنعنا شخصية تبدو قوية ظاهريًا ولكنها تحتاج كثيرًا من الترميم داخليًا. لذا فإن شعورًا بالوحدة أو القلق أو الملل أو الغضب أو الدونية أو العجز كفيل بأن يفقدنا اتزاننا، ويجعلنا نهرع باحثين عن هذا الزر.

زر التسكين، وكأن الزر الذي وجده بعضنا متمثلًا في العلاقات العاطفية، في الحكي أو المداعبات أو المناطحات العشقية أو كلمات التغزل، وأحيانًا في التحدي والترقب والنشوة بالوصول للشخص المنشود، وكل مرة نتخيل أنه بالضبط هو هذا الشخص، هذا هو المنشود، هذا الذي سيجعل كل شيء على ما يرام، وسيقبل منا مواضع الألم ليختفي دون عودة.

تحولت العلاقات لسلوكيات شبه قهرية، فصرنا نخوضها لأننا فقط لا نستطيع الحياة دونها، لم نعد نتمكن من التوقف، فأن نستفيق من سكرة الهوى يعني أن نقابل المشاعر التي هربنا منها والواقع الذي أدخلنا نحو الفرار منذ البداية؛ وهو يعني الجحيم بعينه. كانت الحياة ببساطة بدون العلاقة العاطفية لا تُطاق. كنا لا نريد أن نستفيق من سكرة الحب على مر الواقع والمشاعر الأخرى. إننا بقينا في العلاقات لا لأننا نريدها قدر كوننا لا نستطيع العيش دونها. بل أحيانًا منحتنا هذه العلاقات وجعًا وألمًا وحسرات وخيبات وتعثرات وكثير من الخلل، ولكننا واصلنا البحث عنها والمضي فيها لأننا لا نستطيع الفكاك، فقد كنا مغروسين هناك، وكانت أوجاع هذه العلاقات بشكل ما أهون من وحدتنا دونها، لقد بقينا في نار العلاقة أحيانًا؛ لأننا لا نستطيع ولو لوهلة تخيل أو تحمل الوحدة، جحيم العلاقة أفضل من تخيل الوحدة في الجنة!

شعرنا بأننا إن توقفنا عن الحب سنذوب أو سنتلاشى، كان تصور التوقف بالنسبة لنا يبدو كتصور الموت والفناء، وكأننا قد بقينا في العلاقات بدافع من غريزة البقاء. تلك السكرة التي يمنحنا إياها شخص ما، ذلك الدفء الذي افتقدناه في مواقيت كنا أكثر هشاشة من أن تحرمنا منه الحياة فكبرنا لنبحث عنه، شعورنا بالاكتمال فقط في حضرة علاقة ما، في نظرة عاشق لنا، في طقوس الحب الذي يقدمها لنا أحدهم، أو حتى بقرابين الهوى التي نقدمها نحن له، ذلك فقط هو ما أشعرنا أننا على قيد الحياة!

تلك النشوة الزائفة هي ما جعلت الحياة قابلة للعيش، وبقينا نغوص أكثر وأكثر نحو القاع، وبدأنا نلاقي الخسائر التي أضحت أكبر من أن نتجاهلها، ونواجه ضريبة سلوكنا التي باتت أعظم من أن تمر من عدسة الإنكار الانتقائي الذي نمارسه تجاه إدراكنا للأمور. لم تعد مبرراتنا مستساغة لنا، ولم تعد عقلنتنا لكل شيء تقدر أن تلوي بعض الخيبات أو تبتلعها، انتهت الحفلة وبدأت الحرب؛ وصرنا إلى إحصاء النكبات، وقابلنا القاع، ورغم هذا لم نستطع أن نتوقف. فعند أي نوبة من نوبات الخواء الداخلي نهرع نحو «ضرباية» قديمة، شخص قابلناه يومًا. وعند كل إحباط وضغوط وشعور بالدونية نتحسس احتضانًا جديدًا يحمل لنا بعض الأمل الزائف.

كنا نظن أن علاقاتنا هي أكثر العلاقات عمقًا وإنسانية وحرارة، ولم تكن في الحقيقة سوى أكثرها وهمًا وسطحية وضحالة! كنا نبتلع كذبات الآخرين ونصدق حيلهم ونتغاضى لا شعوريًا عن مراوغاتهم، فقط لعلهم لا يرحلون.

كنا نظن أننا محفورون في أدمغة كل من مارسنا معه الهوى يومًا، ولكن الحقيقة أننا لم نجرب الحب حقًا، ولم نعرف أي تواصل حقيقي مع إنسان بقبول صادق والتزام جاد. لم نكن مؤهلين لذلك، وكأن أعضاء الحب الصادق فينا كانت مبتورة أو ضامرة منذ وُجدنا.

والآن قد صارت الحياة غير مطاقة في الحالتين؛ فلا العلاقات تريحنا الآن، ولا الواقع قد صاحبناه بما يكفي لنتمكن من التعامل معه، لم يعد يريحنا «الحب الموهوم» كما لم تكن تريحنا الوحدة. شيء ما لم يعد مفهومًا؛ الزر لم يعد يعمل! نضغط ونضغط، ولكن دفقاته صارت سريعة الزوال، بل إن آلامها صارت أحيانًا أكثر قسوة من المشاعر الأصلية التي هربنا منها أصلًا، كالمستجير من الحر بالنار، ذلك هو ما صارت إليه الأمور.

ولكننا ورغم كل هذا لم نملك رفاهية الاختيار، وأريحية الانعطاف، ربما من يرى اضطرابنا يظننا نبالغ أو يتساءل: لماذا لا تتوقفون فقط هكذا؟ لماذا لا تتحلون بالإرادة؟ لماذا لا تفعلون كذا وكذا؟ فتزداد حسرتنا، وشعورنا بانعدام الاستيعاب، وحيرتنا وشعورنا بالدونية والتقصير، وتستمر حلقة الرعب تدور وتدور، بل ربما نلتفت إليه هو نفسه ولسان حالنا يقول: «ارتبط بي.. أحبني رجاءً لأشعر أني على مايرام وأنني أكفي»!

وكانت الخطوة الأولى فقط حين بدأنا نفهم الأمر، إننا لسنا وحدنا إذن، لسنا محض شياطين منبوذين من السماء ومطرودين من رحمة الأقدار، لسنا أشباحًا مشوهة أو أشرارًا فاسدين، فقط مرضى بمرض مزمن، قد وجد آخرون قبلنا الحل والعلاج، واستطاعوا التعامل معه. وكان أول ما منحنا الأمل والمحرك لخوض طريق التعافي هو الفهم، هو استيعاب الأمر، هو استبصار الحقيقة. لماذا نحن؟ وكيف؟ وما هي طرائق إدماننا وحيله؟

حين كانت عودتنا للواقع الأصلي بكل ألمه، وتخلينا عن كل طرائقنا القديمة من الكذب والحربائية والإرضائية والتماهي والمراوغات والتلاعب. حين تحلينا بالأمانة المطلقة، وأفصحنا عما نخوضه وتحررنا من العار الملازم لنا عمرًا بأسره، واعترفنا ببساطة أننا مدمنون، وأننا مسئولون فقط عن تعافينا. ورغم أنا مسئولون عن التعافي فذلك لا يعني أبدًا أننا نحتاج أن نفعله بمفردنا أو نفعله بإرادتنا!

إننا أولئك المعطوبين الذين شاركوا في إصلاح بعضهم البعض، الكساحى الذين استندوا على بعضهم، أولئك الذين لم يستطيعوا يومًا أن يحصلوا على علاقة واحدة صادقة وذلك كان مرضهم. كانت علاقة التعافي هي علاقتهم الشافية، وربما في علاقة بمعالج صادق وحقيقي ويفهم تجربتنا وما نمر به تربة قبول غير مشروط. وربما في علاقتنا بمدمنين آخرين ساروا الطريق قبلنا ومعنا وبعدنا، وجدوا ما كان ينقصهم في آخر مكان قرروا أن يبحثوا فيه.

نعم، هناك حيث اعترفنا بالهزيمة بدأ الانتصار يطل! هناك حيث الخسارة المطلقة بدأنا نفوز، هناك حيث نفضنا أيدينا من كل شيء ولم نعد نتمسك بأي شيء وجدنا كل شيء بغرابة ينهمر نحونا!

ما هذا الهراء الذي تقوله يا هذا؟ نعم، قد يبدو الأمر خياليًا، فهي بحق معجزة حقيقية، فكل مدمن يتعافى هو معجزة تسير على قدمين. وإننا في التعافي ينبغي أن نعلم أن الانتكاسة هي الأصل وليست هي الاستثناء. وأن كل يوم يمر في التعافي هو معجزة حقيقية ضد كل قاعدة وعكس المتوقع من طبيعة المرض، وخرقًا للمعتاد وخروجًا عن المعادلة الحتمية، أن يومًا آخر يمر رغم اللهفة والحنين، ورغم أعراض انسحاب مؤلمة، ورغم مشاعر غير محتملة اعتدنا أن نطفئها بالمخدر، ورغم تعثر في علاقات اعتدنا أن تمتلئ بالمراوغة والكذب والتلاعب، ورغم الرفض والوصمة والتشكيك والتوجس. إن يومًا آخر يمر في التعافي هو معجزة جديدة تحققت عبرنا، وإنه هو الاستثناء الذي وإن تكرر كل يوم لا يمنع عنه كونه متفردًا في كل مرة، مهما كانت أوجاعه وخساراته وخيباته فلم نزل متعافين رغم كل شيء، وذلك وحده يكفي!

إننا أصبحنا نسير يومًا واحدًا في كل مرة، بل أحيانًا ساعة واحدة في كل مرة، نتلمس كل طرق الدعم الممكنة لنعبر تلك اللحظة من اللهفة ونلتفت إلى ما نهرب منه ونجازف بمواجهته، وكانت المظلة الكبرى لذلك الطريق هي علاقة جديدة تمامًا بالله، بل هو «الله» جديد مغاير تمامًا عما عرفناه من قبل، ولتلك قصة أخرى سنرويها منفصلة.

أما فقط ما أردت أن أخبرك به الآن: أن كل ما تمر به يمكنه أن يُفسر من خلال نموذج الإدمان، وأن غاية حياتك التي فقدتها ومعناها الذي تبحث عنه، بل وحقيقتك الغائبة الذائبة في المظهر والصورة والجهود المضنية للحصول على التخدير، ربما تجد كل ذلك في طريق التعافي! فقط ربما.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.