تقع مجموعة حسن عبد الموجود، «حروب فاتنة»، والمكونة من 10 قصص في 132 صفحة من القطع المتوسط. تصحبنا المجموعة لحيوات مختلفة، أماكن وشخصيات رغم كونها عادية جدًّا، فإنها ليست كذلك في نفس الوقت. من الأسطر الأولى في المجموعة يلج القارئ عوالم بكاملها لا يمكننا تجاهل فتنتها على أكثر من مستوى.

في البدء نقف عند الفضاء المكاني، وهو من أشد العناصر لفتًا للنظر، فتلك القصص العشر تتجول بنا في أماكن معظمها مألوف لكنها تتحول لتصبح ذات خصوصية وتفرد داخل بنية السرد، ثماني قصص من العشر نتحرك معها في شوارع القاهرة طولًا وعرضًا، من وسط البلد وتقاطع عدلي مع شريف، للمهندسين وميت عقبة وشارع السودان، مرورًا بالمعادي ومقاهي الزمالك وجاردن سيتي، وصولًا لشارع نصر الدين بالهرم. تلك الفضاءات المكانية التي تتحول في قصص عبد الموجود لشوارع أخرى يحدث فيها ما لا نلحظه يوميًا، يحدث فيها تفاصيل لا يلاحظها الناس في زحام شوارعنا، تتحول من أماكن وشوارع عادية لمسارح أحداث خطيرة. وأماكن أخرى كوسائل المواصلات التي تقطع شوارع القاهرة طولًا وعرضًا، تتحول لمكان نوم دائم لأحدهم يحيا بطريقة استثنائية، ومكاتب وهيئات كاملة تحيا على هامش العالم، خلفتها الحياة ونسيتها في زحامها الكبير، ومقاهٍ يرتادها أبطال منسيون، وبيت في مواجهة السجن يصبح مسرحًا لعرض يومي شديد الإثارة، جمهوره مساجين وضباط وعساكر.وهناك عالم ربما لا يعرفه القارئ المصري على الأغلب، حيث تدور قصتان من العشرة، إحداهما في قصر ملكي في سلطنة عمان لبطل يخشى الندم إن فاتته فرصة التجربة، وأخرى في مدرسة على جبل عالٍ يسكنه القرود والعقارب والأفاعي بالجمهورية اليمنية، هذا الفضاء الذي لو جردناه من تلك الحكايات الفاتنة لأصبح مجرد أماكن عادية، نرتادها يوميًا غير مبالين بما حولنا. تلك الفتنة التي أصابت الأماكن داخل السرد كانت بفعل شخصيات استثنائية تسكن ذلك الفضاء العجيب، فالشخصيات هنا تحمل عبء تحويل الأشياء داخل السرد من تلك العادية المعروفة، لتدخلنا بها عالم الاستثناء والدهشة. فنرى في قصة «دراجة تعيد رفيق الحزب القديم»ذلك البطل «تو»، أو «توفيق»، أو «عبد الملاك»تبعًا لتعدد أسمائه، ذلك الذي يعيش داخل ذاته منذ سنوات طوال، يقتات على ذكريات ليلة حب وحيدة خالدة في قلبه، أوقف حركة الزمن عند صور «مونيكا»، أو «هناء»المُعلقة بحجرته، واكتفى بذكريات لقائهما المقدس، من أجل مهام جليلة فداء للوطن، تُعيده للعالم مرة أخرى دراجته القديمة التي تذكرها فجأة واندهش لاحتفاظه بها كل تلك السنوات. في البدء تأخذنا الشخصية لزمن ولى حتى تظن أن الأحداث كلها غابرة، غير أن القارئ يكتشف مع القراءة أن الحكاية قديمة لكنها معتقة في قلب صاحبها يحيا بها أزمانًا أخرى، لكنه أضمر الزمن داخل الزمن، وعاش في عالم يخصه وحده غير مبالٍ بما يحدث في عالم الآخرين.في قصة «الغرف المنسية»نجد بطلًا بنفس تركيبة «تو»بطل القصة السابقة، يحيا في عالم قد توقف عن العمل منذ وقت طويل، يعمل بهيئة لم يعد لها لزوم منذ عقود طويلة، «مكتب الاتصال بالجمهورية العربية المتحدة»،والذي أُنشِئ إبان الوحدة بين مصر وسوريا، انفكت تلك الوحدة سريعًا، وبقى هذا المكتب أثرًا عليها، نسيوه، أما العاملون به فظلوا أوفياء لكل شيء، المكان والزمن والفكرة والأبطال السابقين. ذلك البطل غريب الأطوار الذي يقطع يوميًا مسافة كبيرة بين بيته على حدود بني سويف إلى رمسيس بالقطار، ثم يذهب سيرًا على الأقدام إلى عابدين مقر المكتب، ويتصور أنهم سوف يطلقون اسمه على الشارع الذي يقع فيه المكتب تقديرًا لمجهوداته. وهناك ذلك البطل في قصة «النوم مع فتاة مودلياني»الذي ينام بوسائل المواصلات كعمل وحيد في حياته، ثم يطور قدراته بعد العمل بأحد البنوك ليتمكن من متابعة الحياة بكامل تفاصيلها أثناء نومه، فلا يفوته مما يحدث حوله شيء، وكل حلمه هو النوم مع فتاة مودلياني العارية في اللوحة المعلقة بإحدى طرقات البنك. وآخر في قصة «العرض الأخير»الذي يقدم عرضًا استثنائيًّا بمشاركة بطلة عادة لا تعرف أنها كذلك، أما جمهوره فهو بعض المساجين والعساكر والحرس، العرض الذي أصبح هكذا عن طريق المصادفة، عندما رفع الهواء ستائر البيت فجأة أمام جمهور المساجين، على رجل وامرأة عاريين تمامًا، ثم أصبح هواية لدى البطل الذي تفنن دومًا في تشويق جمهوره، إلى أن جاء اليوم الذي أغلق بيده باب المسرح في وجه هذا الجمهور. وهناك بطل قصة «حروب فاتنة»ذلك المجند الصغير النحيف، الذي يقضي يومه في تنفيذ عقوبات غريبة عن آثام لم يقصدها، ثم لا يلبث أن يقنع نفسه أن قائده يكلفه بمهام خاصة وخوض حروب فاتنة، لا يُكلف بها سوى الأبطال، وبغض النظر عن طبيعة هذه المهام وأنها لا تحتاج لحمل الأسلحة، فإنها استثنائية ولا يعهد بها القائد لسواه، كحراسة تلك الشجرة التي يحبها المجند، شجرة الجميز المواجهة لمكتب العقيد، عليه حراستها من كل المخلوقات، فلم تعد الشجرة في وجدانه كما كانت، ولا عاد استمتاعه بمحبتها على نفس الشكل. وهكذا جاءت تلك الشخصيات وغيرها من شخصيات المجموعة، تحيا حياة عادية المظهر، لكن تفاصيل تلك الحياة تحولها لاستثناءات غير معتادة، ربما لطبيعة الشخصيات أحيانًا، كأبطال قصص مثل «الغرف المنسية»، أو «دراجة تعيد رفيق الحزب القديم»، أو لظروف طارئة أخذت الشخصية وحلقت لعالم لم يكن يتصوره من قبل، ولكنه بات مفتونًا به، كقصص مثل «إشارات حمراء تفضي إلى بحر»، أو «العرض الأخير» أو «ضحكات التماسيح».

عن لغة المجموعة فهي لغة سلسة لا يشوبها تعقيد، تميل لتشويق هادئ يشبه تلك العوالم التي تدور فيها، فهي ليست لغة الإثارة الشديدة، بل لغة الدهشة الهادئة، وكأنما هي صورة لشخوص المجموعة، أما عن السرد فقد جاء معظمه مشهدي يصف مشاهد يومية تطول أو تقصر من حيوات الأبطال.

أما عن الفضاء الزماني فيميل في معظم القصص عند الوقوف في الحاضر القريب، حيث تشير الوقائع والمفردات وتفاصيل الحياة اليومية للحظة آنية أو قريبة من أن تكون كذلك، باستثناء قصتي «الغرف المنسية»، و«دراجة تعيد رفيق الحزب القديم»، اللتان تدور بعض أحداثهما في أزمنة سابقة، تتناول الماضي بكثافة أكبر لشخصيات تعيش في الحاضر، ولكن يستحوذ عليها ماضيها بشكل كبير. أما القصة الوحيدة التي لا يملكها زمن بعينه، فهي «ليلة العقرب»،فلم يكن هناك ثمة إشارات حداثية على تفاصيل الحياة، يمكنها أن تكون في الستينيات مثلًا، حيث كان يعمل المدرسون المصريون باليمن، وتلبس النساء أثوابًا تنتهي أسفل ركبتيهم بقليل، والأحبة يتبادلون الخطابات بخط اليد، وربما بعد ذلك ببضع سنوات، أما باقي القصص غير محددة الأزمنة بدقة، لكن روح العصر تسيطر على كل شيء تقريبًا، فالقارئ يشعر بحيوات الأبطال داخل الألفية الجديدة أيًا كان العام بالضبط.

أهم ما لفت انتباهي في «عوالم فاتنة»بطلات المجموعة، كُنّ العنصر شديد الفتنة في تلك العوالم المدهشة لدى عبد الموجود، كلهن بطلات بالمعنى الحقيقي للكلمة وليس المعنى التقني وحسب، فلسن مجرد شخصيات نسائية داخل القصص، بل بطلات يوميات لحيوات صغيرة يناضلن فيها بكل كبرياء وفرادة. فهذه «هناء»بطلة قصة «دراجة تعيد رفيق الحزب القديم»مناضلة يسارية كانت تعيش نضالها منذ عقود في حزب قديم، تخرج في مهام سرية فداءً للوطن وتنتهي حياتها حين تمنح الوطن عمرها القصير، أثناء تأدية مهامها السرية في شوارع القاهرة. وهناك تلك الأم بطلة قصة «معزة جوركي»التي عثرت على معزة خلف باب البناية، فقررت حمايتها من البرد، وآوتها في بيت ابنها الذي كانت تنزل ضيفة فيه، وبرغم ما تسببت به المعزة من مشكلات كبيرة داخل المنزل، فإن الأم تصر على الاحتفاظ بها، ولا ترضى إلا بتسليمها لصاحبها، فتأخذ جميع أبطال القصة لجولة سير بشوارع المهندسين، حتى العثور على صاحب المعزة الحقيقي وتسليمها له. وفي قصة «ليلة العقرب»نتعرف على المُدرسة زوجة المصري، التي قطعت طريقًا طويلًا لتصل لزوجها القاطن على قمة جبل تملؤه العقارب والثعابين والقرود لتشاركه حياته العملية والزوجية. يقول لها زوجها إنه يقضي ليلته الأولى في هذا المكان بلا خوف بسببها، فهي من أخذت تصنع مصائد صغيرة للعقارب والثعابين من عُلب البلاستيك وتضعها تحت أرجل السرير. وفي قصة «الغرف المنسية»نعيش مع ظل بطلة لم تعد موجودة، كانت زوجة البطل قبل بدء الأحداث، لكنها ظلت حاضرة بقوة حتى بعد موتها، حتى أن زوجها الذي عاش عمرًا لم يعرف من النساء سواها، عندما قرر تلبية نداء الرغبة فيه، كان مُصرًّا أن «رغدة»عاملة التنظيف التي أقام معها علاقة جنسية على أرض غرفة المكتب، ما هي إلا زوجته حضرت للعالم من جديد في جسد «رغدة».وهناك تلك الزوجة الجميلة القوية التي تركت العالم لتسكن مع الرجل الذي اختارته ببيت في منطقة شبه نائية على أطراف بني سويف، والتي عندما اشتكى لها يومًا من معاملة الناس، طلبت منه أن تصحبه في رحلته اليومية من بني سويف لمحطة مصر برمسيس، ثم تنتظره هناك لحين الانتهاء من عمله. أما بطلة قصة «ماء العقرب وتراب العذراء»، فهي بطلة أخرى من أبطال حيواته الفاتنات، خريجة آداب إنجليزي لكنها لم تعمل بعد، كانت تود مساعدة والدتها في تكاليف العيش، قبلت العمل كمرافقة لمسن مريض، لم تكتفِ بكونها جليسة أو مرافقة، بل أصبحت مأوى صغيرًا كبيرًا لهذه الأسرة التي قبلت العمل لديها، أصبحت ترعى جميع شئونهم دونما طلب منها، احتوت حياتهم وظللتها بالبهجة والدفء، تلك البطلة التي كانت في انتظار إتمام زيجتها التقليدية جدًّا، أنهت القصة ببطولة مباغتة حين فاجأت تلك الأسرة بعودتها إليها، وفاجأت ذلك الشاب الذي أحبها من النظرة الأولى بأنها له ولوالده وحدهما. حتى فتاة مودلياني النائمة في اللوحة في قصة «النوم مع فتاة مودلياني»كانت دافع البهجة والإشراق الوحيد في حياة هذا البطل النائم أبدًا، حتى فتاة اللوحة خرجت منها في نهاية القصة لتحقق أمل البطل الوحيد في السعادة على هذه الأرض، جميع الشخصيات النسائية كُن بطلات في حروب خاصة جدًّا، حروب فاتنة هي الأخرى، معارك الحياة اليومية الصغيرة التي لا يعلم عنها أحد شيئًا ولا يكرمهن على انتصاراتهن الصغيرة فيها أحد.

لست أدري أعن قصد من عبد الموجود أن تكون بطلاته جميعًا بكل هذا البهاء؟ هل ذلك موقفه من المرأة ورؤيته لها؟ هل هي صورة من صور دعم صورة الأنثى في العالم؟ أم أنها مجرد مصادفة سعيدة أسفرت عن كل تلك الوجوه البهية للمرأة؟