لا شيء إلا الحزن، فليس أقسى من الفراق المفاجئ، كنت كلما مررت بمقهى «زهرة البستان» ألقيت عليه التحيّة، ومضيت مسرعًا، قلمّا توقفت هناك، وقليلا ما جلست معه، لم تجمعني به لقاءات كثيرة، أذكر بداية معرفتي به، سعادتي الغامرة بروايته، كما أذكر جيدًا آخر مكالمة هاتفية!


2007.. القاهرة

ربما لم تعتد الأوساط الأدبية على الاحتفاء بعملٍ أدبي لكاتبٍ لا يعرفه الناس، ولم يتردد اسمه من قبل، والمفاجأة أنه أيضًا ليس كاتبًا شابًا بعد موجة مما عرف حينها بكتابات الشباب، إنها رواية «تغريدة البجعة» وكاتبها «مكاوي سعيد» الذي سبق أن كتب رواية قبلها بسنوات لم تحظ بكثير من الالتفات النقدي هي «فئران السفينة».

ولكن «تغريدة البجعة» كانت حدثًا أدبيًا كبيرًا، أذكر أن كل النقاد كتبوا عنها، وأفردوا لها صفحاتٍ في عددٍ من الصحف المصرية، وأصبحت في فترة قريبة حديث المثقفين والنقاد والجمهور على حدٍ سواء، كان ذلك قبل أن ينتشر فيس بوك ويصبح له أثره على القراء، وما إن صدرت الطبعة الشعبية من الرواية في مكتبة الأسرة بثلاث جنيهات حتى أصبح من السهل جدًا أن تجد الرواية تقريبًا في كل بيت!

لم يكن انتشار الرواية إلا انعكاسًا لحالة التعطش الأدبي لروايةٍ كُتبت بصدق وعبّرت بواقعية شديدة عن حال جيلٍ بأكمله، منذ نكسة 1967 وحتى بدايات حركة كفاية في 2005 وما تلاها، استطاع «مكاوي سعيد» في هذه الرواية أن يعكس نبض المجتمع المصري بجلاء، وأن يصوّر تقلباتها وفورانها الهادئ المكتوم، يتحدث الناقد الكبير د.جابر عصفور عن «تغريدة البجعة» حينها فيقول:

وأحسب أن سبب هذه الحماسة المتزايدة للرواية يرجع إلى أنها استفزت، ولا تزال، وعي الرفض المتوتر لأجيال متقاربة، ترجع جذورها إلى شرائح الطبقة الوسطى التي أدت التحولات التاريخية إلى تهديدها وتآكلها، ومن ثم وصولها إلى الدرجة التي دفعت رمزي زكي إلى كتابة كتابه المهم «وداعا للطبقة الوسطى»، وأتصور أن أكثر الأجيال انفعالا بهذه الرواية، وحضورا فيها، الجيل الذي ولد في أعقاب ثورة يوليو 1952، وتخرج أبناؤه وبناته في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وهو الجيل الذي ينتسب إليه مكاوي سعيد المولود عام 1956.. أعني الجيل الذي وصل إلى مرحلة النضج والممارسة السياسية خلال سنوات مراحل الدراسة الجامعية في السبعينيات التي كانت قد توهجت فيها طليعة هذا الجيل الذي توزعه تياران، أولهما التيار الناصري، وثانيهما التيار الماركسي بفصائله المختلفة التي جمعت بين «الإخوة الأعداء» من التروتسكيين والتيار الثوري وحزب العمال والحزب الشيوعي، و8 كانون الثاني وغيرهم.

يكمل د.جابر عصفور قائلا: «أقصد هذا الجيل الذي سرعان ما انهالت عليه مطارق الأجهزة القمعية للدولة الساداتية، في موازاة حراب مجموعات الإسلام السياسي في صعودها وتزايد هيمنتها التي لم تتوقف، وهو الجيل الذي تدور حوله رواية مكاوي سعيد التي هي ملحمة جيل السبعينيات في انزلاقه من الحلم إلى الكابوس، وسقوطه من أفق الثورة التي انطوى عليها إلى وهاد الضرورة التي انتهى إليها، ماضيا في طريقه المحتوم إلى الكارثة الفردية والجمعية للهزيمة التي دفعت بطليعة هذا الجيل إلى النهاية المأسوية التي انقلب فيها كل شيء رأسا على عقب، وذلك في السياق الذي شهد اغتيال أمثال فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، كما شهد الإحباط المتزايد الذي التف على مشاعر هذا الجيل ووعيه كالمدارات المغلقة، اليائسة، المقهورة التي تنتهي إلى الجنون والانتحار والموت المبكر كمدا، والأمثلة متاحة في انتحار أمثال أروى صالح وانقصاف أعمار أمثال أحمد عبدالله، ورضوان الكاشف، وإكرام خليل… إلخ، فضلا عن التغيرات العنيفة التي قلبت بعض هذا الجيل من النقيض إلى النقيض، خالعين عنهم أثواب المقاومة والنضال، استسلاما ويأسا وعجزا، أو تبريرا للسقوط، حتى من قبل أن يغتال السادات حلفاؤه من جماعات الإسلام السياسي».

وكان من حُسن حظه أيضًا أن تظهر بعد عامٍ واحد على الساحة الأدبية «جائزة البوكر العربية» فتصل رواية «تغريدة البجعة» للقائمة القصيرة فيها، فتنتشر عربيًا بل عالميًا أيضًا.

هكذا عرف الناس «مكاوي سعيد»، وعلى مقهى «زهرة البستان» بوسط البلد كانوا يلتقونه ـ في الغالب مصادفةً ـ ويفاجئون بوجود هذا الكاتب الكبير نحيل الجسم بسيط الهيئة بينهم، يتبادلون الأحاديث والنوادر والحكايات عن «وسط البلد» والقاهرة التي يعرفها كما يعرف أحدنا كف يديه، ولا يمل الجالسون من مجالسته ولقائه هناك وسماع حكاياته ونوادره كل مرة.

تمر السنوات، وينتظر الناس عملا جديدًا للأديب الكبير، ولكنّه، على عادته، يجيد التمهل، ويكتب بمزج خاص، فيخرج مجموعته القصصية، التي لم تنل شهرة كبيرة «ليكن في علم الجميع سأظل هكذا» 2009 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.


2010 .. وسط البلد

عاش «مكاوي سعيد» في وسط البلد، ورصد بعينه وقلمه كثيرًا من تغيراتها وتحولاتها، وظل مدينًا لها بكل كلمة كتبها وكل كتابٍ رأى النور، كان يكتب في مقاهي وسط البلد ويسمع حوارات الباعة والبسطاء، كما يشارك كبار المثقفين والأدباء جلستهم في «زهرة البستان»، وكلما مر عليه قارئ شغوف بحكاياته سأله عن الجديد، يطول انتظار الناس لإصدارٍ فارق للأديب الكبير، وكانوا في الغالب ينتظرون من الروائي رواية مماثلة لتغريدة البجعة، لاسيما بعد التغيرات الجديدة التي حدثت في مصر، ولكن «مكاوي» يفاجئهم بإصدار سفرٍ كبيرٍ مهم… سمّاه «مقتنيات وسط البلد».

أدرك «مكاوي سعيد» أن بإمكانه التقاط حكايات عديدة لوجوه وأماكن وسط البلد وحاراتها، ويعرف أنه يجيد الكتابة عنهم، ولكنه لن يكتب عن كلٍ منهم رواية مستقلة، لهذا قرر أن يضعهم في هذا الكتاب المهم الكبير الذي جاء في 470 صفحة من القطع الكبير.

في هذا الكتاب «بورتريهات» حيّة لشخصيات من لحمٍ ودم، تعرّف عليهم الكاتب، وأراد أن يوثّق حكاياتهم ومواقفهم وأخبارهم بطريقته وكتابته الخاصة تلك التي تجمع بين فنيّة كتابة البورتريه وحرفيّة كتابة القصّة القصيرة، ليس هذا فحسب، بل استطاع أن يعبّر عن الأماكن كذلك خير تعبير، فيتحدث بشكلٍ مفصّل عن شوارع وسط البلد وميادينها وتاريخ أصحابها، وما تشمله من حكايات، وكذلك الأسواق وأماكن التجمعات فيها، كما يضع تعريفًا شاملاً بكل فنادق وسط البلد مظهرها الخارجي ومتى نشأت، وما هي أهم مميزات كل فندق منهم وخصائصه، وبعض أخبار عن تاريخ كلٍ منها، بل يستعرض أيضًا مطاعم ومقاهي وكافيتريات وسط البلد، عارضًا تاريخها منذ بدايتها وكيف انتهى بها الحال هذه الأيام.

يذكر عن «جروبي» مثلا أنه كان أول داعية للديمقراطية في مصر، إذ جلس فيه ـ لأول مرة ـ الارستقراطي الشركسي مع ابن الفلاح الفقير، يتحاورون ويتحمسون لمصر، كما يضع ثبتًا بأهم «الأماكن الثقافية» هناك، يحدد أماكنها وتاريخها وطبيعة نشاطها، ولذا يعتبر هذا الكتاب مرجعيًا لأي راغب في التعرف على تاريخ وسط البلد، وقد رجع فيه مكاوي سعيد لعدد من المصادر التاريخية المهمة يذكرها كلها في نهاية الكتاب.

بعد هذا الكتاب يصدر «مكاوي» أيضًا مجموعته القصصية “اللامرئيون” عن الهيئة العامة للكتاب عام 2013، والتي كانت بداية لتوثيق حكاياتٍ عن شخصيات اقترب منها في الثورة من خلال كتابة قصصية، ثم أصدر كتابه «كراسة التحرير» حكايات وأمكنة أيضًا، وهو الكتاب الذي يخصصه لحكايات الثورة التي تعرّف عليها عن قرب، يقول في مقدمته:

بعد هذين الكتابين يصدر «مكاوي سعيد» أخيرًا روايته المرتقبة «أن تحبك جيهان» في منتصف عام 2015 وكانت رواية ضخمة في 700 صفحة، وقد قوبلت الرواية، كما هو متوقع، بحفاوة كبيرة من القرّاء والنقاد على السواء، ورأى بعضهم فيها عودةً قويّة للروائي الكبير الذي أحبوه، وفي الوقت نفسه لم تكن الرواية على مستوى توقعات البعض الآخر، لاسيما أن عرض حكاية الثورة فيها ـ على سبيل المثال ـ جاء هامشيًا غير مبرر، ورأى البعض أن الرواية ـ التي بلغ عدد صفحاتها 700 صفحة ـ كانت مليئة بتفاصيل كثيرة غير مناسبة لموضوع الرواية!


دائما .. قريبا من الشباب

ميدان التحرير هو جسر عبوري اليومي بين بيتي وعملي. مقاهي وسط البلد ترسم خريطة حياتي، وعلى كراسيها تلك الشخصيات، التي ألهمتني ما أكتب، وبين مبانيها وفي شوارعها تحركت أفكاري وأحلامي ومارست نزقي وشرودي الصغيرة. عبر عقود لا بأس بها صرت أعرف الميدان حجرا حجرا وشرفة شرفة، وبت أميز وجوه من فيه من السكان وأصحاب المحال وعمال النظافة وباعة الجرائد وأفراد الدرك وحتى العابرين لأعمالهم.. هذه الكراسات على صغرها تحوي ما أردت قوله عن الثورة. صحيح أن ذاكرتي فاضت بمشاهدات وحكايات وأقوال وأحداث كثيرة، لكن هذا الذي اخترته منها وضمنته في الكراسات هو ما أظنه يرسم الصورة كما رأيتها.

منذ بدايته، وحتى قبيل وفاته بأيام، كان قريبًا من الشباب، وربما حالف الحظ مجموعة من الشباب في العام الماضي أن شاركوا معه في ورشةٍ نظمتها الدار المصرية اللبنانية، وصدر عنهم كتاب بعنوان «الطريق إلى النبع»، كما شارك في تحكيم عدد من المسابقات الأدبية والثقافية، منها مسابقة «إبداع» التي تنظمها وزارة التربية والتعليم لتشجيع المواهب الشابة في أنحاء الجمهورية، وكان كثيرًا ما يُثني على أصحاب المواهب الحقيقية ويشجعهم على استمرار الكتابة.

بدا في النهاية أن «مكاوي سعيد» يحمل في وجدانه الكثير من الحكايات ويحتشد عقله بالعديد من التفاصيل التي ربما لا يمكن أن تقتصر حكايتها على روايةٍ واحدة، ولذا كان من المفيد دومًا العودة إلى «مقتنيات وسط البلد» وحكايات البشر والأماكن فيها التي تعد بذورًا لأعمالٍ أدبية كبيرة وعظيمة ولا شك.

تمر السنوات، ويرحل صاحب مقتنيات وسط البلد في آخر 2017 تاركًا للناس سيرة عطرة ووجوهًا وحكايات لا تنسى في كل كتابٍ من كتاباته، تاركًا وسط البلد يبكي غياب أهم أعمدتها ورواتها الأصليين.