كان أحدَ أيام الستينيات في بريطانيا، احتشد الجمهور في القاعة، منتظرين المُحاضِر في شغف، وما إن دخل حتى استُقبِل بتصفيقٍ عالٍ واحتفاءٍ واضح، وبلا مقدّمات بدأ يلقي كلمته:

دعوني أخبركم عن جولي. عندما قابلتُها كانت في مصحّة عقلية لثماني سنوات، كادت تصير بكماء، واعتبرت مريضةً بالفصام المزمن. عندما تحدثّت، تكلّمت باللغة الفصامية، التي على ما يبدو ليست لغة ثريّة. لكن بالنسبة لشخصٍ مهتم بالبحث: إنها لغة منطقية على الحقيقة. على أي حال، كانت لديها علاقة صعبة جدًا مع والدتها، والتي كانت تستجيب بشكل إيجابي فقط عندما تتصرّف جولي بشكل مثالي؛ لذا لم يكن لدى جولي أي صعوبات في الأكل أو النوم أو تنظيف الأسنان أو المشي أو الكلام. كانت كأنها إنسان آلي. كانت تشعر بأنها قضَت على ذاتها الحقيقية.

كان المحاضِر هو الطبيب النفسي البريطاني اللامع حينها رونالد لينج، الذي يعدّ واحدًا من أهم رموز علم النفس في القرن العشرين. وكان هذا هو المشهد الافتتاحيّ من فيلم Mad to Be Normal، الذي كتبه وأخرجه روبرت مولان عن كتابٍ له بنفس الاسم، وهو أحد كتابين له عن نفس الرجل رونالد لينج، الذي كُتبت عنه خمس سير ذاتية، وصُنع عن حياته وأفكاره قرابة 16 فيلمًا – قصيرًا وطويلاً، دراميًا ووثائقيًا- من بينها هذا الفيلم الذي قام ببطولته ديفيد تينانت، المعروف بدور الطبيب في مسلسل Doctor Who.

مناهضة الطب النفسي

يمثّل هذا المشهد الافتتاحيّ مدخلاً مكثّفًا يوضّح به صناع العمل جانبًا أساسيًا من أسباب حالة العداء المجتمعية التي سنراها في المشهد التالي مباشرة. فالرجل ذو الكاريزمية العالية، الضيف المتكرر على البرامج التلفازية، مؤلف الكتب التي باعت ملايين النسخ، يقدّم نقدًا لاذعًا للمجتمع إذ يضعه أمام مسئوليته عن تخليق أولئك المصابين بالفصام والاضطرابات النفسية الأخرى. بل ويوجّه نقدًا صادمًا مخصوصًا لطبقة الآباء والأمهات، وهو ما لَم يسهل على المجتمع تقبّله، وإنما ظلّ على حالة الإنكار وتعامل مع لينج بعدائية لدرجة الإشاعة بأن لينج يجري تجارب على مرضاه، وهي الإشاعة التي يمكن لاحقًا التعرف على مطلقيها بسهولة.

لم يكن هذا هو النقد الوحيد الذي قدّمه لينج، وإنما سبقه نقدٌ مثّل مزيجًا من الانقلاب على المدارس النفسية منذ سيجموند فرويد، وقاعدة الانطلاق له في مجال العلاج النفسي، مطلقًا حركة «مناهضة الطب النفسي» البريطانية في تحدٍ لهيمنة نماذج الطب النفسي والتحليل النفسي التقليدية للجنون، وذلك من خلال كتابه «الذات المنقسمة»، 1960م. إذ وصفَ التراتبية التقليدية المعتمدة لدى المدارس النفسية (المرض/ الأعراض/ العلاج) بالرطانة، كما صرّح بأن الأوصاف التي استخدمها العلاج النفسي وأدبياته، إنما هي تعبّر عن ثقافة واضعها أكثر من كونها واصفةً لحالة عقلية للإنسان.

في الفيلم، نرى ممارسة لينج العلاجية المخالفة والناقدة لما كان سائدًا. كانت الممارسة السائدة المعتادة، أن المرضى يُكهربون، ويقيّدون، ويُجبرون على تناول الأدوية، ويُحتجزون دون رغبتهم في مصحّات، كان الأمر – كما يصفه لينج- يبدو عقابًا لا علاجًا. يُظهر الفيلم الأطباء القائمين على هذه الممارسة، وهم لا يعرفون تحديدًا كيف يُجدي هذا، لكنهم يزعمون أنه مُجدٍ، ويتعاملون مع الإنسان كأنه جهاز راديو معطّل، يحتاج إلى صفعة قوية كي يعود إلى العمل. لا يهتمونَ بالألم أو المعاناة؛ المهم أن يبدو كلّ هذا وكأنه يؤتي نتيجةً ما. وبالمقابل يواظب لينج على نقده لكل هذا؛ فهو يرى ابتداءً أن الطب النفسي بهذه الصورة هو الفرع الوحيد من الطب الذي يعالج المرضى دون رغباتهم، ولذا لم يكن يصف أي مسكّنات أو أدوية تقتل العقل.

حين تسأله والدة أحد مرضاه الجدد (كيف ستعالجه؟)، يجيبها ملخصًا الأمر كله (سنمنحه غرفةً، وإذا أراد التحدّث سنستمع).

يظهر لينج صبورًا لا يستعجل إيصال مرضاه إلى نتيجة معيّنة، عطوفًا لا يمارس الامتياز المتعجرف للطبيب على المريض. وقد جسّد الفيلم هذا المعنى، حتى في إيقاعه، لدرجة أنك تحتاج لحدٍ أدنى من الصبر والتعاطف لتتفاعل معه باستمتاع.

حين يعرض لنا الفيلم زيارة لينج إلى أمريكا، نرى شعبيته الكبرى والاحتفاء المتزايد، الذي سرعان ما يتحوّل – بسبب تكراره لنقده النظري والعملي للممارسات العلاجية- إلى تشويه من الإعلام والمجتمع الأكاديمي ودوائر المعالجين النفسيين، فنراهم يطلقون عليه: المبشّر باشتراكية الـ (LSD)، ومارتن لوثر كينج الأبيض، والرجل الذي تتوسّط كتبه كتب كاستينادا وماركس.

ولم يقتصر نقد لينج على الأمثلة المذكورة، وإنما انتقد السياسيين أيضًا بقوله «رجال الدولة حول العالم، الذين يفتخرون بأسلحتهم الفتاكة ويهدّدون بها، هم أكثر خطورة بكثير وأكثر انفصالاً عن الواقع، من أولئك الذين نعتبرهم مرضى نفسيين»، وذلك في كتابه [الذات المنقسمة]، وهو ما يوحي بجانب من التفسيرات لحالة العداء التي عومل بها لينج.

لكن في مقابل كل هذا، كما يذكر توم باتلر في كتابه [أهم 50 كتابًا في علم النفس]، جعلت هذه الأفكار لينج محلّ شهرةٍ وإعجابٍ من كل مَن يشعرون بأنهم مهمّشون، سواءً في عائلاتهم أو ثقافات مجتمعهم، أو الذين كانوا يريدون المشاركة في توجّه «تحقيق الذات». وفوق كلّ هذا، فقد نجح لينج في تغيير النظرة للمرض العقلي، وأعاد صياغة الغايات الحقيقية لعلم النفس.

مغامرة المهلوسات

لينج: سيدني، سأحاول تخليصك من هذا. لا أعدك بأنه سيكون سهلاً.
سيدني: أنا في الـ73؛ لم أتعاطَ أي مخدرات قطّ، وسمعت أن عقار (LSD) يصيبك بالجنون.
لينج: الـ(LSD) متغاير؛ لكنه يحمل قيمة كبيرة وتأثيرًا علاجيًا إذا تناولته في بيئة متوازنة. قد يساعدك على التعامل مع ذكرياتك. أحيانًا إذا تمكّن الناس من العثور على ذكرياتهم، فإنهم يجدون سلامهم الداخلي.

سيدني العجوز هو أحد نزلاء مشفى لينج، (كينجسلي هول)، لديه أزمة عميقة مرتبطة بذكرى مطمورة منذ الطفولة، يعرض عليه لينج أن يجرّب عقار LSD تحت إشرافه، ورغم خطورة هذه التجربة واحتمالات المغامرة المرتبطة بها، فإن الفيلم يقدّمها وقد حقّقت بعض الجدوى.

كان من بين الحُجج المبطنة التي ساقها د. ميريديث أمام نقابة الأطباء البريطانيين، للمطالبة بإغلاق مشفى لينج، أنّ لينج يستخدم عقار (LSD) على مرضاه. فهل كانت لحُجّته حيثية في هذا السياق؟ جزءٌ كبيرٌ من الإجابة الملتفّة تقدّمه لنا حلقة (Psychedelics) من السلسلة الوثائقية (The Mind Explained)، من إنتاج شبكة نتفليكس.

انتشر الاستخدام العلاجي لعقار (LSD) في تلك المرحلة باحتفاءٍ وصل إلى عقد 6 مؤتمرات عالمية عنه في الخمسينيات والستينيات، وإصدار آلاف الأوراق البحثية، بل وتمّ تمويل أبحاث عنه من الحكومة الأمريكية لدراسة فعاليته العلاجية مع الاضطرابات العقلية، وكانت النتائج رائعة بشكل مدهش، على حدّ تعبير الباحثين حينها، مع توصيات باستخدامه كعلاج معتمد.

ومع توسّع انتشار عقارات الهلوسة (إل إس دي، بسيلوسيبين، ميسكالين، أيواسكا، وغيرها)، تزايدت تأثيراتها التي لا يُضمن السيطرة عليها، فصدر القرار السياسي بحظر المهلوسات بأنواعها، وإدراجها على الجدول الأول للممنوعات، وقطع التمويل عن أي أبحاث عنها، وانتشر الحظر من أمريكا إلى بقية دول العالم، ومن بينها بريطانيا.

هنا جاءت حيثية الحُجّة التي قدّمها د. ميريديث، ولم يوضّحها الفيلم. لينج يستخدم عقارًا مهلوسًا يجري حظره حول العالم، وسبب حظره أنّ نتائجه لا يمكن ضمان إيجابيتها، فضلاً عن ادّعاءات بأن العقار حوّل قطاعات هائلة من الشباب حول العالم إلى مناهضة الثقافة السلطوية السائدة، وبالمثل هاهو لينج المناهض للطب النفسي السائد يستخدمه.

وبسبب استخدام لينج لأساليب، من بينها (LSD) وممارسات تنتمي للشامانية والطب الشعبي الصيني، ودمجها في ممارساته العلاجية، تمّ إغلاق مشفى لينج بالقوة وللأبد، ولم تتكرّر تجربته مجدّدًا، وإن كانت أفكاره العلاجية ما زالت تحظى باعتباريتها.

الطبيب المُلهِم

في أحد مشاهد الفيلم المؤثرة، يجلس لينج بعد وفاة ابنته إلى بيانو داخل مشفاه، يعزف ويغني وهو مخمور، ويدور حوار عاصف بينه وبين حبيبته الأمريكية آنجي وود، نتفهّم من خلاله أزمة لينج في خارطة علاقاته المقرّبة، وكيف يتعامل معها وحده متحمّلاً عبئاً ثقيلاً لا يشارك به أحداً عادةً.

ولأن الفيلم يركّز على الفترة ما بين 1965 و1970م، وهي المدّة التي استمرت فيها مشفى «كينجسلي هول» بالعمل، قبل أن يتم إغلاقها بالقوة؛ فهو لم يستعرض خارطة علاقاتٍ أخرى، مع الإبداع والمبدعين في حياة لينج.

فعلى سبيل المثال، أصدر لينج ألبومًا موسيقيًا غنائيًا لافتًا بعنوان (Life before Death)، عام 1978م، بالاشتراك مع كين هوارد وألان بليكلي.

كما كانت له تحليلات نفسية نافذة للأدبيات الشهيرة، فهو مثلاً يصف شخصيات شكسبير بأنها غالبًا ما تكون شخصيات مضطربة لديها صراعات داخلية، ومع ذلك يظلون يسيرون مع تيار الحياة ويتمالكون أنفسهم، في حين أن شخصيات كافكا وصمويل بيكيت مثلاً، تفتقر للأمان الوجودي الأساسي؛ بالتالي هم يمثّلون نماذج فصامية، لا يمكنها البحث في دوافعها الذاتية أو مراجعتها؛ وذلك لأنهم ليس لديهم شعور ثابت قوي بالذات أساسًا.

أيضًا، قدّم لينج إلهامات لفنانين وأدباء، من بينها ما ذكره جون هاريس في كتابه [The Dark Side of the Moon: The Making of the Pink Floyd Masterpiece]، من تأثّر الفريق الموسيقي البريطاني الشهير بينك فلويد بأفكار رونالد لينج، خصوصًا من خلال عضو الفريق «روجر ووترز» الذي كان صديقًا لـ«لينج».

أيضًا، استلهم رائد الديستوبيا جيمس بالارد من لينج في روايته (High-rise)، فسمّى بطل الرواية روبرت لينج، وبحسب آلان برادشاو في ورقته [Up Rising: Rehabilitating J.G. Ballard’s High-Rise with R.D. Laing and Lauren Berlant]، فهو لم يكتف بذلك وإنما قدّم رؤية سردية منسجمة مع أفكار لينج، من خلال بنية معيارية جديدة للسلوكيات تجعلنا مطالبين بتفهّم الأفعال الغريبة للشخصيات، وتعديل تصوراتنا وإدراكنا للوضع الجديد، وهو ما حرص أيضًا بين ويتلي على تقديمه كما هو في فيلمه المقتبس عن الرواية، في 2015م.

نأتي إلى المثال الأبرز، دوريس ليسنج، الحائزة على جائزة نوبل للآداب 2007م، التي كانت أفكار لينج حاضرةً بقوة في منجزاتها الروائية المتتالية. من ذلك ما ذكرته روبيرتا روبنستين في ورقتها [Briefing on inner space: Doris Lessing and R. D. Laing]، عن رواية ليسنج (Briefing for a Descent into Hell)، التي تكشف عن تقارب مع أفكار لينج، فكلاهما يتابع واقع الفضاء الداخلي، موضحًا بالتفاصيل الخيالية رحلة إلى مناطق مجهولة من الذات، كما أنها تقترح مثل لينج أن الفصام في شخصية بطلها، قد يكون أقل مما كان عليه في العالم الذي انسحب منه. وإن كانت تشكّك في أن الجنون طريق ضروري للعقلانية، على عكس لينج.

ومثله أيضًا، دراسة ماريون فلاستوس المعنونة بـ[Doris Lessing and R. D. Laing: Psychopolitics and Prophecy]، إذ يشير إلى أن ليسنج تتعامل في رواياتها مع الجنون بتشابه لافت مع أفكار لينج، وتشاركه الاعتقاد بأن المجنون ضحية كاشفة لأخطاء المجتمع.

الأمر ذاته ولكن من وجهة نظر مختلفة، تعرضه كيري سارا مايلر، في دراستها المعنونة بـ[Doris Lessing and R. D. Laing: madness and the matter of the body]، فتشير إلى أن ليسنج أثبتت في رواياتها الجنونية أن هدف لينج النهائي في تفكيك ثنائية العقل/ الجنون، يبقى غير متحقق بالنسبة للمرأة المجنونة، بسبب عدم اهتمامه بتعارض ثنائية الذكر/ الأنثى.