لم يعد الحديث عن الجيل الحالي للمنتخب المغربي الذي أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه أحد أفضل الأجيال العربية والإفريقية عبر التاريخ أمرًا يقتصر على جانب واحد من التناول، الإنجاز المغربي في كأس العالم 2022 لا بد أن تخضع عديد الجوانب به للفحص والدراسة.

ما قتل بحثًا خلال الأيام الماضية، أثناء وبعد انتهاء كأس العالم وبلاء أسود الأطلس البطولي به اختص بالمشروع المغربي أو بقوة رجله الأول فوزي لقجع، بكيفية تأهيل وليد الركراكي ليصبح مثاليًا لهذا المنصب في هذا التوقيت الحساس، جودة اللاعبين المغاربة ووقوفهم الند للند أمام كبرى المدارس الكروية الأوروبية.

لكن ما لم يتم التوقف عنده كثيرًا، هو كيف أزال هذا الجيل الصورة النمطية عن اللاعبين المغاربة حول حب أوطانهم، وخصوصًا حينما يتطرق الحديث لمن يطلق عليهم «مغاربة المهجر» ممن ولدوا وترعرعوا خارج المغرب، وحاز كثير منهم جنسيات البلدان التي ولدوا فيها.

هذا الجيل أبلى في الملعب بلاء يستحق أن يثمّن من الناحية الفنية، لكن من ناحية القلب والحرارة كان له شيء ربما يراه المغاربة لأول مرة منذ وقت طويل، هذا الجيل أعاد روح لاعبي 1998 الذين تشكل معظمهم في المغرب، وظلت مشاركتهم في المونديال علامة في التاريخ المغربي على الرغم من أنها لم تكن الأفضل في تاريخ الأسود.

ماذا تغير خلال أشهر؟

في مونديال 1998، الذي خرج الأسود من دوره الأول ولكن بعد أداء بطولي أمام اسكتلندا والنرويج اللتين حصل منهما على 4 نقاط كاملة، وهزيمة متوقعة من البرازيل أقوى منتخب في العالم بتلك النسخة، كان تعداد قائمة لاعبي المغرب 22 لاعبًا.

تحليل أصول وأماكن ميلاد لاعبي المغرب في 1998 يخبرك أن 20 لاعبًا منهم ولدوا في المغرب و2 فقط ولدوا خارجه. من بعد ذلك التاريخ، أصبح المنتخب المغربي ينسلخ كليًا عن لاعبيه المحليين، أو حتى من ذوي المولد المغربي، وباتت كثرة المحترفين المغاربة في الخارج خصوصًا ممن ولدوا وحصلوا على جنسيات بلدان المهجر سببًا منطقيًا لوجودهم بشكل أكبر في قوائم الأسود.

لكن برزت مشكلة في خضم هذا التحول، أهم أسبابها أن كثيرًا من مشاركات أسود الأطلس سواء على المستوى القاري أو العالمي، كانت تنتهي بالفشل دائمًا ثم الحكم على وطنية هؤلاء اللاعبين ذوي الأصول الخارجية، ووصف بعض المتعصبين لهم بـ«المرتزقة» الذين لولا أنهم لم يكونوا مؤهلين لتمثيل البلاد التي ولدوا بها لما كانوا لاعبين دوليين من الأساس.

وصلت هذه الانتقادات إلى ذروتها في كأس أمم أفريقيا 2021 التي خرج المغرب من ربع النهائي بها أمام مصر، في ذلك الوقت كان المنتخب المغربي أقوى الفرق من حيث الأداء، ولكن كثيرًا من الإشكاليات المتعلقة بالروح القتالية في مباراة مصر على وجه التحديد صبت النار على الزيت وأدت في الأخير إلى انتهاء تجربة وحيد خليلوزيتش.

منذ ذلك الوقت أفسح المجال للحديث عن أسباب استبعاد نجمين بحجم حكيم زياش ونصير مزراوي بسبب خلافات مع خليلوزيتش، أو لماذا يعامل اللاعبون المغاربة الكبار زملاءهم المحليين أو المحترفين في دوريات عربية بتعالٍ كبير، وخصوصًا في حالة عبد الرزاق حمد الله الشهيرة.

خلال أشهر قليلة، أظهر المنتخب المغربي بقوام قريب للغاية من الذي شارك به في كأس أفريقيا مفاهيم مختلفة تمامًا عن البطولة والاستبسال والروح القتالية، والأهم الحب الصادق للوطن.

بين مهجر وآخر!

ما كان مفاجئًا هو السمة البادية على هذا الجيل من اللاعبين الذين أصروا على الالتحام مع عاداتهم وتقاليد المغرب الأصلية، سواء في الموروث الديني أو في معاملة أمهاتهم اللاتي ظهرن بسمت مغربي عربي مسلم خالص بدءًا من الأزياء مرورًا بالحركات وطريقة التقبيل وكل شيء.

استعراض أصول لاعبي المغرب في 2022 يطرح تساؤلات عدة، نحن نتحدث عن 26 لاعبًا ولد معظمهم في المغرب دون أصول أخرى لأول مرة منذ وقت ليس بالقصير.

13 لاعبًا من مواليد المغرب ومثلهم من مواليد الخارج. 15 لاعبًا يحمل جنسية أخرى بخلاف المغربية، أي إن معظم تكوين المنتخب الحالي له علاقة ما بدولة خارج المغرب.

لكن رغم كل ذلك، أظهر هذا الجيل وطنية لا يشق لها غبار، والتصاقًا بالعادات والتقاليد كان مستغربًا لدى من يتابعون المنتخبات المغربية في السنوات الأخيرة التي كان انتقاد الجماهير للاعبيها دائمًا حول أنهم لا يقدمون للأندية ما يقدمونه للمنتخب، قادحين في حبهم لبلادهم الأصلية غير مرة.

استعراض أصول اللاعبين وجنسياتهم الثانية إلى جوار المغربية، يوحي ببعض المتغيرات حقًا في هذا الجيل، معظم لاعبي هذا الجيل ممن يحسبون على «مغاربة المهجر» مولودون في بلجيكا وهولندا، بينما يقل تمثيل اللاعبين المولودين في فرنسا إلى معدل قياسي خلال السنوات الأخيرة.

بلجيكا هي أكثر بلد ينتمي إليه مغاربة المهجر في هذا الجيل بواقع 4 لاعبين، تليه هولندا بواقع 3 لاعبين، بينما ولد لاعب واحد في كل من فرنسا وإيطاليا وكندا، وولد 13 لاعبًا في المغرب.

نسبة اللاعبين المولودين في هولندا وبلجيكا في جيل كأس العالم 2022 تقترب من 30% بينما لا تتخطى نسبة المولودين في فرنسا في هذا الجيل حد الـ4%.

هذه النسبة من المولودين في فرنسا تمثل انخفاضًا بشكل حاد عن الفريق الذي لعب قبل أشهر قليلة فقط كأس أفريقيا تحت قيادة خليلوزيتش، حيث كانت فرنسا موطن معظم لاعبي هذا الفريق بعد المولودين في المغاربة، بواقع 5 لاعبين، وبنسبة تقترب من 20% من قوام المنتخب.

هولندا وبلجيكا: مرفأ المتدينين

يعرف المهاجرون المغاربة جيدًا الفارق بين مهاجري هولندا وبلجيكا على وجه الخصوص، وبقية المغاربة المهاجرين في أوروبا. لهاتين البلدين خصوصية كبيرة في هذا الملف.

مغاربة هولندا وبلجيكا أكثر تدينًا والتصاقًا بموروثهم. تدين يصل في بعض الأحيان حد التطرف. الشاهد في الأمر أنهم لم يتماهوا كثيرًا مع الخلفيات الثقافية المتشابكة في هاتين البلدين.

لذلك يمكننا أن نرى هولنديًا مغربيًا مثل زكريا أبو خلال وهو يتحدث العربية بطلاقة في لقاءات عدة، ونعرف الكثير عن قصته المليئة بقصص التقرب إلى المتدينين وإسداء أعمال خيرية عديدة بوازع ديني وهو الذي لم يتخط عامه الثاني والعشرين بعد.

مسألة اللغة العربية تحديدًا يمكنك أن تراها لدى عبد الحميد الصابيري الذي يحمل الجنسية الألمانية وتجده في كل لقاءاته مصرًا على الحديث بالعربية والتأكيد على أنه يتحدث العربية بطلاقة.

الخلفية المتدينة والمحبة للعربية بشكل عام لدى مغاربة هولندا وبلجيكا على وجه الخصوص تجعل المعتدلين منهم شديدي الحب للمغرب، أحيانًا أكثر من مغاربة الداخل الذين يجدون في بعض المشكلات التي تمر بها البلاد مدعاة لبعض النفور، بينما لا يرى المغاربة الأوروبيون في المغرب إلا الجانب المشرق عن الدين والعادات والتقاليد، ولا يسمعون من آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم غير أحاديث الذكريات ولوعة الاشتياق لأيام الصبا في المدن المغربية المترعة بالتفاصيل.

إن هذا ما يجعل لاعبًا مثل حكيم زياش على سبيل المثال، يشار إليه بالبنان في هولندا منذ نعومة أظافره، يخرج ليعلن في لحظة من لحظات تألقه داخل الملاعب الهولندية أنه ينتظر الاستدعاء المغربي، وهو هنا قد خرج تمامًا من أطروحة أن المنتخبات الكبرى لا تطلبه وهو الذي مثل هولندا تحت 20 و21 عامًا، الكرة الهولندية لم تفق من صفعة زياش لمدة طويلة، إلى الدرجة التي اتهمته فيها بتقاضي أموال طائلة لتمثيل المغرب وهو ما نفاه اللاعب مرارًا بسخرية.

تواصلنا مع حمزة شتيوي، الصحفي الرياضي المغربي بموقع «هسبريس» وقال في تصريحات خاصة لـ«إضاءات»: «المغاربة الذين هاجروا إلى أوروبا في الثمانينيات كونوا أسرًا، مغاربة بلجيكا وهولندا بالتحديد ثم باقي الدول الأوروبية، الغالبية القصوى من هؤلاء متشبثون بالثقافة الإسلامية من لقاءاتي بالعائلات هناك، يركزون على تلقين أبنائهم تعاليم الدين وكذلك اللهجة المغربية الدارجة وباقي العادات المغربية».

ويضيف: «مغاربة المهجر يعلمون يقينًا أن المغربي العادي في بلاده يربي أولاده بشكل عادي لأنه يربي والشارع يربي، أما في أوروبا فلا بد أن يحرص على تربية أبنائه على الثقافة الإسلامية والعادات المغربية، وأيضًا يحمونهم من الثقافة الغربية، يسعى الكل لحماية أبنائهم من سيناريو التربية الغربية التي لا يستطيع الأب فيها التحكم بأولاده بعد عمر 15-16 عامًا».

يذكر لنا شتيوي تفاصيل عن حي مولنبيك في العاصمة البلجيكية بروكسل، الذي يمكن فيه «أن تشاهد النساء المغربيات يرتدين الأزياء الإسلامية أكثر مما تشاهدهن في أي مدينة مغربية، مغاربة هولندا وبلجيكا بالذات معظمهم يمتلكون العفة والخلفيات الدينية بشكل استثنائي»، على حد تعبير شتيوي.

بالمناسبة هذا الحي يتم إخضاع المقيمين فيه لشتى أنواع التحقيق في المطارات التي تستقبل أي من حاملي «الشينجين» وذلك امتداد لما ذكرناه آنفًا عن تباين مستويات الاعتدال والتطرف لدى عرب بلجيكا وهولندا بالأساس، والمغاربة على وجه الخصوص الذين يعدون الجنسية العربية الأكثر انتشارًا في هذين البلدين.

أيًا كانت التفاسير والمشارب، فإن المؤكد أن الروح الاستثنائية سواء من ناحية الاستبسال على أرضية الميدان أو من ناحية تقليص الفوارق الفنية مع مدارس كروية كبرى في تاريخ كرة القدم، أو حتى على مستوى التشبث بالتقاليد والتفنن في إظهار الولاء للوطن، كل هذه سمات سيحكي عنها المغاربة لأبنائهم طويلًا عن هذا الجيل الاستثنائي، بل العرب جميعًا.