فتحي إبليس كبير «حارة الحدق» -التي تغير اسمها إلى حارة الجنَّة- يفرض على جميع أهل الحارة أن يصلوا الجمعة في المسجد، فيمتثل الجميع لأمره رجالًا ونساءً كبارًا وصغارًا، يستغل بعض المتمردين تجمع أهل الحارة في المسجد لكي يسرقوهم، ولكنه يكشفهم ويعاقبهم على مرأى من أهل الحارة جميعًا، ولا يملكون إلا الامتثال لأمره، لا يمر اليوم حتى نجد فتحي إبليس مضرجًا في دمائه وقد استطاع الخواجة -أحد هؤلاء المتمردين- أن يقتله!

هكذا ندخل عالم «مملكة إبليس» التي يبدو أن حضور صاحبها وكبيرها لا ينتهي بموته، على عادة الأساطير والحكايات الشعبية المعروفة، إذ لا يزال أثره وسيرته باقيةً في كل من حوله، وما إن يوارى جسده التراب حتى تبدأ أسراره وخفاياه تتكشف للناس ولأهل الحارة شيئًا فشيئًا.

إبليس والحرافيش

لايمكن لمن يشاهد الحلقة الأولى من «مملكة إبليس» الذي كتبه «محمد أمين راضي» وعرض آخر يناير الماضي على منصة شاهد إلا أن يتذكَّر مع كل حلقة من حلقات المسلسل أجواء حرافيش نجيب محفوظ الذين صاغ عالمهم ورسم حكايتهم باقتدار في روايته الأثيرة «ملحمة الحرافيش»، والتي بقيت ملهمة للعديد من الكتاب في السينما والتلفزيون يستلهمون من حكايتها مباشرة عددًا من الأعمال الباقية.

 هنا نحن أمام عالم آخر، يختلف كليًّا عمَّا كتبه وصاغه نجيب محفوظ في روايته، ولكننا في الوقت نفسه أمام نفس التيمات والشخصيات، بروح جديدة، وبحس درامي خاص، وبالكثير من مساحات الكوميديا والفانتازيا الممزوجة بشكلٍ ذكي، ليس فقط في مواقف وأحداث المسلسل، ولكن مرسومة بدقة في حوارات أبطال العمل، التي بدت في حبكتها وبنائها وصياغتها مكتوبة بعناية حتى لتشكل أحد أهم عناصر الجذب في المسلسل، بل ربما تجعله يتحوَّل في بعض المشاهد إلى لوحات مسرحية متقنة.

غمة تجتاح الحارة يقرر على أثرها فتحي إبليس على سكان الحارة ألا يشاهدوا التلفزيون ولا الراديو، وثم إشارات بعد ذلك أن حال البلاد لم يعد كما كان سابقًا، في إشارة ضمنية إلى أن الأحداث تدور في غياب قانون أو نظام حكم صارم، مما يوحي بشكلٍ غير مباشر بأيام الثورة. وهي البيئة الصالحة لظهور الفتوات وسيطرة البلطجية على زمام الأمور، لا سيما في الحارات والأزقة الصغيرة.

الفتوات والأسرار والأولياء

يمكننا أن نرصد عددًا من ملامح التشابه والتقارب بين فتوات محفوظ وحارته وحرافيشه، وبين مملكة إبليس وحارته وتفاصيلها، فلا يزال الفتوة يسعى للحصول على السلطة بشتى الوسائل جامعًا بين القوة البدنية والدينية، وتسليط إمام المسجد لكي يرسخ في أذهان الناس وجوب السمع والطاعة، خاصة في أوقات القلق والفتن. ولكن ثمة اختلافًا مهمًّا وأساسيًّا عند  أمين راضي، حيث لم يعد الفتوة هو ذلك القوي الحريص على دفع الظلم والأذى عن البسطاء، بل يكون هدفه الأول فرض سيطرته، واستغلال ما يعرفه من ماضي أهل حارته وأسرارهم لتحقيق مطالبه وتنفيذ تعليماته.

كما أن هناك سمة هامة ومسيطرة على الحارة وشخصياتها/أبطالها، وهي أن لكل واحد منهم ماضيًا يحاول الهرب منه، وسرًّا لا يريد لأحد أن يكشفه أو يسعى وراء اكتشافه، تلك الأسرار التي يبنى عليها عالم الحارة كله، ويكون في كشفها ومعرفتها خطورة على حياة ومصير أصحابها طوال الوقت.

ومثلما كان في كل حارة مصرية ومع ظهور كل «فتوة» فلا بد من ظهور «كرامات»، واعتبار موته وغيابه أمرًا مؤقتًا، وأن هناك حماية إلهية لكل أنصاره، يلعب «أمين راضي» على هذه الفكرة بشكل مختلف، ففي الوقت الذي يسعى فيه وارثو فتحي إبليس إلى إقناع أهل الحارة أن هناك لعنات أصابت كل من اعترض على عودة ابنه بودي لخلافة والده في مكانه في الحارة، نجد أحد بلطجية الحارة «مخيمر» يرفض هذه الأفكار واللعنات تمامًا، ويحكِّم عقله ويسعى للبحث عن حقيقتها ومَن وراءها.  

جمع «محمد أمين راضي» عالم الحارة المصرية بتفاصيلة المثيرة والغريبة من جانب، بالإضافة إلى أجواء الفانتازيا التي سادت العمل بطريقة حديثة، مختلفة عن كل ما تم تقديمه من قبل، ربما لم تظهر في الحلقات بعض الأماكن المحفوظية الأثيرة مثل القهوة والخمارة وغيرها، كما لم يكن ظهور الصبيان والأتباع واضحًا بشكل كبير، ولكن في المقابل ظهر الفرن والمسجد وبيت الدعارة وأهل الحارة، وكان التركيز قائمًا على عائلة «فتحي إبليس» وزوجاته الأربع «كاسية» و «أزهار» و «داليدا» و «حنية»، ومحاولة كل واحدةٍ منهن أن تحصل على الثروة التي وجدنها مخبوءة في قبره بالتعاون مع حرافيش الحارة الجدد.

 استطاع الكاتب أيضًا أن يمزج في كتابته وفي حوارات أبطال العمل بين الجدية الشديدة في الحديث عن الموت وتصميم الخطط والمكائد للحصول على ما يريدون، وبين القفشات واللقطات الكوميدية التي تخرج بشكل عفوي وبسيط بين الشخصيات، وكان كل واحدٍ فيهم معبر جيد عن شخصيته في الحكاية، فهناك الزوجة «أزهار» التي عبرت عن حزنها لوفاة زوجها «فتحي إبليس»، ولكنها لم تجد عيبًا في أن ترقص على جثته، وكذلك طليقته «كاسية» التي قامت بدورها الممثلة المحترفة «سلوى خطاب»، والتي كانت حريصة على دفنه وحمل جثته إلى بيتها ورقصت هي الأخرى له الرقصة الأخيرة.

حارة بنكهة عصرية

 استطاع المخرج «أحمد خالد موسى» أن يقدم صورة بصرية متميزة، وأن يضع للحارة صورة مغايرة عن الشكل العام المعروفة به، مما يمنح المسلسل صيغة الحياة العصرية بشكل كبير، إذ وجدنا ديكورات المنازل وتفاصيل الشوارع في الحارة وكأنها خشبة مسرح وليست حارة مصرية في شارع عادي، ولكنه في الوقت نفسه يجمع بين تلك الحالة المسرحية وبين الواقع في تفاصيل عديدة.

كما ظهر الاحتراف وإجادة تمثل الأدوار لدى الممثلين بصفةٍ عامة، وخاصة «صبري فواز» الذي أدى دور «فتحي إبليس» بمهارة واستطاع أن يجسد شخصية الفتوة العصري بشكل حقيقي، بالإضافة إلى دور سلوى خطاب طليقته «كاسية» التي أصبحت علامة هامة لأي دور مصري شعبي، كما ظهرت «غادة عادل» بشكل مختلف تمامًا يجمع بين الرومانسية والقوة والدهاء في شخصية «أزهار»، بالإضافة إلى الشخصيات الأخرى التي تميز من بينهم «محمد جمعة» في دور «مخيمر» و «نانسي صلاح» في دور «دوسة»، وغيرهم.

بالإضافة إلى ذلك كان هناك حضور قوي لعدد من الأغنيات كخلفية للأحداث، وتم توظيفها بشكلٍ ذكي، سواء كانت أغنيات أم كلثوم «ألف ليلة وليلة» أو شادية «بالهداوة يا حبيبي» وغيرها من الأغنيات، كما كان توظيف الموسيقى التصويرية التي وضعها تامر كروان متماشية مع أجواء المسلسل التي تجمع بين الهزلية والكوميدية والفانتازيا أحيانًا .    

تجدر الإشارة إلى أن المسلسل عرض منه 15 حلقة فقط استطاع أن يجعل المشاهد متشوقًا لمعرفة تفاصيل كل حلقة، وأن يربط كل حلقة بالتي تليها بشكل جيد، مع العلم أن تلك الحلقات هي الجزء الأول من المسلسل الذي عرض على منصة شاهد الإلكترونية، ويعتبر من أعمال شاهد الأصلية والحصرية.

واستطاع المسلسل أن يجذب أنظار ومتابعة الكثير من المشاهدين، وأن يجعل الحلقة الخامسة عشرة مختلفة وشديدة الغرابة، مما يدفع المشاهد لانتظار الجزء الثاني وتفاصيله التي لا شك أنها ستكون شيقة أيضًا بفارغ الصبر.