قصف إسرائيلي يستهدف مبنى بلدية خان يونس القديمة – غزة، لحظات وبدأ مشهد ما بعد القصف: بيوت مهدمة، سيارات متكسرة، وبشر في حالة خوف وذعر فوق الأنقاض يبحثون عن ناجين.

كان «هاني الشاعر» أحد المُصوِّرين هناك، التقط عدة صور للمنطقة، ومن بين هذه الصور كانت هي، لا أعرف اسمها، لذا سميتها «روح»، تيمناً بقطة تشبهها أنقذتها في العمارة التي أقطنها وأصبحت تعرفني وتنتظرني عند المدخل لأعطيها وجبتها.

لونها برتقالي (قطة مشمشية – كما نسميها في مصر)، مُلقاة على الأرض جثة صغيرة ظاهرة عليها الوفاة نتيجة سقوط حجر أو شيء ثقيل عليها، جثة صغيرة لم يلتفت لها أحد –كما ظهرت في الصورة– سوى طفل صغير يتأملها في حالة من الذهول والسكون.

أبنية مُهدّمة، شوارع وأحياء مدمّرة، أطفال مذهولون، آباء وأمهات وشباب مذعورون يبحثون هنا وهناك؛ من سيزيل هذه الأطنان من الأسمنت الآن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟! مشهد متكرر بعد كل قصف إسرائيلي في مناطق فلسطينية مختلفة، مشهد لم أتجاوزه ولم أتقبل حدوثه مذ كنت في الحادية عشرة من عمري ووعيت على مأساة فلسطين ونضالِها.

أسمع كثيرين حولي يقولون لي: الفلسطينيون تعوّدوا على تلك المشاهد، هذه حياتهم ومستعدون للأسوأ، لكنني خارج مناطق القصف أتساءل: كبرت مع فلسطين 22 عاماً خارج حدودها وسكنت هي وجداني، وتكررت خلال تلك السنوات نفس المآسي والمشاهد، فإلى متى؟ ولماذا لم أتعوّد عليها أنا أيضاً؟

لماذا يقول إنسان لآخر بكل جرأة أن مشاهد الدمار وأشلاء الأطفال ووجوههم المتفحمة ورؤوسهم المقطوعة/المهشّمة هي مشاهد «عادية بالنسبة لهم» يجب أن تتقبليها كما تقبلها أهل غزة خاصة؟ هل أهل غزة فعلاً تقبلوها؟ الواقع كما أشاهده يخبرني عكس ما يقولون.

قلوب الأمهات المنفطرة ونحيب الآباء على أطفالهم تقول عكس روايتهم. انهيار رجال الإسعاف والكوادر الطبية يقول عكس ذلك، كل الأصوات من فلسطين تقول إن ما يحدث لهم إجرام وغير إنساني لا يمكن التعوّد عليه ولا تقبّله ولا احتماله. يمكن أن أتقبل نصيحة أحدهم لي بالقول إن الله اصطفاهم ليأخذهم شهداء ويُنزّل على قلوب ذويهم سَكينة ونوراً لم نختبره نحن بعد.

خلال حرب غزة عام 2021، كنت أتابع الأحداث من منصة إكس (تويتر سابقاً)، وكتبت عنها تدوينة هنا استطعت فيها رصد واقع حياة الفلسطينيين عن قرب من خلال تغريدات سريعة/ لحظية حول ما يجري، بخاصة عند قدوم ليل غزة الموحش، وبخاصة عند القصف.

في هذه الحرب، التي بدأت منذ العملية العسكرية الفلسطينية «طوفان الأقصى» 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، انفجر العالم الغربي غير مُصدِّق لما حدث، وبدأ تضييق الخناق على المحتوى في منصات «ميتا» بمرور الوقت، وأصبح بديلها وبديل «إكس» بالنسبة لي، منصة «تيك توك».

هناك عالم آخر من التوثيق المتعلق بالحرب من لُب الواقع دون تحريف أو تزييف -حتى الآن- وتساعد طريقة عمل المنصة في انتشار المحتوى للمستخدمين من كافة أنحاء العالم، وكذلك الهاشتاجات المستخدمة، كلمات البحث، سرعة تحميل الفيديوهات على الحسابات تساعد أيضاً في رفع المحتوى بشكل عاجل ووصوله للعالم، فأصبح تيك توك ساحة حقيقية لمعرفة ما يجري صوت وصورة قبل حتى مراسل صحفي عبر التلفاز، بل حتى قبل الصحفيين والقنوات الإخبارية ومؤسسات كبرى لديها حسابات هناك. والميزة الأهم أنها منصة صينية، بعيدة عن أي ضغط غربي.

قطط غزة الطوّافون

عبر منصة تيك توك، استطعت أن أرصد جانباً آخر من الحرب في غزة، في عالم أصغر، هو عالم القطط.

في الفترة الأخيرة أخذت القطط مكاناً مهماً وجميلاً في حياتنا نحن البشر، بدأناه باستخدام صور القطط في الرسوم التعبيرية، أو «الميمز» حتى وصل الأمر إلى توعية فعلية -للأطفال والكبار- بالرأفة بها وحسن معاملتها، والرأفة بالحيوان عموماً.

ازدهر حبّها في قلوبنا فأصبحت أفراداً من عائلتنا أكثر من كونها حيوانات في الشارع أو مجرد حيوان أليف، وأصبح امتلاك قطة في المنزل إضافة رحيمة وجميلة، بل مطلباً أساسياً في بعض الأحيان، وأنا أيضاً لديّ وإخوتي قطة، فرد إضافي في عائلتنا. ماذا عن أهل غزة؟

للإجابة على السؤال، دعني آخذك معي في رحلة البحث منذ يوم السابع من أكتوبر 2023، ومشاهد الغارات ليلاً والقصف، فبجانب الفاجعة لمجرد التفكير في ما قد يحدث للناس، لم يتوقف تفكيري أيضاً عن مصير القطط والكلاب والحيوانات في هذه الظروف. لم أسمح للفكرة حتى بأن تتوغل، وبدأت أصلي وأسلم الأمر كله لله. وفي ليلة، أتذكر الليلة الثالثة للحرب (10 أكتوبر)، بقيت أدعي الله أن يسلم أهل غزة، وقططها وكلابها وحيواناتها وكل مخلوقاتها، ونمت باكية وأنا أقول: يا رب يكون الجميع بخير، لأستيقظ اليوم التالي على صورة القطة التي ذكرتها في المقدمة.

ظهرت الصورة في وجهي على الهاتف بمجرد ضغطة زر على تطبيق فيسبوك صباحاً. بعدها لا يمكنني وصف حالتي النفسية التي انهارت بعد ليال من محاولة التماسك. خمسة أيام تالية -أو أكثر- أحاول أن أتجاوز مشهد القطة «روح» وأتناساها وأتناسى مصير كل الأرواح هناك. ومع كل غارة جديدة، يتجدد تفكيري الذي لم يعد يسعفني في التركيز على الأطفال أو الأمهات أو القطط. أو حتى البيوت؛ أحلام الناس وسنوات عمرهم.

تركهم خلفنا ليس خياراً

حالتي النفسية المنهارة هذه أخذتني في البحث عن مكانة القطط في غزة بالنسبة للناس، وكيف يعيشون وسط ممارسات الاحتلال الغاشم، أحاول البحث عن إجابة تطمئنني رغم أنني أعرف تماماً أن أهل غزة مليؤون بالرحمة ويعرفون تماماً معنى المعاناة. بالفعل وجدتها أفراداً من عائلات بعض الفلسطينيين، ليست مجرد حيوانات لا يبالي بها أحد وسط نكبة ما يجري هناك على الأرض.

وجدت عبر تيك توك مجموعة فيديوهات جميلة ورحيمة، سيتوجب عليك عزيزي/تي القارئ/ئة فتح الرابط في الفيديوهات التالية المرفقة من «تيك توك» لمشاهدتها:

أطفال نزحوا مع عائلاتهم اصطحبوا معهم قططهم، أصدقاؤهم الصغار ومصدر أمانهم وسلامهم.

طفل ينقذ قطته/ أو ربما قطه من تحت الأنقاض بعد غارة إسرائيلية.

 رجل يقف بين ركام منزله، شارعه، لا يمكنه الحديث عن أي شيء سوى خسارة كل شيء، ما عدا قطة تعطي لهم بعضاً من المواساة.

هنا أيضاً سامي، مستخدم في تيك توك، نشر فيديو أخذه من «سناب شات» لمستخدم -لم يذكر اسمه- وجّه رسالة بطريقته التي يعرف تماماً أنها ستصل لأبعد من غزة، لأصحاب الضمير والمشاعر في العالم، من خلال فيديو لقطة ترقد تحت شجرة في مكان مدمّر بعد غارة إسرائيلية، تحرك أذنها مُنصتة لصوت زنّ الطيران الإسرائيلي، تنظر للسماء، تحاول تفسير ما يحدث. كانت الرسالة:

قطة في مكانٍ ما في غزة، في المرة القادمة التي تحتضن فيها قطتك، تذّكر أن هذه القطة ربما لم تعد على قيد الحياة.

«سعيد العر»، موظف خمسيني متقاعد، كرّس حياته لحماية حيوانات غزة من تعرضها للإساءة والإهمال بخاصة وقت الحرب، لديه مجموعة من 40 قطة يسميهنّ عائلته. في إحدى المقابلات كما ذكرها «بيزنس إنسايدر» يقول:

لقد تدربت أنا وعائلتي على كيفية أخذ القطط معنا عندما نغادر أثناء القصف، تركهم خلفنا ليس خياراً، لدينا أربعة صناديق كبيرة نضع فيها الصناديق الصغيرة، وبهذه الطريقة يمكننا إخراجهم من المنزل بسرعة.

تأخذني رحلتي إلى السيدة الخمسينية «نعيمة معبد»، صاحبة مقهى «مياو كات» -الذي افتتح في أغسطس/ آب 2023- والتي تقول إن فكرة المقهى كانت تقديم شيء لطيف مع فنجان من القهوة. قطة تلعب معها تجعلك تبتسم، وتنسى ضغوط الحياة، لأن القطط بالنسبة لها هي ملجأ يفرحها ويريحها من الضغوط النفسية، لهذا فكرت في إنشاء مشروع يجمع بين خدمة الناس وبين ما يفرحهم. كان هذا المقهى يستقبل زبائنه، قبل الحرب، من كافة الأعمار مقابل 10 شيكل (2.65 دولاراً أمريكياً).

قطة «بانكسي» للفت أنظار العالم لغزة

بعد حرب 2015، ذهب «بانكسي» -فنان الرسم على جدران الشوارع- إلى غزة، وصوّر فيديو مدته دقيقتين تقريباً حول رحلته التي لم تكن سياحية، بل مرّ عبر الأنفاق، وصوّر خلال الفيديو حياة الفلسطينيين في مناطق مختلفة تحمل آثار الحرب، ورسم جداريات متنوعة على ما تبقى من أنقاض المنازل، كانت إحداها رسمة لقِطة جميلة على بقايا جدار ظل صامداً (هي الصورة التي اخترتها للمقالة في الأعلى).

فن الرسم على جدران الشوارع بشكل عام يحمل عديداً من الأهداف والرسائل، ويقول بانكسي إنه اختار القطة للفت الانتباه إلى الوضع في غزة، فصورة قطة تعدّ استراتيجية فعالة لجذب الانتباه. ويذكر أن أحد المواطنين في غزة بعدما رأى الصورة، اقترب منه وسأله ماذا يعني ذلك؟ فشرح له أن صور القطط بخاصة لو كانت صغيرة وجميلة تلفت الانتباه، وهذا من أجل لفت نظر العالم لغزة.

ختاماً، لا يسعني القول سوى إن روحاً صغيرة استطاعت على مدار سنوات أن تُعزِّز مفهوم الرحمة والشفقة تجاه المخلوقات الأخرى عموماً، وليس هي وحدها، وتجاه الناس أيضاً، وأن تبثّ للعالم رسائل وتصنع فارقاً في حياة أصحابها.

استطاعت هذه الروح أن تُطمئن أطفالاً وكباراً، وتُذيب مآسي وتمتص أحزاناً وتُهدّئ روعاً مُلئت به آلاف القلوب حول العالم، وفي غزة خاصة. وفي بعض الحالات ومن بين الأنقاض، تُرشد القطط الناس إلى أصحابها ومنازلها، منازل مُتبنّيها. لذلك، إذا كنت سأكتب وصيّة تبقى هنا، فهي أننا لا ننساهم من حساباتنا، وأن نتبرع من أجلهم ونطعمهم، وأن نرسل مع المساعدات لغزة طعاماً للقطط وللحيوانات عموماً ما استطعنا.

اخترتُ أن تكون عنوان تدوينتي «قطة غزة الشهيدة»، لأن تلك الروح دفعتني لأكتب رحلتي في البحث عن إجابة مصير قطط غزة وحيواناتها، ولأن مشهد موتها مثل أرواح أهل غزة، تذهب جميعها شهيدة تحت ممارسات الاحتلال.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.