هل يجب علينا النظر للبعد الفلسفي في كل الأفلام؟.

بالتأكيد لا، ليس كل الأفلام بها نظرة فلسفية، وخصوصًا الأفلام الأمريكية لأنها بدرجة كبيرة تعتمد على تحقيق الإيرادات قبل كل شيء، وهذا ما تسعى إليه شركات الإنتاج. ولكن هل يمتلك صناع العمل نفس النظرة؟، بالتأكيد لا يرغب صانع العمل أن يكون فيلمه مجهولًا، ويريد كذلك تحقيق أعلى الإيرادات، ولكن السينما كمنتج ثقافي وإبداعي هي تعبير عما يشغل بال مبدعيه. الفيلم السينمائي هو نظرة مخرجه ومؤلفه للحياة، هذا لا ينطبق بالطبع على كل الأفلام وصناعها، فهناك الكثير من الأفلام التي تسعى خلف المادة فقط.

النقطة الثانية هي ضرورة الاقتناع أن الأبعاد الفلسفية لا توجد فقط في الأفلام الجادة ذات الرتم الهادئ، والبطل التائه، والبطلة الباكية، والموسيقى الرومانسية، والكلمات التي تتحدث عن الحياة وفقدان هدفها، أو نظرتنا للإله والحياة والموت. النظرة الفلسفية قد توجد في فيلم فانتازي وفي فيلم كوميدي وفي أفلام الأكشن. «Mad Max: Fury Road» هو أحد الأفلام التي لم تخل من نظرة فلسفية تشاؤمية للمستقبل، ولم تخل أيضًا من مشاهد الحركة التي اعتمدت على أحدث المؤثرات والخدع البصرية.


ما هي فلسفة «Mad Max»؟

اسمي «ماكس». عالمي من دم ونار. إنه الوقود، حرب من أجل الوقود. العالم قد نفدت منه المياه. إنها حرب للحصول على المياه. لقد انتهى أمر كوكب الأرض.

ينتمي «Mad Max» لما قد نسميه ميثولوجيا الإنسان المعاصر، فالميثولوجيا في أحد أوجه تعريفها هي «مجموع الأساطير والقصص في أي ثقافة كانت، مثل الميثولوجيا الإغريقية أو الميثولوجيا اللاتينية». فالميثولوجيا أداة لتفسير الظواهر الغامضة والتخوفات البشرية الكونية عن طريق خلق أساطير قد لا تحدث ولكنها تفسر ما يدور في خلد الإنسان، وهذا الفيلم يعرض أساطير تفسر تخوفات الإنسان المعاصر من المستقبل، وفقده للوقود والمياه بالإضافة للتغيرات المناخية والعواصف الترابية.

«جورج ميلر» في ميثولوجيته الخاصة عبّر عن تلك التخوفات بالحركة فقط، فالفيلم تندر به الحوارات. في بدايته يعرض «ميلر» في جمل بسيطة جدًا ما حدث للأرض من خلوّ للوقود والمياه والحروب وهذا ما دفع العالم للجنون، فلا يعرف بطلنا «ماكس» من المجنون؛ هو أم بقية البشر. فـ«ماكس» أمله الوحيد البقاء مثل بقية البشر، ولكن كل منهم يرى البقاء بطريقته، غريزة البقاء هي الدافع الرئيسي عند أغلب الشخصيات، فمن أجلها يرغب البعض بصحة أفضل ونسل أقوى بدون تشوهات، والبعض الآخر تتم برمجته للقتال من أجل «جو الخالد»، مع وعد بالعيش في عالم أفضل إذا ضحى بنفسه في ميدان القتال.

في الدقائق الأولى نتعرف على خريطة هذا العالم سواء الجغرافية أو الطبقية، فمن حيث الجغرافيا هناك أرض للذخيرة وأرض للمياه وأرض للوقود، أما من حيث الطبقية فهناك العامة والدهماء الذين لا يملكون شيئًا ويعانون من المجاعة والجفاف والموت والإنجاب المشوه، وهناك طبقة المحاربين المبرمجين بشكل كامل للقتال من أجل القائد مع وعد بدخولهم (ما يمثل الجنة في عالمهم)، وهناك القائد وأولاده وخاصته وهم المحتكرون لكل الموارد في ظل ندرتها، القائد الذي يرغب في الظهور كرجل قوي خالد لا يموت برغم اعتلاله الصحي، ولذلك يلبس سترة تجعله يبدو ضخم الجسد مفتول العضلات وممتلئًا بالنياشين العسكرية في إشارة لخلفيته الأصلية، الكل يعبده لأنه يسيطر على منبع المورد النادر.

«ميلر» كمبدع أصيل أظهر كل هذه التفاصيل في الدقائق العشر الأولى، بلا أي حوار يذكر ومن خلال مطاردات عنيفه حادة، فعلى مستوى الصورة أراد ميلر تقديم الحالة الجنونية للبشر في ظل ميثولوجيته التشاؤمية، وليس من خلال الخطب الرنانة عن الأرض الماضية الجميلة وعن الفرص المهدرة وماذا فعل جشع البشر. «Mad Max» يطرح الديستوبيا الخاص به بعيدًا عن الخطب الرنانة.


هل التشاؤم هو السبيل الوحيد في ميثولوجيا ميلر؟

من كتاب «حراس التاريخ» لـ«دايمن ديبين».

هذا الاقتباس عرض في خاتمة الفيلم، يوضح فيه «ميلر» رؤيته إلى فقدان الإنسان للرؤية والهوية. فالإنسان هائم في الأرض بلا هدف، رؤية عبثية بكل تأكيد ولكن مع ذلك يرى أن الإنسان يحاول دائمًا البحث عن أفضل ما فيه، وهذا ما ظهر في الفيلم. فبرغم حالة الجنون وفقدان الإنسانية تقريبًا وتحول البشر لما يشبه الحيوانات، ظهر الأمل في شخصية «فيريوسا» وهي أول من تمرد على هذا الوضع.

انحياز واضح من «ميلر» للمرأة، فالأمل في الثورة والأرض الخصبة تأتي من «فيريوسا» وزوجات القائد المنحط «جو»، هن من رأين قبح العالم بالرغم من مكانتهن الاجتماعية ووفرة كل شيء لديهن، هن من رغبن في الحياة الحقيقية وليس في نعيم «جو»، الأمل الذي يهربن إليه هو (الأرض الخضراء) وهي أرض تسيطر عليها النساء وتزرعها، ولأنها تحت سيطرة النساء فلم تقع في فخ الجنون كما وقعت بقية البقاع، مرة أخرى تظهر المرأة كمصدر ومنبع الأمل.

البحث عن الأفضل ظهر من خلال شخصية «نوكس»، وتحوله التدريجي من الإيمان التام بقيود «جو الخالد» إلى التضحية من أجل المستقبل؛ المستقبل الذي تمثل في خطة «ماكس» للعودة مرة أخرى لأرض المياه والسيطرة عليها واستغلال غياب «جو» وجنوده عنها. اختار ميلر «نوكس» ليكون بطل التغيير برغم أنه الأشد تعصبًا لـ«جو» في دلالة على قدرة البشر على التغيير في مواجهة القيود والأغلال الفكرية والعقائدية.


كيف احتوى الأكشن الفلسفة؟

إلى أين نحن ذاهبون؟، نحن هائمون في أرض الضياع تلك باحثين عن أفضل ما فينا.

الأكشن هو لغة «ميلر» التي يعلمها جيدًا والتي من خلالها يستطيع التعبير عن كل شيء، لم يترك ميلر مشهدًا واحدًا بلا مطاردة أو إثارة أو خطر، أجاد ميلر إعادة مشاهد الأكشن الكلاسيكية حيث المطاردات الحقيقية المعتمدة على الدوبلير ﻻ على الخدع البصرية، واللجوء إلى «الجرافكس» في أضيق الحدود، ربما مشهد العاصفة هو المشهد الوحيد المعتمد على الخدع بشكل أساسي، بقية المشاهد استخدم فيها الجرافكس كعامل مكمل وهامشي. فعندما ترى دراجة نارية تقفز فوق سيارة، فهذا المشهد تم بالفعل على يد محترفين، عندما ترى اصطدامًا حادًا يؤدي لانفجار سيارة فهذا ما حدث فعلاً.

أحب أفلام الأكشن، بالنسبة لي فإن أكثر اللغات السينمائية انتشارًا وفهمًا وأنقى بناء للجُمل يوجد دائمًا في أفلام الأكشن – جورج ميلر

استخدم ميلر ومدير تصويره العجوز «جون سيل»، صاحب الأوسكار عن فيلم «The English Patient»، اللونين الأصفر والبرتقالي ليعطي حيوية ومناسبة لأجواء الصحراء واللحظات الجحيمية، وبديل عن درجات اللون الرمادي أو الظلامية المعتادة في أفلام الديستوبيا. الابتكار في وضع الكاميرا في أي مكان أو التصوير من أي زاوية حادة، أنت سترى المطاردة من كل الزوايا الممكنة، من الأعلى ومن أسفل السيارات، ومن زاوية مائلة 45 درجة، ومن بين السيارات المتصادمة، زوايا مجنونة وحادة ومستخدمة بمنتهى الجرأة.

كذلك أجاد «ميلر» رسم الشخصيات وخصوصًا في جانب الشر، فهذه الشخصيات هي من عززت الجانب الجنوني في الفيلم، فهي شخصيات شريرة وكاريكاتيرية هزلية في نفس الوقت، من أول «جو الخالد» وابنه المشوه، ومحاسبه المشوه ببدلته وقدميه الضخمتين، وعازف الجيتار المحمس للجنود، كل هذه الشخصيات مرسومة بدقة، وربما ساعدت خلفية «ميلر» العملية كطبيب في إجادته رسم شخصيات بها تشوهات طبية حقيقية.

«Mad Max: Fury Road» هو أحد أفضل أفلام الدستوبيا التي تستعرض تخوفات الجنس البشري من المستقبل، وصاحب هذه الرؤية الفلسفية إخلاص للغة الأكشن التي يعشقها «ميلر»، والسينما العالمية في حاجة لمثل هذه المغامرات السينمائية المتقنة، فالفيلم لم يخلُ من المتعة لمريديها ولا من الفلسفة لمحبي التأمل والتحليل، أما محبي السينما والمخلصين لها فمن المتوقع أن تظل تحفة ميلر في ذاكرتهم لفترة طويلة.