ألا إن الأئمة من قريش… ولاة الحق أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه… هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر… وسبط غيبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى… يقود الخيل يقدمه اللواء تغيب لا يرى فيهم زمانًا… برضوى عنده عسل وماء

الشاعر الأموي كُثير عزّة في وصفه لأبناء علي رضي الله عنه وأحقيتهم للخلافة.

في المقال السابق تناولنا فكرة المهدي الموعود في عدد من الديانات المشرقية وبعض من الأساطير والميثولوجيا الغربية، وفي هذا المقال نسلط الضوء على فكرة المهدية في الإسلام، وكيف تم استخدام هذه الفكرة في الصراع الدائم على السلطة والحكم.


المعنى اللغوي والاصطلاحي

جاء في لسان العرب لابن منظور، أن اسم المهدي من الفعل «هدى» أي بيـّن طريق الهدى وعرفه وأرشد إليه، أما المدلول العام لتلك الكلمة فهو «الإشارة إلى رجل هداه الله الطريق القويم»[1]، وأخذت تلك الكلمة معنى اصطلاحيًا معينًا في العقل الإسلامي الجمعي، وهو «الإشارة إلى إمام منتظر يأتي في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا».

ولم ترد كلمة المهدي بهذا المعنى في القرآن الكريم وكذلك لم ترد في صحيح البخاري أو صحيح مسلم، ولكن مع ذلك وردت الإشارة إلى المهدي المنتظر في العديد من الكتب المعتبرة عند أهل السنة والجماعة منها على سبيل المثال سنن ابن ماجة وسنن أبي داود وسنن الترمذي [2].

وتتفق معظم الفرق والمذاهب الإسلامية على أن المهدي المنتظر هو شخصية بها نوع من القداسة، وأنه هو الذي سوف يقود قوى الخير والإيمان ضد قوى الباطل والظلم والعدوان في معركة النهاية وآخر الزمان [3]، ومن الفرق الإسلامية المعدودة التي خالفت الإجماع على وجود المهدي، فرقة الإباضية التي يرى فيها السنة امتدادًا فكريًا لمذهب الخوارج، فواحد من أعلام المذهب الإباضي المعاصرين وهو الشيخ علي يحيى معمر في كتابه «الإباضية في موكب التاريخ» يذكر أن قضية المهدي المنتظر من الخرافات التي تسرَّبت إلى كتب المسلمين، ومن الممكن أن نفسر ذلك الرأي، بما عُرف عن الخوارج من ميل دائم لتغير الوضع القائم، والخروج على الحاكم الظالم بالسيف، وتغيير المنكر بالقوة، ولهذا فإنه لم يكن هناك ضرورة ملحة عندهم في تخيل ظهور بطل موعود ليعدل الموازين ويقيم الحق.


المهدي: الاسم والشكل والصفات

هناك اختلاف حول الصفات اللازم توافرها في شخص المهدي، فهناك من يرى أنه يلزم أن يوافق اسم المهدي اسم الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) دون الأخذ في الاعتبار اسم ابيه، وهناك من يرى أن اسم المهدي يجب أن يكون «محمد بن عبد الله» بحيث يتطابق مع اسم الرسول واسم أبيه [4]، ويرى بعض علماء السنة مثل الشاطبي في كتابه الاعتصام أن المهدي هو “المسيح عيسى بن مريم” عليه السلام وذلك اعتمادًا على حديث ورد فيه إنه «لا مهدي إلا عيسى بن مريم»[5].

ويعتقد معظم العلماء أن المهدي سوف يكون من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه سوف يكون من ولد فاطمة الزهراء بحسب ما جاء في بعض الأحاديث، ولعل هذا يفسر أن معظم من ادّعوا المهدية في التاريخ الإسلامي، إما كانوا من العلويين، وإما ادعوا نسبتهم للحسن أو الحسين زورًا وبهتانًا.

ويجمع الشيخ السلفي محمد بن إسماعيل المقدم في كتابه الموسوم بـ(المهدي)، الصفات التي نقلتها الأحاديث النبوية عن المهدي المنتظر، في أنه «أقنى الأنف، أجلى الجبهة، يخرج في آخر الزمان، يحكم سبع سنين، ويصلي خلفه المسيح ابن مريم»[6].


المهدي والسلطة

تم استخدام نظرية المهدي المنتظر كثيرًا في التاريخ الإسلامي، إما من جانب الحكام والخلفاء القائمين بهدف الحفاظ على سلطتهم وحكمهم، وإما – وهي الحالة الأكثر – من جانب المعارضين بهدف إسقاط السلطة القائمة والتأسيس لدولة جديدة.

ولا نكاد نجد أي أخبار قد نقلتها إلينا المصادر التاريخية المختلفة، عن ظهور لفكرة المهدي في عصر الخلفاء الراشدين الأربعة الأوائل، وربما يكون ذلك الأمر متسقًا ومتناغمًا مع ما شاع عن عدل واستقامة الحكم الإسلامي في تلك الفترة الزاهرة، فالعقل الإسلامي في تلك المرحلة لم يجد ضرورة أو حاجة ملحة لاستدعاء فكرة المهدية إلى أرض الواقع.

ولكن مع أفول عصر الراشدين، واجتياح الفتنة لجنبات العالم الإسلامي، وجدت فكرة المهدية متسعًا لها في الفكر الجمعي للمسلمين، فمع نهاية الحكم الإسلامي الرشيد وبدايات الدولة الأموية القائمة على البطش والتغلب، نجد أن هناك شخصيتين بارزتين قد اصطبغتا بفكرة المهدية.

الشخصية الأولى هي الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، ذلك أن الأمويين قد لمسوا انخفاضًا حادًا في شعبيتهم وسط عموم المسلمين، ولذلك وجدنا أن معاوية قد حاول أن يستميل الناس إلى جانبه، مستخدمًا الدعاية السياسية القائمة على فكرة المهدية، حيث ورد في مسند أحمد بن حنبل أن بعض الرواة قد أشاعوا في عصر معاوية أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد قال عنه: «اللهم اجعله هاديًا مهديًا واهد به»[7].

أما الشخصية الثانية، فكانت على الجانب الآخر المعارض للسلطة؛ فقد كان محمد بن علي بن أبي طالب، المعروف بابن الحنفية، من أوائل العلويين الذين زعم البعض مهديتها، حيث اعتقدت فرقة الكيسانية الشيعية بأنه المهدي الذي لن يموت حتى يحيل شرور الدنيا وأباطيلها إلى خير وحق، وفي ذلك المعنى ورَدت بعض الروايات، ومنها تلك الأشعار التي نُسبت إلى «كُثير عزة» في بعض الأحيان، وإلى «السيد الحميري» في أحيان أخرى، وجاء فيها:

ألا إن الأئمة من قريش… ولاة الحق أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه… هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر… وسبط غيبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى… يقود الخيل يقدمه اللواء تغيب لا يرى فيهم زمانًا… برضوى عنده عسل وماء[8]

والغريب أننا نجد أن ذلك الاستخدام السلطوي لفكرة المهدية، قد تكرر على نحو مشابه في بدايات الدولة العباسية، حيث ظهر أحد أفراد البيت العلوي وهو محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بـ «النفس الزكية»، وقاد ثورة ضد السلطة العباسية، وتجمّع حوله الكثير من الأتباع والأنصار والمريدين ممن اعتقدوا بكونه المهدي المنتظر لاتفاق اسمه مع اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما اشتُهر عن علمه وتقواه وكثرة عبادته، وكان من أهم من أيَّده وسانده إمام أهل العراق أبي حنيفة النعمان وإمام المدينة مالك بن أنس رحمهما الله.ورغم النجاحات الأولية التي أصابها النفس الزكية في بداية دعوته، إلا أن الدولة العباسية قد استطاعت أن تقضي تمامًا على حركته في عام 145هـ، عندما قُتل في المدينة المنورة على يد القائد العباسي عيسى بن موسى عم الخليفة المنصور [9].ولم يكن أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين والمؤسس الفعلي للدولة العباسية ليترك فرصة استخدام فكرة المهدية لتضيع من يده ويتلقفها أعداء الدولة الطامعين للوثوب على السلطة، فنجده يحاول أن يستفيد بالزخم العاطفي الهائل الذي يصطبغ به من يتسمى باسم المهدي، فلقب ابنه وولي عهده محمد بن عبد الله بالمهدي مستغلًا التشابه بين اسمه واسم الرسول صلى الله عليه وسلم.أما الحالة الثالثة التي ادعت المهدية في العصر العباسي، فقد ظهرت بعد أكثر من قرن من الزمان بعد النفس الزكية والمهدي العباسي، فبعد عشرات الأعوام من التخفي والفرار من وجه السلطات العباسية المتحفزة، استطاع الإمام الإسماعيلي «عُبيد الله» أن ينتقل من مدينة السلمية في سوريا إلى تونس، وادعى أنه المهدي المنتظر، وأسّس مدينة المهدية التي كانت عاصمة لدولة عظيمة متسعة الأرجاء، تلك الدولة التي عُرفت باسم الدولة الفاطمية، والتي امتدت في عهد خلفاء المهدي لتضم أقاليم واسعة في كل من آسيا وأفريقيا.


[1] أحمد محمد جلي، دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين الخوارج والشيعة، ص156.[2] سنن ابن ماجة، ج2، حديث رقم 4082 – 4083 – 4084 – 4085 – 4086 – 4087 – 4088؛ سنن أبي داود، ج4، حديث رقم 4282-4283-4284-4285-4286-4287-4288؛ سنن الترمذي، ج4، حديث رقم 2230-2231-2232.[3] مرتضى المطهري، نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ، ص8.[4] مهدي الفقيه الإيماني، الإمام المهدي عند أهل السنة، ص17-19.[5] الشاطبي، الاعتصام، ج2، ص440.[6] محمد بن إسماعيل المقدم، المهدي، ص32-36.[7] مسند أحمد بن حنبل، ج29، ص426.[8] الشهرستاني، الملل والنحل، ص150.[9] أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، 260.