في 1961، لعب الملاكم (جيك لاموتا) دور الساقي في فيلم The Hustler ورأى في الفيلم نسخة أخرى من مأساة عاشها، موهبة عظيمة سحقت نفسها بنفسها. في 1970 كتب (جيك لاموتا) قصته، وفي 1978 وبعد الصحوة التي انتابت حركة السينما في هوليوود، كاد المخرج الشاب حينها (مارتن سكورسيزي) أن ينهي حياته بجرعة زائدة من الكوكايين بعد أن سيطر عليه الاكتئاب، زاره روبرت دينيرو في المستشفى وألقى أمامه كتاب لاموتا واقترح عليه أن يكون هذا الكتاب فيلمهما القادم، رفض سكورسيزي لأنه لم يحب الأفلام الرياضية، لكنه اقتنع وظهر Raging Bull إلى النور، امتزجت رؤية سكورسيزي في الفيلم بحياة جيك لاموتا، رأى فيها غضبه ومخاوفه وشكوكه وتدميره لذاته، قرر أن يجعله آخر فيلم في مسيرته، واختتمه بجملة «كنت أعمى والآن أبصر».

يمكنني القول إنني خلال عملي حاولت اكتشاف كيف نعيش وتساءلت عن ماهية ومعنى الوجود، واكتشافي هذا لم ينته أبدًا، لا أتوقع أن أصل لإجابة، الأمر كله يتعلق بمحاولة اكتشاف النفس والتعمق في ذلك.
مارتن سكورسيزي

من أبوين لهما أصول إيطالية، وفي منزل مستأجر من طابقين في نيويورك، وفي السابع عشر من نوفمبر عام 1942 ولد مارتن سكورسيزي، انتقلت عائلته إلى حي إيطالي صغير في مانهاتن وعمل والداه كممثلين بشكل جزئي. في طفولته عانى سكورسيزي من مرض الربو، الأمر الذي منعه من أي نشاط رياضي مع أقرانه وجعله يقضي وقته في دور العرض السينمائي أو أمام التلفاز، فتن مارتن بالسينما وتأثر بشدة بأعمال الواقعية الإيطالية الجديدة، نشأ على المذهب الكاثوليكي وأراد أن يصبح قسًا لكن صغر سنه وعدم التزامه حالا دون ذلك، فالتحق بالجامعة ودرس السينما.

سينمائي أصيل

في 1990 أنشأ مارتن مؤسسة الفيلم التي تتولى ترميم الكلاسيكيات والحفاظ على التراث السينمائي العالمي، ومن هذه الأفلام فيلم (المومياء) وفيلم (الحال). وهذا ليس بغريب على عاشق للسينما مثله، مارتن مشاهد سينمائي أصيل قبل أن يكون مخرجًا كبيرًا، تأثر بأساتذته السابقين، تعلم من الياباني كوراساوا كيفية الانغماس في عمله الفني والاهتمام بأدق التفاصيل وخصوصًا المونتاج، وأخذ من الهندي ساتياجيت راي الإيقاع الهادئ والنصوص المتمحورة حول الشخصيات، واستلهم من الإيطالي أنطونيوني فتح احتمالية الحكاية ودائرية الحبكة، ومن السويدي بيرجمان استلهم الأسئلة الوجودية والعزلة والتساؤلات المستمرة عن الإيمان.

ملامح متكررة

أفلام سكورسيزي كثيرًا ما تتجاهل التسلسل الزمني الخطي، تبدأ من منتصف الحكاية أو آخرها ليلقي المشاهد في وسط الحكاية ويندمج مع شخصياته، الأحداث بالنسبة له ليست مهمة إلا في تأثيرها على الروح وقول ما لا يمكن أن يقوله التاريخ.

يلجأ أحيانًا إلى صوت الراوي ضمن تتابعات مونتاجية، لا يشترط إطلاقًا أن يحكي الراوي شيئًا يتعلق بما يعرض على الشاشة في نفس الزمن، ليمد المشاهد بمعلومات أكثر في فترة زمنية أقل.

يستخدم موسيقى معاصرة وحركة الكاميرا في أفلامه قريبة دومًا من الحدث، تحمل في طياتها إيقاع الفيلم ومشاعر شخصياته، في فيلم يحمل إيقاعًا سريعًا مثل Cape Fear تتحرك الكاميرا يمينًا ويسارًا أو تقترب وتبتعد سريعًا بدلاً من القطع، أو بالتبادل مع قطعات مونتاجية سريعة، بينما يستخدم الكادر الثابت أو الحركة البطيئة في مشهد طويل يحمل رعب الشخصية أو فضولها القوي، وفي معظم أفلامه يستخدم خاصية Fast Dolly Zoom كعلامة مميزة له، وهي اندفاع الكاميرا بقوة كرصاصة منطلقة تجاه الشيء المراد تصويره، من منظور سردي يستخدمها سكورسيزي كضربة بداية لحدث مهم، أو إنعاش الإيقاع وجذب انتباه المتفرجين.

نيويورك مدينة العالم

أحب دراسة التاريخ القديم ومعرفة كيف تصعد الإمبراطوريات وتنهار، هذه الإمبراطوريات دمرت نفسها بنفسها، هذا الأمر فتنني.
مارتن سكورسيزي 

سكورسيزي يحب نيويورك، بالنسبة له ليست مدينة فقط وإنما العالم بأسره وما خارجها لا يعنيه مطلقًا، عالم نيويورك في أفلامه شائك مليء بالفوضى والأحلام المبتورة والظلام والعنف وانعدام السعادة ويطغى فيه الشر، وفي تقديمه لهذا العالم يبتعد عن الموعظة ويقترب من الشعور بالوحدة والموت المحتم.

الإنسان في هذه المدينة أعزل تعصف به الأزمات والعجز عن التغيير، منغمس في عالم غير أخلاقي إما بسبب ماضٍ مؤلم أو رغبة في تدمير الذات. ورغم كل ذلك لا يهتم بأن يتعاطف معهم المشاهد، يقدمهم بصورة واقعية كأنه يعرض التاريخ، والتاريخ الذي عرضه سكورسيزي في أفلامه ليس تاريخ العظماء والانتصارات، لكن تاريخ من نوع خاص، تاريخ المهزومين والصعاليك وأبطال الحياة الليلية ورجال العصابات وأولئك الذين أرادوا أن يكونوا شيئًا. 

مسيرة سائلة تقاوم الزمن 

من بين كل مخرجي جيله، ظل سكورسيزي أكثرهم بريقًا وقابلية للتجديد والحفاظ على الخط الفاصل بين جماهيرية الفيلم وقيمته الفنية، منذ بدايته الحقيقية في Mean Streets أوائل السبعينيات في القرن الماضي حاول سكورسيزي أن يزيل الغبار عن تفاصيل شوارع نيويورك بكل قذارتها وتفاصيل حياة رجال العصابات بشاعرية، في 1976 قدم الرجل Taxi Driver فيلمه الأهم في مسيرته والفائز بسعفة كان الذهبية، أيقونة سينمائية ودراسة عن الاغتراب والهوية في شخصية سائق التاكسي (ترافيس بيكل) المحارب السابق الذي يحمل الشعور الضبابي المحيط بالمستقبل والتشوّش المحيط برحلة البحث عن الذات، فيلم عن دائرة الغضب التي لا تنتهي رغم امتزاجها بقليل من الأمل.

في 1977 قرر سكورسيزي آن يقدم تحيته إلى الكلاسيكيات الموسيقية في فيلم New York, New York الذي فشل في شباك التذاكر وبسبب ذلك عانى الرجل من الاكتئاب وأدمن الكوكايين. 

في الثمانينيات حاول سكورسيزي أن يجعل مسيرته أكثر تنوعًا، قدم فيلمين رياضيين Raging Bull و The Color of Money وفيلمًا سيرياليًا After Hours وقدم الكوميديا في The King of Comedy، واختتم مسيرته في هذا العقد بفيلم The Last Temptation of the Christ المأخوذ عن رواية (نيكوس كازنتزاكس) والذي أثار جدلاً واسعًا ومنع من العرض، فيه يتتبع سكورسيزي حياة المسيح ويجردها من الأسطورية التي قدمت في الأناجيل، المسيح في الفيلم شاب حكيم يتوصل إلى فكرة الوحي الإلهي ويهلوس ويتخيل ويتردد ويشعر بالحيرة.

في التسعينيات لم يكن سكورسيزي في كامل تألقه، بعد نجاح ساحق حققه في تحفته Goodfellas لم يستطع مواصلة هذا النجاح طوال التسعينيات، حتى أنه حاول تكرار نجاح Goodfellas في فيلم Casino وحاول صنع Bringing Out the Dead كأنه Taxi Driver جديد، لكن كليهما خالفا التوقعات.

سكورسيزي في الألفية : الرجل الذي ظل واقفًا

من ينظر إلى الخفوت الذي حل بمسيرة سكورسيزي في التسعينيات، يكاد يجزم أن مسيرته انتهت وهزمه الزمن، لكن سكورسيزي فاجأ الجميع بفيلمه Gangs of New York وقدم فيه صورة مختلفة عن الأجداد في أمريكا ونسف الكثير من الصور المترسبة في أذهان الناس، وتبعه بـ The Aviator و The Departed ويواصل فيهما الحديث عن المشروع والحلم الأمريكي بنفس طريقته، ترشحت الأفلام الثلاثة لأهم جوائز أوسكار (فيلم ومخرج) ونال سكورسيزي جائزة أوسكار بالفعل كأفضل مخرج عن The Departed للمرة الأولى في مسيرته الاستثنائية.

بداية من Shutter Island، حاول سكورسيزي دومًا أن يواكب عصره، قدمه في عصر الـPlot Twists وبدا فيه مخرجًا رشيقًا كأنه شاب في العشرين، بعده بثلاث سنوات قدم Hugo أكثر الأفلام ذاتية في مسيرته، قدم فيه تحية لعصر السينما الأول وأستاذه جورج ميلييس واستعان فيه بتقنية الـ 3D.

في 2013 أخرج The Wolf of Wall Street واحد من أكثر الأفلام جنونًا في مسيرته، وبعد ذلك بثلاث سنوات قرر سكورسيزي أن يبتعد عن المنطقة الآمنة ويصنع الفيلم الذي طالما حلم بتقديمه لأكثر من ربع قرن. مارتن سكورسيزي في Silence لا يخاطب جمهوره، هو في المقام الأول يخاطب نفسه، الرجل الذي يطارده الشك دومًا. هذا الفيلم ليس عن الإيمان أو ماهية الإيمان أو كيف نؤمن والطريق إلى ذلك، هذا الفيلم عن كبرياء المؤمن، وعن الصراع الدائم بين مادية الإيمان ولا ماديته. تجربة ذاتيّة جدًا عن الفارق بين حقيقية الإيمان وادعائه، تتجاوز الأسئلة التي قدمها الأساتذة السابقون كارل تيودور درايير، وبيرجمان. 

الأفلام والدين هما حياتي كلها، لا شيء آخر.
   مارتن سكورسيزي 

هذا العام يبدو الرجل وكأنما يتحرر من قيود الزمن والتغيرات الكثيرة التي حدثت في السينما، يعود في The Irishman، الذي سيفتتح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي نهاية نوفمبر 2019، ويقدم اثنين من أهم محاربي هوليوود القدامى، دي نيرو وآل باتشينو، ومعهما جوي بيشي الذي لم يعرفه المشاهدون إلا عندما أداره سكورسيزي في ثلاثة أفلام.

يعود سكورسيزي، الذي يتم 77 عامًا في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، إلى أفلام العصابات والمافيا ويبحث عن أمجادها القديمة في الفيلم الأكثر انتظارًا هذا العام.