ينتمي «محمد خان» الي جيل الثمانينات في السينما المصرية. السينما التي قدمها خان مع رفاقة عاطف الطيب، وخيري بشارة، ورأفت الميهي، وداوود عبد السيد أطلق عليها النقاد باكرًا «الواقعية المصرية الجديدة» تمييزًا لهم عن أجيال مخرجي الواقعية السابقين، في رؤية نقدية تبسيطية تتجاهل الفوارق الهائلة بين أسلوبية وجماليات كل منهم.

واقعية «خان» واقعية ناعمة لذلك نجده ينفي دائمًا تأثره بالمخرج الكبير «صلاح أبو سيف» والذي تتسم واقعيته بالخشونة والمباشرة. واقعية «خان» أيضًا ممزوجة بحس رومانسي حاد، يصفه الناقد «محمود عبدالشكور» بأنه أكثر مخرجي الواقعية رومانتيكية. لكن ما هي الرومانسية؟

الرومانسية هي نزعة إلى التحرر، الانطلاق وكسر القيود. الرومانسية تمجد المشاعر والخيال. تجنح الرومانسية إلى كل ما هو مثالي، لذلك يتألم الرومانسيون في صراعهم مع الواقع لكون هذا الواقع بعيدًا عن المثال الذي يطمحون إليه. الرومانسية هي سخرية من السلطة ورفض لها بكل أشكالها. الرومانسية هي البراءة الأولى، بهجة اللحظات العابرة، إنها الصبا، الحنين إلى زمن مضى، معاناة النفي والاغتراب، حماس منفلت وأهوج. البطل الرومانتيكي هو بطل متمرد، حالم وروح ملعونة.

نستطيع أن نتعرف بسهولة على هذه الملامح في أبطال خان الرومانسيين، كارهي السلطة والمعذبين بواقع يغربهم عن أحلامهم ويسلبهم براءتهم. الصراع في سينما خان هو الصراع بين القلب العاطفي/الجوهر الرومانسي لأبطاله وواقع مادي يكفر بهذا القلب. أعظم مؤثر خضع له الرومانسيون هو الحب، أقدم العواطف الإنسانية وأعمقها جذورًا في الكيان النفسي للإنسان. سنتتبع خيط الحب في سينما خان، سنحدق في مراياه ونرى ماذا ستخبرنا عن أبطاله الحالمون.


فارس وفوزية: أنت حقيقتي وأنا سؤالك

نمسك بطرف الخيط قبل نهايته. صوت «أبلة تهاني» في فيلمه «في شقة مصر الجديدة»:

تنتمي هذه الكلمات للنص الذي كتبته «وسام سليمان» لكنها تعبر عن طبيعة الحب في سينما محمد خان، فالمرة الأولى التي يرى فيها «فارس/أحمد ذكي» «فوزية/فردوس عبدالحميد» في فيلم «طائر على الطريق» وانجذابه المباشر لها نشعر أنه عثر على ما يبحث عنه طيلة حياته، حركة الكاميرا واندفاعها نحو فوزية تحاكي هذا المعني.

تصير فوزية هاجسه الوحيد رغم أنه يعلم أنها متزوجة وهو الذي رفض في بداية الفيلم إقامة علاقة مع امرأة لأنها متزوجة. لكن انجذابه لفوزية له قوة الطبيعة، انجذاب النصف لنصفه الآخر. إنها جواب السؤال الحائر على شفتيه، الجواب الذي يمنح لحياته معنى، يقول لها فارس: «عينيك جاوبت على سؤالي من أول ما بصيت فيها».

أحس فارس بنشوة مفاجئة حين لامست قدماه الأرض بعد أن ظل طيلة حياته معلقًا في الهواء، لكنها ليست أرضه. الوضع المأساوي لفوزية يداعب فروسيته الكامنه، إنه يرغب في تحريرها من سجنها مهما كانت العواقب. مشهد الحب الذي يجمع أحمد وفوزية لأول مرة في بستان البرتقال، يصوره خان بمنتهى البراءة والشاعرية، رغم أنه بمثابة خيانة زوجية.

المشهد تم تصويره فيما يقرب من 30 لقطة بأحجام وزوايا مختلفة. يمنحنا ارتداء البطلين للأبيض مع أشجار البستان،وصوت الطيور، وموسيقى كمال بكير، إحساسًا أشبه ما يكون بالعودة للجنة، حين يصير الجسدان جسدًا واحدًا يبدو المشهد كصدى لكلمات أبلة تهاني أن آدم وحواء كانا شخصًا واحدًا في سالف الزمان. فالأمر يبدو إذن مثل قدر لا فكاك منه رغم أن خان يمهد لنا طيلة الفيلم لتراجيديا هذا اللقاء مثل موت الطائر حين يصطدم بزجاج سيارة فارس أو توقف ساعته.


فوزية، ونوال، ومنى: لعنة الحب المحاصر بالمرايا

فوزية بطلة فيلم «طائر على الطريق»، و«نوال/سعاد حسني» بطلة فيلم «موعد على العشاء»، و«منى/ميرفت أمين» بطلة فيلم «زوجة رجل مهم»، البطلات الثلاث يشتركن في كونهن حبيسات قفص ذهبي مبطن بالمرايا، لكن هذه المرايا لا تعكس سوى رجالهن. الرجال في الأفلام الثلاثة على جانب السلطة سواء كانت سلطة المال في زمن الانفتاح والذي صار له اليد الطولى، أو سلطة البوليس. الثلاثة يحتقرون العاطفة، الثلاثة مصابون بجرح نرجسي لا يسمح لهم سوى برؤية أنفسهم فقط. عادة ما يربط خان بين السلطة والعجز.

يتعامل الثلاثة مع المرأة كمرآة تعكس سلطتهم وانتفاخ ذواتهم. لذلك تبوء محاولات التحرر بذات المصير المأساوي فالرجل هنا يرى في فقد امرأته/مرآته ضياعًا لسلطته وتعرية لجرحه. يصور خان «هشام /أحمد ذكي» في «زوجة رجل مهم» دائمًا في المرايا وهو منتفخ مثل طاووس، ثم لحظة تحطيم المرآة تبدو صورته المنعكسة عبر شظايا المرآة مثل مسخ. وميض السلطة الذي أسكر منى في البداية (لقد حسبت هشام فارسها المنتظرالذي حلمت به مرارًا) استحال نارًا أحرقت قلبها الأخضر والفارس المنتظر كان وحشًا التهم نفسه أمام المرايا.

تجد فوزية نصفها الآخر في فارس وتلتحم به من جديد، وكذلك تجد نوال في شكري، لكن يد السلطة تعيد تمزيقهما مرة أخرى. هذه المرة الجرح لا يلتئم بل يكون قرينًا بالموت. يقول «خان» في أحد حواراته: لكل فيلم طعم خاص يحدد التقنيات المستخدمة، هذا الطعم يبدأ من السيناريو المكتوب والذي اختار له غلافًا له ألوان معينة ورسمة تعبر عن روحه، فمثلًا الرسم الموجود على غلاف سيناريو «موعد على العشاء» عبارة عن يد ضخمة تضغط بإصبعها على امرأة تضطر للانكماش على ذاتها. هذا الرسم إذن يجسد روح الثلاثية الحزينة.


عطية وخوخة: حلم العودة إلى الجنة

ارتبطت الرومانسية دومًا بالبحث عن عالم مثالي ضائع، لذلك كانت العودة إلى الجنة حلمًا طالما داعب أخيلة الرومانسيين. خان أيضًا حلم بالجنة، لكن الجنة التي حلم بها خان ليست مكانًا أسطوريًا أو خياليًا إنها متجذرة في أرض الواقع، إنها قرينة البساطة والبراءة والدفء.

يمكن أن نرى هذه الجنة في نهاية فيلم «مستر كاراتيه»، مجرد حقل يزرعه حبيبان بعد أن أفلتا من جحيم المدينة، يمكن أن نرى الجنة في الحب الذي يجمع فارس وفوزية يقول لها: «أنا يتيم، عارفة يعني ايه الكلمة دي، يعني برد». فوزية هي الدفء الذي حلم به، جنته الموعودة قبل أن يطرد منها ويرمى إلى الموت. نجدها أيضًا في نهاية «فارس المدينة»، لكن تجليها الأكبر في «خرج ولم يعد»، المكان الذي تسميه «خوخة/ليلى علوي» بالجنة هو بستان موز تخلو فيه بنفسها أو يجمعها مع الرجل الذي أحبته «عطية/يحيى الفخراني» الذي يصيح بعد نزاع طارئ بينهما؛ «ماتخرجنيش من الجنة يا خيرية».


نجوى ويحيى: مطاردة الأشباح في شقة مصر الجديدة

زمان خالص خالص كان آدم وحوا شخص واحد بس انفصلوا عن بعضهم وبقوا نصين عشان كده كل واحد فينا بيدور على نصه التاني لحد ما يلاقيه.

العمارة المسكونة بالعفاريت تبدو خارج الزمن. العفاريت في شقة مصر الجديدة هي مجاز الحب، يتحدث عنه الجميع لكن لا أحد رآه. في زمن مغرق في ماديته صار الحب كالعفاريت، وحدها «نجوى/ غادةعادل» -في أداء استثنائي- تقول إنها رأت العفاريت في طفولتها لكن أحيانًا تبدو متشككة في أن ذلك مجرد خيال طفولي.

تتبع نجوى آثار «أبلة تهاني» مدرسة الموسيقي والتي يظهرها الفيلم مثل ملاك غامض للحب، في ظهورها العابر ترتدي الأبيض وتبدو محاطة بهالة ملائكية. تنتظر نجوى الحب مثلما ينتظر الصوفي الله. تقول لصديقتها في لحظة شك: «ياترى كانت – تقصد أبلة تهاني – بتضحك علينا زمان ولا لأ؟». البحث عن تهاني يعادل البحث عن الحب فحين تظهر قرب النهاية عبر مكالمة وخطاب يصيح «بهاء/ يوسف داوود» في ابتهاج «She Exists» كأنه تأكد الآن من وجود الحب.

«يحيى/خالد أبو النجا»، اختيار مهنته كموظف في البورصة يعيدنا إلى فيلم «الكسوف» لأنطونيوني، المخرج الذي طالما أعلن خان تأثره به كان بطله أيضًا يعمل في البورصة، وكان الفيلم يستعرض أيضًا اضطراب العواطف في زمن مغرق في المادية (إيطاليا الستينات). يحيى أيضًا هو بطل «خاني» بامتياز يمتلك دراجة بخارية مثل «شمس/نور الشريف» بطل فيلمه الأول «ضربة شمس»، إنه لا يعرف أيضًا ماذا يبحث عنه، يصرح دائمًا إنه لا يرغب في الزواج ولا يؤمن بالحب لكنه حين يلتقي نصفه الآخر يبدو انجذابه نحوه وسعيه إليه -مثل بقية أبطال خان – ضربًا من القدر. غير أن القدر هذه المرة يبدو قدرًا سعيدًا.