ليس في هذه الدنيا ما هو أصعب من الحب.

هناك في هذا العالم كتاب مكون من أربعمائة وأربعة وأربعين صفحة يحكي فقط كيف أن الحب صعب للغاية، دعك من كل الأغنيات والقصص، وحواديت الجنيات المسحورة، تلك الرواية تغوص في عمق الواقع مستخدمة الكثير جداً من الصفحات لتخبرك هذه الحقيقة المريعة، حقيقة أن الحب ليس هو النهايات السعيدة، ولا هو زواج الأمير من الفتاة الجميلة، بل ينطوي الحب على الكثير من الألم والخذلان والخيانات والانغماس في العلاقات الشائهة، الكثير من الندوب والصراخ ومضي العمر، الكثير جداً من كل شيء سيء، للحصول على شيء واحد فقط جيد يمكنك أن تغمض عينيك للمرة الأخيرة وأنت سعيد بسببه.

«الحب في زمن الكوليرا» للكاتب الكولومبي «جابرييل جارسيا ماركيز» والتي تحولت لفيلم يحمل نفس الاسم، رواية رقيقة جداً، مفعمة بالمشاعر الإنسانية العنيفة تارة والعذبة تارة أخرى، إن «ماركيز» هو أحد أباطرة الواقعية السحرية، رغم أن أحداث الرواية قد لا تنتمي بشدة إلى تلك الفئة من الأدب لأنها لا تحدثنا عن اللامعقول، ولكن ربما كل هذا الحب والقدرة على الحرب من أجله هو الشيء الساحر الوحيد في الرواية.


رباه يا للرجل البائس

كانت جملة «رباه يا للرجل البائس» هي الجملة التي أنهت بها «فيرمينا داثا» قصة حبها المراهقة مع «فلورنتينو أريثا» متبوعة بجملة «لا أرجوك، إنس كل شيء»، هكذا، بتلك البساطة أنهت الربة المتوجة كما كان يناديها حبيبها قصة الحب الملتهبة بينهما.

وبمثل تلك البساطة بالفعل تنتهي قصص العشق الكبيرة، ليس بمشاجرة ولا باختلاف وجهات نظر ولا بالعشرة التي تبين اختلاف الطباع ، يكفي نظرة واحدة على شريكك لترى فيه ما لم تكن تراه من قبل، كل الآراء التي تفند لماذا ينتهي الحب ولماذا يفشل المحبون لخصها الكاتب بجملة قصيرة، ربما هنا تكمن الواقعية السحرية حقاً.

لم يعترف أحداً من قبل أن الحب يمكن له أن ينتهي لأن أحد الطرفين رأى أن الآخر «بائس» لا يستحق سوى الشفقة، وأن كل المشاعر كانت جوفاء وكانت موجهة لهذا البائس فقط لأنه كان الوحيد المتاح، يتغنى الكثيرون بأن هناك قصصاً وراء القصص وتراكمات تجعل كل شيء ينتهي بغتة، أما «ماركيز» فقد صدم الجميع بتلك الجملة، لم تكن «فيرمينا داثا» قاسية القلب قط، فقط تجلى أمامها الموقف في لحظة مفاجئة، وقد أحبت نفسها للدرجة التي لم تجعلها تنخدع لحظة واحدة.

أحبت الربة المتوجة نفسها، نضجت، فتزوجت بعقلها الطبيب الأنيق «خوفينال أوربينو»، وأحبته للدرجة التي تجعله يجلس على المائدة فيقول «هذا الطعام مصنوع بحب»، ويغضب إذا لم يرض على الطعام المقدم له ولا يرض أن يأكل طعاماً نسبة الحب فيه قليلة أو غير مضبوطة.


الشيطان يكمن في التفاصيل

يمكننا أن نعتبر الرواية قصة حياة عادية، لفتاة أحبت شاب ثم افترقا، فلم يستطع هذا الشاب أن ينس حبيبته وانغمس في علاقات جسدية جعلته مقتنعاً أنه لازال يحتفظ بعذريته لأن قلبه لم يكن مع إحداهن قط، وتزوجت الفتاة رجلاً آخر وعاشت معه حياة طويلة لامعة وأصبحت سيدة مجتمع وأنجبت الأبناء، ثم مات زوجها فعاد الحبيب القديم يتودد لها وتزوجا في النهاية، يمكننا أن نقرأ الرواية بوجهة النظر تلك، ولكن الحقيقة أن تفاصيل الرواية هي ما تجعلها أيقونة أدبية.

تفاصيل «الحب في زمن الكوليرا» مدهشة، فقد آثر «ماركيز» أن يصف كل دقائق قصتيّ الحب في الرواية، المشاعر واليوميات، حتى عشيقات «فلورينتينو أريثا» كان يخلع على كل منهن صفات مميزة، فإحداهن مثلاً كانت تحب أن تضع في فمها «ببرونة» أطفال أثناء نومها معه، تفصيلة غريبة لن تزيد في الأحداث شيئاً ولكنها تجعل الرواية مميزة جداً.

تلك التفاصيل تحديداً هي ما تجعلك تقتنع بوجهة نظره في الحب، الصعب المؤلم والجميل جداً، كان يريد أن يشعر من يقرأ الرواية أن الحياة غنية ومدهشة، رغم كل الألم الذي أصر «فلورينتينو أريثا» أن يحيا في خضمه فإن حياته كانت مثيرة للدهشة، ورغم استقرار حياة «فيرمينا داثا» مع زوجها إلا أنهما مرا بإخفاقات عديدة، فقد خانها وهي المعتزة بنفسها المعترفة بكبريائها الشديد، ورغم أنها ثارت تماماً، إلا أنها سامحته، سامحته لأنها تحبه، ولأنها تعرف أنه يحبها، ولأن الحياة الحقيقية ليست حكاية خيالية، خالية من كل ما يمكن أن يعكر صفوها.


خافيير بارديم قبيحاً

في العام 2007 صدر فيلم «الحب في زمن الكوليرا»، هذا الفيلم الذي تمسك بالرواية في كل تفاصيله، واستطاع بحرفية أن ينقل كل المشاعر المكتوبة تقريباً إلى الشاشة، لم يحرف صناعه الأحداث ولم يقامروا بإضافة أو حذف أياً من الخطوط الدرامية الأساسية، بل نقل مشاهد بكاملها من الرواية دون أي إضافات أو حذف، ورغم أن الرواية المكتوبة تختلف تماماً عن المرئية إلا أن الفيلم استطاع أن يجعل المشاهد لا يشعر بذلك الاختلاف بل عزز كل جماليات الرواية ببراعة.

الأدهى أنه جعل الممثل «خافيير بارديم» المعروف بوسامته شاباً قبيح المنظر ثم عجوزاً أقبح، كانت التيمة الأساسية لشخصية «فلورينتينو أريثا» في الرواية هي القبح، ربما هذا ما جعله في نظر حبيبته بائساً، وشب وهو يعرف هذا عن نفسه وربما أيضاً كان هذا هو السبب الذي جعله متمسكاً بحبه المستحيل المنتهية قصته منذ البداية.

كانت تلك أحد أهم مميزات الفيلم، فبغض النظر عن قدرات «بارديم» التمثيلية وقدرته على تقمص الشخصيات فقد استطاع صناع الفيلم أن يقنعوا المشاهد أنه قبيح، وقد كان الماكياج والرتوش المضافة متقنة جداً، يمكنك أن ترى هذا الإتقان في مشهد زواج العجوزين في الربع الأخير من الفيلم عندما خلعت «فيرمينا داثا» ثوبها ليبدو جلدها المتهدل الشائب، حتى أنه ليمكنك أن تشم رائحة جلد العجائز عبر الشاشة.

كان الفيلم رائعاً يخدم رواية رائعة، يجعل كل من يقرأ / يشاهد يقتبس جملة الدكتور «خوفينال أوربينو» ويعترف أن كل هذا كان فناً مصنوعاً بالكثير من الحب.