عندما تتفقد القائمة الخاصة بالأفلام المفضلة على الإطلاق الخاصة بالمخرج (مارتن سكورسيزي) وهو الأمريكي من أصل إيطالي، ستجد أسماء إيطالي كثيرة وهو شيء متوقع وستجد آخر هندي ومنظورًا واسعًا لثقافات مختلفة، ولكن تحت تصنيف آخر نستطيع أن نجد شيئًا مشتركًا في هذه القائمة للمخرج المشهور بأفلام العنف، الذي أصبحت طريقة سرده لمشاهد العنف بصمة خاصة، يمتزج فيها العنف مع الفوضى مع الموسيقى مع الدماء… عنف بربري ولكنه ساخر، تمامًا كشخصيته، نرجع لملاحظتنا لتلك القائمة، سنجد الشيء المشترك هو جزيرة تتكرر ثلاث مرات، الأولى في فيلم «سلفاتوري جاليانو» للمخرج فرانشيسكو روسي،  الثانية في فيلم «الفهد» لفسكونتي، الثالثة كانت مرورًا عابرًا للفيلم الإيطالي Paisen للمخرج روبرت روزوليني.

هذه الجزيرة المذكورة في سرديات العنف الخاصة بتلك الأفلام هي صقلية.

واليوم سنناقش أول فيلمين، لأن أحدهما يحكي قصة المدينة سياسيًا، والآخر يخترق الجراب الخلفي واللاوعي الجمعي للمدينة في تحفة وإعجاز بشري تسبب في إفلاس الاستوديو ذات نفسه لفيلم «الفهد» ولكنه بقي علامة خالدة في كل قوائم السينما الصادرة عن مختلف المؤسسات ولدرجة جعلته الفيلم المفضل لسكورسيزي وترناتوري وبعض النقاد يعتبره أفضل فيلم مقتبس عن رواية تم تنفيذه علي الإطلاق، وفي النهاية سنعرج على «الأب الروحي»… لأنه منه واليه نعود.

من قتل سيلفاتوري جاليانو-لغز الولاية رقم 49

أفلام الجريمة هي أفضل طريقة لتحليل الفساد الاجتماعي والسياسي لأي مجتمع.
المخرج أندريه دومنيك – خلال افتتاح فيلمه «اقتلهم بنعومة» في مهرجان كان، بطولة براد بيت عام 2012

يشتهر المخرج الإيطالي فرانشيسكو روسي بأفلام الجريمة، هو هنا مختلف عن أقرانه من رواد الواقعية الإيطالية، ولكنه أيضًا مختلف عن مخرجين أفلام الجريمة الآخرين سواء في أمريكا أو في فرنسا مثل ميلفل.

الحقيقة أن أفلامه تفوح منها رائحة الموت وبها طابع تسجيلي شبه واقعي كطريقة للتصوير، أيضًا يستخدم ممثلين ليسوا محترفين وفي الأغلب يستخدم مجاميع من المكان نفسه.

يفتتح فيلم «سيلفاتور جوليانو» بقتل البطل نفسه في أول مشهد ثم يتتبع الفيلم اللغز لنعرف من قتله وكيف قتل…لكن من هو سيلفاتو جوليانو أصلًا؟

بدأ مشواره النضالي أو الجرائمي –على حسب كيف تنظر لهذه الفوضى- في سن الحادية والعشرين، كان يلقب بروبن هود، يسرق من الأغنياء وأصحاب النفوذ ويعطي لجمهور صقلية الفقراء المال، لذلك كان داخل صقلية منيع… لا أحد يستطيع التفكير في مقابلته من الأساس، كان محبوبًا من المافيا لأن أهدافهم كانت مشتركة تجاه أصحاب النفوذ، بل كانوا يستخدمونه للضغط علي السياسيين لتمرير قرارات معينة تحميهم من العقاب على أعمالهم. 

كيف بدأ كل شيء؟

بعد غزو صقلية من قبل الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، تم إيقاف (جوليانو) بتهمة الاتجار في السوق السوداء، عرض رشوة علي الشرطة الإيطالية لتتركه ولكن رفض طلبه، قتل الضابط الذي سلمه بعد أن هرب من السجن، هنا استثارت الجموع كأنه ثوري ضد الفاشستية الموسيلينية، التحق جوليانو بالـMIS، وهو جبهة تحرير صقلية، الداعمين لهذه الجبهة هم ثوريون من صقلية على رأسهم جوليانو والمافيا الإيطالية والمافيا الأمريكية، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، نالت صقلية استقلالها لمدة سبع سنوات، كان الحاكم الفعلي هو (سيلفاتور جوليانو)، جزيرة جبلية محصنة مستحيلة الاقتحام إلا بواسطة الاقتحام الجوي، وهو خيار لم يتم استخدامه لأسباب سنعلمها بعد ذلك.

وضعت مكافأة كبيرة على رأس (جوليانو)، مليون ليرة، فقام (جوليانو) بإعلان مكافأة مقدارها مليونا ليرة على رأس وزير الداخلية الإيطالي، كان الرجل يتغندر في أسطورته، مثلًا في يوم استيقظت عجوز تحتاج لعملية كبيرة لإزالة ورم، لتجد 50 ألف ليرة من (جوليانو) بجوار وسادتها لتقوم بالعملية، السكان كانوا بلا أب لكنه عوض غياب الإله، كان الملجأ الوحيد للهروب من الفقر والظلم والإهمال، كان أملًا في حلم أمريكي بعيدًا عن ظروف إيطاليا القاسية.

مذبحة… هل كانت ضرورية؟

في بداية مايو 1947، تجمع ثلاثة آلاف إيطالي للاحتفال بعيد استقبال الصيف فيما يطلق عليه (MAY DAY)، وحدث إطلاق نار من رجال جوليانو علي المدنيين، وكانت النتيجة مقتل 11 وإصابة 65، ليس هذا فقط ففي يوم 19-8-1947 حدثت مذبحة (باليرمو) -عاصمة صقلية- حيث تم قتل سبعى رجال بوليس إيطالي بواسطة رجال جوليانو. 

كان الرجل يمعن في إهانة السلطة الإيطالية أمام شعبها، وكان دائمًا يبرر هذه المذابح بأن رجاله كانوا يتهورون فهو كان يأمر فقط أن يضربوا نارًا في الهواء ولكنهم كانوا يقتلون البوليس والمدنيين.

هنا أمرت الحكومة بالقضاء عليه فوجوده غير محتمل، المطلوب هو  الآتي: –سرًا-

: تسليم جوليانو ميتا، رجل مثل هذا لن يتم تسليمه حيًا، لأنه أثناء الخضوع للمحاكمة سيفضح أكبر الشخصيات المتورطة معه في السلطة اﻹيطالية.

المافيا انقلبت عليه، تعاونت مع الحكومة في سبيل تركهم وشأنهم مع أعمالهم الماليه والسياسية والاجتماعية، نظير تسليمه، فأشهرهم دعما لجواليانو رجل يدعى فانزيني، عندما علم جوليانو بخيانته له، أصدر الأمر بقتله، وعندما علم فانزيني بهذا أصدر هو الآخر أمرًا بقتله .

تحركت قوة كبيرة من ألفي عسكري لاقتحام صقلية، لكنها لم تكن هي القاتلة، من قتل جوليانو هو ابن عمه (كاسبرو بيشتو) ذراعه اليمنى، كانت الصفقة أنهم سيتركونه يذهب لأمريكا نظير قتل جوليانو، وهو ما حدث، قتل جوليانو في سريره، وأخبر الشرطة التي جاءت ووضعت الجثة في المدخل الخارجي ووضعت السلاح في يد الجثة لتظهر كأنه قاوم الشرطة وكأن هذا مبررًا لقتله، حتى لا يفتح فمه بأي شيء.

فيما بعد سيقتل بيشتو وكل شاهد عيان بالقضية وستبقى أسماء من كان يتعاون مع جوليانو في الحكومة الإيطالية والأمريكية …مجهولة من التاريخ الحديث.

عندما تفكر فيما حدث للحظة….ستفهم إن كان على جوليانو أن يموت… حلم حلم مستحيل (جغرافيا) أراد أن تنضم صقلية لأمريكا وأن تكون الولاية رقم 49… ويعيش الحلم الأمريكي.

حتى إنه جوليانو يقال إنه بعث برسالة إلى الرئيس الأمريكي ترومان يطلب فيه هذا الانضمام للولايات المتحدة -بشكل مباشر عن طريق مصور صحفي أمريكي يدعى (سترن)- لا أحد يعلم هل قرأ ترومان هذه الرسالة أم لا- لكنه أغفل شيئًا مهمًا نعرفه من تاريخ صقلية، لقد مرت عليها حضارات كثيرة، لكنها في يوم ما لم تنتمِ أبدًا لأي حضارة …والأهم أنها لم يكن لها أبدًا هوية محددة .

الفهد: كيف تكونت إيطاليا وصقلية

هناك عدة أحداث رئيسية أدت إلى تشكيل الدولة الإيطالية، حيث تشكلت الدولة الإيطالية الحديثة من مجموعة من الممالك، بدأت حروب التحرير في أوائل القرن التاسع عشر بقيادة قادة مثل جوزيبي جاريبالدي وجوزيبي ماتشيني، حيث نجحوا في تحرير بعض المناطق من السيطرة الأجنبية.

وتحت قيادة كونت كاميلو دي كافور، تم توحيد معظم شمال إيطاليا في مملكة بيامونتي ساردينيا (Kingdom of Piedmont-Sardinia).

ثم وقعت حرب الوحدة بين بيامونتي ساردينيا بقيادة الملك فيكتور إيمانويل الثاني والإمبراطورية النمساوية في عام 1859، وأدت إلى تحرير مزيد من المناطق. ثم تم توحيد مناطق وسط إيطاليا، وذلك بفعل تحالفات سياسية وثورات محلية.

 وفي عام 1870، تم انضمام روما (التي كانت تحت سيطرة البابا) إلى المملكة الإيطالية وأصبحت العاصمة. 

الفيلم يحكي قصة فابريزيو كوربيرو، أمير سالينا «الفهد» الذي تجرفة ثروة جاريبالدي، وقواته التي تسعى للسيطرة على صقلية من أيدي النبلاء والنفوذ الأجنبي، ويبدو الأمير فابريزيو، كأنه مستسلم وموقن بحكمة التغيرات التي يعيشها العصر، الحقيقة أنني سأسرد اقتباسات شعرية من كلام الشخصية داخل الفيلم تشرح كيف كانت ترى هذه الشخصية ما يحدث في –إيطاليا- أثناء التكوين والأهم رأيه هو في الشخصية الصقلية.

هل تعرف ما يحدث في بلدنا؟ لا شيء، ببساطة استبدال ناعم لطبقة بأخرى. الطبقة الوسطى لا تريد تدميرنا. إنما تريد أن تحل محلنا وبلطف شديد.

هكذا كان رأيه في الثورة الإيطالية، وأعتقد أنه رأيه في كل ثورة، هذه مقولة غاية في الخطورة لأنها توضح عبث سيستم التغير الاجتماعي، أنه ليس تغييرًا حقيقيًثا كأن البشر عاجزون عن تغيير السيستم بشكل حقيقي وإيجاد نظام أكثر كفاءة يخدم المجتمع في شكل أكبر.

إليك مقولة أخرى عن علاقة الكنيسة بالطبقة الحاكمة:

-الأمير:هل تعتقد أنه إذا كان بإمكان الكنيسة أن تنقذ نفسها من خلال التضحية بنا، هل تفعل ذلك؟ بالطبع ستفعل، وبحق.
– القس: لديك خطيئتان لتعترف بهما يوم السبت. واحدة من اللحم الليلة الماضية (زنى مع عاهرة)، وواحدة من الروح اليوم.

كان يقول هذه المقوله للقس الذي كان مبعوثًا من الكنيسة ويسكن معه قصره، كان يريد أن يشرح له أن الدين مطالب بأن يكون ذكيًا واجتماعيًا ويعي التغير، حتى يستمر، قوة الدين ليست في رسوخه بل في قدرته على التلون والتغيير والتأويل الواسع، هل تريد أن تسمعه يقولها؟ خذ هذه:

«لسنا عمى الروح، يا أبي. نحن مجرد بشر في عالم متغير».

الرجل يقطر حكمة غير عادية ومعرفة جمة بديناميكية التاريخ والتحول الاجتماعي، الأهم أنه واع بانتمائه لجيل هو انتقالي من عالم إلى عالم آخر والأهم أنه واع بكونه صقيليًا:

انظر إلى رده عندما طلب منه تمثيل صقلية في البرلمان ويشارك في النظام الحاكم الجديد الذي لفظه أولًا، انظر ماذا قال:

 أنا أنتمي إلى جيل غير محظوظ، متراص بين عالمين وغير مرتاح في كليهما. والأمر الأكثر أهمية هو أنني بلا أوهام تمامًا.  الآن، ماذا سيفعل المجلس معي، مشرع غير خبير، يفتقر إلى قدرة الخداع الذاتي، الشرط الأساسي للتحكم في الآخرين.  لا، لا أستطيع أن أرفع سبابة في السياسة. سينتزع إصبعي من يدي.

مستوى مذهل من الأمانة مع النفس، والأهم هو صراحة في لحظة حرجة من التاريخ الإيطالي، قد تراه شخصية سلبية، لماذا لا يريد خدمة أهله من ناس صقلية، الإجابة أنه يعلمهم جيدًا، هل تريد أن تعرف صقلية، اسمع هذا الحديث:

لما يزيد على خمسة وعشرين قرنًا، حملنا وزر حضارات رائعة ومتنوعة، جاءت كلها من الخارج، لم تكن من صنعنا، ولا نستطيع أن نسميها من صنعنا.
هذه العنفوان في المناظر الطبيعية، وهذه القسوة في المناخ، وهذا التوتر المستمر في كل شيء، وحتى هذه الآثار من الماضي، رائعة ولكن غير مفهومة لأنها لم تُبنَ من قبلنا، ومع ذلك تقف حولنا كأشباح جميلة صامتة؛
 كل هؤلاء الحكام الذين هبطوا أساسًا بالقوة من كل اتجاه وكانوا يطاعون بشدة، وسرعان ما كرهم الشعب، ودومًا ما كانوا غير مفهومين، كما ترى، أعمالهم الفنية لم نستطع أن نفهمها لكن الضرائب التي فرضوها فهمناها جيداً، والتي أنفقوها في أماكن أخرى.
 كل هذه الأمور شكلت طابعنا، الذي يتم تشكيله بالتالي من قبل أحداث خارج سيطرتنا إضافة إلى العزلة المرعبة للعقل.
“نومٌ، عزيزي شيفالي، نومٌ أبدي، هذا ما يريده الصقيليون.
 وسيظلون دائمًا يستاءون من أي شخص يحاول أن يوقظهم، حتى لو حمل لهم أروع الهدايا.
وبيني وبينك، أشك بقوة ما إذا كان لهذه المملكة الجديدة الكثير من الهدايا لنا في حقائبها.
كل تعبير صيقلي، حتى التعبير الأعنف، هو في الحقيقة رغبة في الموت.
 شهوانيتنا، رغبة في الانسياق إلى النسيان. طعنات السكين وإطلاق النار، هواجس للاندثار.
كسلنا، ومشروباتنا المتبلة والمخدرة، رغبة في السكون الشهواني، وهذا أيضًا يقود إلى الموت.

أخيرًا: صقلية، منفى مايكل كورليوني

في النهاية، هل نستطيع أن نقول إن صقلية هي رمز للعدم؟ موت؟ لا شيء كما يقول هذا الرجل.

هذه إجابة ولها جانب من الصحة ولكن حتى نفهم الجانب الآخر -المشرقي- من الحقيقة، علينا أن نرجع إلى فيلم تبدأ وتنتهي عنده السينما وهو الأب الروحي.

في الجزء الأول، يتم إرسال مايكل -الباتشينو- إلى صقلية للاختباء بعد قتل التركي، ولكننا ندرك بعد ذلك أن الأمر لم يكن فقط اختباء، بل تأهيل روحي للدور الجديد.

ما الذي تمثله صقلية في هذا الفيلم؟

هي تمثل المحايد، جزيرة خارج كل الحضارات، هي لا تمثل أي حضارة، لكنها تملك قوي (قاطع الطريق) الذي يسمح لحضارة بالمرور ويمنع الأخرى، هي تمثل يوحنا النبي، هو ليس رسولًا، ولكن الرسول القادم يسوع سيعمد يغسل في نهر الأردن تحت يديه، صقلية رحبت بمايكل وأعدته للعصر القادم من الحروب القادمة بين العصابات في أمريكا والذي سيكون عصر أكثر جهنمية من عصر أبيه، مايكل كان يحتاج لهذه الجزيرة خارج الحضارة، لأن مايكل كان لا بد من أن يتحول لعدمي حتى يمارس كل هذا القتل، لكن العدم الصقيلي هو ليس مثل العدم الغربي، بل هو عدم مشرقي له كنيسته ومسجده، وله طقوس صلاته، وله انتماء ناحية العائلة، كما ترى صديقي، هذا هو اختراع صقلية:

أنها جعلت القتل روحاني ومقدس.

 لذلك دائمًا مايكل ما كان يتحرك كجندي الله -حتى وهو يقتل أخاه- كأنه ينفذ مهمة مقدسة في مصير حازم لا يستطيع تغييره، لأن العهد تم أخذه في صقلية.

 في النهاية صديقي هي جزيرة البعض يعتبرها الولاية الأمريكية رقم 49 والبعض يعتبرها جزءًا من إيطاليا، ولكن أهلها -فقط أهلها- يعرفون أنهم صقليون، فقط صقليون، لأنه لا يوجد انتماء آخر يستطيع تحمل لعنتهم.