في مدينة الأقصر، وبين جنبات المعالم الأثرية الفرعونية، تقام فعاليات مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في شهر مارس/آذار من كل عام. وترجع فكرة المهرجان للكاتب والسيناريست «سيد فؤاد»، وتشرف على تنظيمه مؤسسة شباب الفنانين المستقلين. يضم المهرجان أربع مسابقات رئيسية هي مسابقة الفيلم الروائي الطويل، ومسابقة الفيلم التسجيلي، ومسابقة الفيلم القصير، ومسابقة أفلام الحريات، كما يشمل تنظيم مجموعة من الورش التدريبية والفعاليات الفنية الأخرى.

في دورته السابعة التي أقيمت في الفترة ما بين 16 إلى 22 مارس لعام 2018، شهد مهرجان الأقصر مشاركات من عدد كبير من الدول الأفريقية مثل السنغال، وكينيا، وغانا، وتونس، والمغرب، وجنوب أفريقيا. كما يشارك الفيلم المصري «الأصليين» بمسابقة الأفلام الروائية الطويلة. في هذا التقرير نستعرض ثلاثة من أبرز هذه الأفلام.


Borders – السنغالي

يدور الفيلم السنغالي «Borders» حول أربع نساء يسافرن عبر حدود غرب أفريقيا من داكار في السنغال، إلى ﻻغوس بنيجيريا، في رحلة يواجهن فيها فساد رجال حرس الحدود، والتهديد المستمر للعنف لكسب لقمة العيش. الفيلم من إخراج المخرجة البوركينيبية «أبولين تراوري»، ومن إنتاج عام 2017.

يعتمد الفيلم على بناء سردي تقليدي لأفلام الطريق. وأفلام الطريق هي نوع فيلمي يتواتر فيه تصوير مجموعة من التيمات مثل الحرية، وغياب المسئولية، وتفسخ العلاقات الاجتماعية، والخروج على القانون، وقد تناول الفيلم جميع هذه التيمات بشكل أو بآخر.

تعتبر المركبات بمختلف أنواعها (سيارات، حافلات، دراجات بخارية …إلخ) هي المجاز البصري الأهم لأفلام الطريق على مستوى اللغة السينمائية. وفي فيلم Borders تصاحبنا الحافلات بمختلف أحجامها وأشكالها طوال رحلة البطلات عبر الحدود، فالحافلة هنا ليست مجرد وسيلة مواصلات، ولكنها منزل انتقالي حيث تبيت البطلات ليلاً خلال الرحلة الطويلة التي تمتد لستة أيام، وهي وسيلة لكسب الرزق والهروب من الظروف المعيشية القاسية، وهي أيضًا وسيلة للتحرر والاستقلالية. الحافلة أيضًا هي إحدى آليات السرد البصري، فمن خلال التفاوت في مستوى الحافلات، سواء في الحجم، أو الشكل، أو سبل الراحة، تخبرنا الصورة عن التباين الاقتصادي بين الدول التي تعبرها البطلات، من السنغال إلى مالي، إلى بنين، وانتهاءً بنيجيريا.

اعتمدت المخرجة على التوظيف البصري الذكي لعنصر الأزياء، سواء على مستوى التنوع بين الزي المحلي للشخصيات الأكبر سنًا، والزي الحداثي للشخصية الأصغر. بالإضافة إلى توظيف الاختلاف اللوني في الأزياء للتعبير عن تناقضات الشخصيات، نرى ذلك مثلاً في التفاوت بين أزياء شخصية «أدجارا»، التي تميل إلى درجات اللون الفاتحة للتعبير عن شخصيتها الودودة المنفتحة، وبين أزياء شخصية «إيما»، التي تميل إلى الدرجات الداكنة تعبيرًا عن شخصيتها العنيفة والمنغلقة. كذلك تبدو الاختلافات اللونية في تطور شخصية البطلة «أدجارا» عبر الرحلة، من السعادة والتفاؤل والتي تم التعبير عنها بدرجات ناصعة للونين الأصفر والبرتقالي في النصف الأول من الفيلم، إلى الحزن والكآبة التي تم التعبير عنها بدرجات داكنة للون الأصفر، والأرجواني في النصف الأخير.

جميع مشاهد الفيلم تم تصويرها بمواقع خارجية، باستثناء مشهدين؛ أحدهما داخل مكتب قائد حرس الحدود بإحدى نقاط التفتيش، والآخر داخل أحد الأكواخ بنقطة تفتيش أخرى، غير أن القاسم المشترك بين المشهدين هو تصويرهما للابتزاز الجنسي من قبل جنود وقادة حرس الحدود للنساء المسافرات. اعتمد مدير التصوير على إضاءة معتمة لكلا المشهدين، وعلى الرغم من أن المشهد الأول بمكتب قائد حرس الحدود يجري نهارًا، إﻻ أن الإضاءة المعتمة للمكتب المظلم أكدت على معنى الجانب الأسود لفساد رجال حرس الحدود.

فيلم «Borders» هو فيلم جيد في مجمله، وخاصة على المستوى البصري، وإن كان يعيبه الأداء التمثيلي المتواضع من كافة طاقم التمثيل، وخاصة الشخصيات الرئيسية.


Wallay – بوركينا فاسو

يدور فيلم «Wallay» حول رحلة الطفل عيدي ذي الثلاثة عشر عامًا، من فرنسا إلى بوركينا فاسو، موطن والده، الرحلة التي يظنها عيدي إجازة صيفية، لكنه يكتشف أن والده قد أرسله إلى عمه «أمادو» لتهذيبه، أو كما يراها أمادو «رحلة اكتمال الرجولة». الفيلم من إخراج بيرني جولدبلا، وإنتاج مشترك بين بوركينا فاسو وفرنسا.

يقدم الفيلم معالجة حداثية لثنائية المجتمع الحديث والمجتمع التقليدي، ويتخذ من تفصيلة المسافات مفتاحًا لفك رموزه. يبدأ الفيلم بعيدي وهو يكتب رسالة إلى «يلي»، لنستحضر منذ المشهد الأول للفيلم تفصيلة المسافة الزمنية في فعل الكتابة اليدوية، ذلك الفعل الذي قارب على الانقراض بسبب التكنولوجيا الحديثة. كما يمنحنا أيضًا إحساسًا بالمسافة المكانية التي تباعد بين فرنسا، حيث يقيم عيدي، وبين بوركينا فاسو، حيث يرسل رسالته.

عيدي هو ابن البيئة الفرنسية، وابن الحداثة، الذي يفتقد إلى الانضباط، ويعجز والده عن تقويم سلوكه، فيدفع به إلى عمه في بوركينا فاسو، لتبدأ مراسم انتقاله من لهو الطفولة إلى انضباط الرجولة. يمشي عيدي في أرجاء القرية كرمز كبير لتلك الثنائية بين المجتمعين التقليدي والحديث، والتي تنعكس في ملابسه العصرية، وفي هاتفه الذكي، وأدواته الإلكترونية، بل إنها حتى تنعكس على بشرته الأقل سمرة، والتي تدفع الجميع إلى مناداته «بالفتى الأبيض».

تظهر تفصيلة المسافات كذلك على مستوى اللغة، فـعيدي ﻻ يعرف اللغة المحلية، وعلى الرغم من إتقان عمه للفرنسية، لكنه يرفض التواصل مع عيدي سوى من خلال ترجمة «جون»، ليُبقي على المسافة بينه وبين عيدي. وعلى الرغم من ذلك ينجح عيدي في التواصل مع جدته التي ﻻ تعرف الفرنسية، ولكنها تغمره بحبها، لتبقى المسافة اللغوية حاجزًا ﻻ تعبره سوى المشاعر الإنسانية.

في واحد من أجمل مشاهد الفيلم، يشاهد عيدي جدته التي تدفع الطيور عن نباتاتها، فيذهب إلى السوق ليبتاع عددًا من اسطوانات الحاسب المدمجة التي يعكس سطحها الأملس أضواءً ملونة، ويقوم بتثبيتها على قوائم مغروسة بحقل جدته الصغير حتى ﻻ تضطر لمراقبة الطيور، لتقوم الاسطوانات المدمجة، أحد رموز المدنية والتكنولوجيا الحديثة، بإحدى أقدم الوظائف في المجتمع التقليدي، وظيفة خيال الظل.


Iperita – المغرب

تدور أحداث الفيلم المغربي «Iperita» في ثمانينيات القرن العشرين بإحدى قرى الريف المغربي التي تضررت من جراء قذفها بالأسلحة الكيماوية إبان حرب الريف التي جرت رحاها في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، ما تسبب في إصابة جل أهلها بالسرطان. الفيلم من إخراج محمد بوزاكو، ومن إنتاج عام 2017، ويشارك ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة.

تسيطر على الفيلم حالة شعرية تمتد إلى جميع عناصره، ﻻ سيما وأن بوزاكو، مخرج وكاتب العمل، ذو خلفية أدبية، فقد كتب الرواية والقصة القصيرة قبل أن يتجه إلى العمل السينمائي. نلمس تلك الحالة الشعرية على المستوى البصري في تكوين الكادر، خاصة الكادر الذي يجمع أكثر من شخصية، سواء في اللقطات الواسعة حيث الاستخدام الذكي والمعبر لعمق المجال، أو في اللقطات القريبة التي تركز على المشاعر المتضاربة للشخصيات.

يظهر ذلك أيضًا في زوايا التصوير الذكية التي انتقاها بوزاكو، ومنها استخدام زاوية عين الإله في ثلاثة مشاهد فقط يجمع بينها صورة الموت أو سيرته، والموت هنا مرادف للحرب، وكأن الصورة تخبرنا أن الإله شاهد على جريمة الحرب. ويمتد التعبير عن الحالة الشعرية إلى عنصر الإضاءة كذلك، إذ استخدم مدير التصوير «عبد الله عليوي» درجة قاتمة من اللون الأصفر للتعبير عن الموت، كما أجاد توظيف الظلال لإبراز تباين الشخصيات.

تصاحبنا الموسيقى التصويرية، التي اعتمد بناؤها بالأساس على آﻻت النفخ والآلات الإيقاعية، في أغلب مشاهد الفيلم، لكنها دائمًا ما تكون خافتة وأقرب إلى العنصر الخفي في التكوين، مرات معدودة ومحسوبة تلك التي تتقدم فيها الموسيقى وتعلن عن نفسها بشكل صريح، كأن تعلو بإيقاع أشبه بطبول الحرب لتصاحب دخول شخصية “قادر” المفعمة بالشر. كذلك التوزيع الذكي والمعبر ما بين آﻻت النفخ الغربية الحديثة وتلك المحلية التقليدية، فالآلة المحلية التي تصاحب أغلب مشاهد الفيلم، يتم استبدالها بأخرى غربية فقط في المشاهد الخاصة بشخصية “خوسيه” الطيار الإسباني.

اعتمد السيناريو على قالب سرد خطي لم يخرج عنه سوى في مشاهد قليلة في شكل السرد الاسترجاعي أو Flash Back، فعلى الرغم من أن سيرة الموت/الحرب هي المحرك الرئيسي للأحداث، لكن الفيلم ينقل انعكاسها في مرآة الحاضر ﻻ الماضي، ليخبرنا أن الحرب وإن انتهت منذ ما يزيد على الستة عقود، لكن أثرها باقٍ، وضحاياها يتجددون كل يوم.

كما يتميز السيناريو أيضًا برسمه الدقيق للشخصيات على كثرتها، إذ تتمايز الدوافع المحركة لكل شخصية بشكل واضح، والتي تنعكس من خلال الفعل الدرامي ﻻ الحوار، وهو ما يتكامل بالطبع مع عنصر التمثيل الذي جاء متقنًا من كافة طاقم العمل، سواء الشخصيات الرئيسية مثل شخصية تيموش (قامت بدورها ابتسام عباسي)، أو الشخصيات الثانوية مثل شخصية عاشور (قام بدوره رشيد أماغتوك).