في جلسة رائقة في صيف 2005 تقريبًا شاهدنا فيلم «عوكل» في السايبر، كنا مجموعة متنوعة الأعمار، لا يجمعنا سوى الضحك الهستيري على كلام محمد سعد وحركاته داخل الفيلم، ربما وصلت بنا الحالة العامة، بعد الاندماج في الأحداث والانغماس في الضحك، إلى حالة من السكر والانبساط بكل ما يفعله سعد حتى لو كانت نظرة بطرف عينيه، هذا السكر، دفع صاحب السايبر، وقد كان في أوائل ثلاثينياته، أن يقول إن عادل إمام بذات نفسه لا يساوي ربع موهبة محمد سعد.

اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة عشر عامًا، عندما يظهر سعد على الشاشة في أي إعلان لعمل جديد من أعماله تتفاوت ردود الفعل بين الترحيب والنفور، لكن ربما نتفق على شيء: أن سعد موهبة تمثيلية جبارة لكنه أضاع نفسه بلا رجعة.

قد لا نشعر -كجمهور- بالحسرة على إهدار موهبة أي كوميديان مثل سعد، قد يكون ذلك بسبب الانفجارة التي حققها سعد في بداية مشواره الفني، وخلقه لشخصيات شديدة الغرابة والسذاجة معًا عن شخصيات السينما الرائجة وقتها جعلتنا نتعلق بها ونرى أنفسنا من خلال غرابتها وسذاجتها في وجه الحياة.

بعيدًا عن استقبالنا كجمهوره القديم لمحاولات محمد سعد الحالية في إعادة إنتاج نفسه، هناك طائفة أوسع من جمهور غيرنا لم يصاحب سعد في انفجارته بداية الألفية، وربما لا يحفظون اسمه الفني بقدر ما يحفظون حركاته الجسدية في بعض أفلامه الأولى، حققت تلك الشريحة من الجمهور أحد أحلام محمد سعد بإحياء «حالة» أفلامه الأولى، واستخدامها في صناعة الميمز على السوشيال ميديا، وربما خلقت نجاحات لأفلام لم تعش كثيرًا وقت عرضها مثل «بوشكاش» و«كركر».

السقوط في غواية اشتقاق اللمبي

كان «اللمبي» هو مشروع العمر بالنسبة لسعد، حتى إن الرجل بعد أكثر من عشرين عامًا لم يستطع أن يتجاوزه.

يحكي سعد عن بداية شخصية اللمبي بأن الفكرة كانت مجرد تون صوتي يُشخص بها النكات التي يرويها، وعندما عرض على المخرج شريف عرفة والسيناريست أحمد عبد الله فكرة تشخيص دوره في فيلم الناظر بتلك التون لاقت استحسانهم واختاراه ليؤديها في فيلم الناظر.

نجح الفيلم ككل، ونجحت شخصية اللمبي بالأخص، كونها المرة الأولى تقريبًا التي تظهر فيها شخصية على هذه الشاكلة، بتصرفات وحركات مختلفة، بطريقة مشيته وإخراجه «للمطوة»، وربما أكثر ما ميزها كانت اللغة المختلفة.

مدفوعًا بالنجاح الذي حققته الشخصية في الناظر، أطل بها من خلال فيلم اللمبي في عام 2002، في أول بطولة مطلقة له، وشاركته الفنانة عبلة كامل وحسن حسني، وبعد النجاح الجماهيري والإيرادات المرتفعة، لحقه سعد بلمبي آخر في فيلم اللي بالي بالك عام 2003.

من وقتها حجز موقعه بين الكوميديانات الجُدد الذين بدؤوا مع جيل محمد هنيدي، وأصبح الجميع يعرف اللمبي، أو قلده أو حتى يتذكر شيئًا من حركاته وكلماته، ومن وقتها تلبست سعد روح اللمبي، وأصبح كل فيلم جديد له هو بالضرورة لمبي آخر.

في لقاء له يحكي سعد طريقة اكتشافه لشخصية «أطاطا». قال بأنها ولدت ولادة صوتية من حنجرته، وخرجت كما يصف من رحم (الحشرجة الصوتية) التي كان يؤدي بها دورًا لشخصية طفل في مسرحية مع أشرف عبد الباقي، ظهرت شخصية «أطاطا» بمظهر أجبرنا على الضحك، وإن لم يكن بدافع الكوميدية فبدافع استغرابنا من تلك السيدة العجيبة.

بعدها ظل سعد يقدم في أفلامه شخصيات خرجت بدورها من رحم شخصيات أخرى، تلعب جميعًا على فكرة الغرابة في أدائها الحركي، ولغتها.

كانت الخلطة ناجحة في معظم الأحيان و«كاتشي» معنا، فمثلًا وقت عرض بوحة انتشرت طريقته الكلامية بيننا كمراهقين كالفيروس، حتى وصل الأمر إلى التحدي من الأجدر منا بلقب بوحة الصباح، ولكن الأمر فقد رونقه عندما صار مكررًا.

الميمز وإعادة الاكتشاف

بعد سنوات من التخبط الفني، لم يتقن فيها محمد سعد سوى إعادة تدوير ذاته القديمة، متحصنًا بقدرته العالية على إتقان الكوميديا الجسدية، لم تنجح إعادة التدوير تلك في تعديل مساره الفني، فربما لا يتذكر أي منا رفقاء تلك الجلسة الرائقة أعماله من بعد كركر، إلا ما نستخدمه في رسائلنا ومنشوراتنا اليومية لنصنع ميمز تناسب كلامنا.

تعتمد الميمز على خلق لغة غريبة وفجة في سخريتها من كل شيء وأي شيء، وكلما زادت حدة السخرية، زاد معها الانتشار الفيروسي للميم، وتزداد معه قدرة الميم على إعادة تخليق نفسه مع كل حدث وتريند جديد.

وربما صناع الميمز لا يكون أغلبهم قد دخل فيلمًا لمحمد سعد من قبل أو حضره في توهج البدايات، لكن الرغبة الملحة في صنع ميمز متفردة تدفع الجميع للنبش في كل ما يصلح لنبرة السخرية الجارفة، في بداية ظهور الميمز لم تكن لغتها مفهومة لنا بالشكل الكامل، مع الوقت صار الأمر أسهل، لكن ظل هناك توليد لميمز بـ«لغة» أو «كاراكتر» أكثر غرابة واختلافًا عن التي تصير مألوفة بالانتشار.

شخصية «بيس يا مان» من الميمز الغريبة التي ظهرت لأول مرة مع ظهور صفحة Egyptian Egg في عام 2014، وهي صفحة مختصة بصناعة الميمز أو كما يصفها أصحابها بثلاثة مصطلحات من لغة الميمز التي ظهرت في نفس الفترة: «قمودية- دحك- تفتيس».

ركزت الصفحة خلال فترة طويلة على مشهد واحد من فيلم بوشكاش، حيث يدخل «بوشكاش محفوظ» إلى الجيم الذي تتمرن فيه «هانيا» ويسأل موظف الاستقبال: عندكم حديد؟ يومئ له الموظف بنعم يسأله بوشكاش: إنتو أرخص ولا عز الدخيلة! ثم يتبع سؤاله بضحكة مجلجلة وخبطة على كتف الموظف، كان الإفيه ذكيًا وقتها في سطوة نظام مبارك، لكن مع الوقت تحول إلى إفيه سخيف بضحكة معبرة عن السأم من كل شيء.

وبالرغم من سخافة الإفيه أو لأنه سخيف إلى هذا الحد، وظفته الصفحة مع العديد من الإفيهات الرديئة المقتطعة من الأعمال الفنية إضافة إلى النكت المسجلة والقائمة على المفارقة في نطق واستخدام الكلمات، لم يزد الأمر على أن يبدأ الفيديو بمقطع قصير من إفيه أو نكتة مسجلة ويتبعه الجزء الأخير من مشهد سعد وهو يضرب بكتف الموظف ويطلق ضحكته الهستيرية وهو يقول «بيس يا مان بيس».

انتشرت الكاركتر بسرعة شديدة، وصارت الضحكة معبرة عن الملل ونفاد الصبر.

لماذا يحب الميم(ز سعد؟

يمكن القول، إن صُناع الميمز والجمهور الذي يتفاعل معها، قد وجدوا ضالتهم في محمد سعد، وببحث سريع على جوجل، أو داخل الصفحات المليونية لصناعة الميمز قد نلاحظ أن سعد هو أحد الفنانين الأكثر تكرارًا بعد عادل إمام الذي يسبق الجميع بلا منافسة، بل إن أفلامًا مثل اللمبي وبوشكاش وكركر يتم استيراد مشاهد كاملة منها مع وضع عنوان مختلف لجعلها «ميم» بحد ذاتها: كمشهد امتحانات محو الأمية في اللمبي، أو مشهد اعتزال بوشكاش محفوظ.

ربما تتلاقى رغبة صناع الميمز في السخرية الفجة مع الحالة التي صنعها سعد في شخصياتها القديمة في أمرين: أولهما غرابة الشخصية، وثانيهما أداء سعد الحركي.

يركز سعد على خلق لغة مختلفة لكل شخصية، لا عن طريق اللعب الصوتي وتغيير مخارج الحروف فقط، وإنما باختراع لزمات يمكنها الالتصاق بذهن الجمهور، مثل «وأنت عامل إيه» لعوكل، أو «صبح صبح ياعم الحاج»، وإذا لم يستطع خلق اللازمة الكلامية استعاض عنها بالكاريزما الأدائية مثل يوسف خوري أو بوشكاش، لغة شخصيات سعد في بداية الألفية كانت نابعة من عمق النبذ الاجتماعي لتلك الشخصيات المختلفة عن النمطي، لغة مربكة ومرتبكة وغير مفهومة، وتكسر قواعد الحديث اللبقة والمعتمدة مجتمعيًا، بل وقد تكون صادمة أحيانًا للمشاهد العادي، ومع ذلك تبقى ظريفة و«كاتشي»، وهو بالضبط ما تفعله الميمز، وتظل تبحث عنه باستمرار، أن تكون «غريبة» و«كاتشي» طوال الوقت.

إضافة لذلك، يأتي الأداء الحركي لسعد وتطويعه لجسده ببراعة، والذي يجعل الصور المأخوذة من مشاهده، صورًا ناطقة ومعبرة دومًا، يمتلك قدرة جبارة على تطويع جسده في كل الحركات الممكنة، والوصول إلى حالة يمكننا تسميتها «هيبرة جسدية». هذا الأداء الحركي الذي يعتمد عليه سعد في تأدية معظم أدواره وشخوصه يتلاءم في «أفورته» مع هيمنة الصورة على منصات التواصل الاجتماعي، بوصفها العنصر الأساسي في صناعة الميمز، إذ تشكل المادة الخام للتعبير عن الأفكار والمشاعر ونقلها بشكل سريع وسهل، وكونها عامل جذب انتباه عندما تحمل دلالة وتأثير عبر وسائل التواصل التي تتنشر فيها الصورة أكثر من النص، بل ويتعدى الأمر أكبر من الاعتماد على مشاهد معينة، وإنما يصل لخلق «بيرسونا» مختلفة تمامًا لتلك المشاهد، مع تكرار اقتباسها وتدويرها على الإنترنت.

فعلى سبيل المثال إذا خسر فريقنا المفضل في كرة القدم وكان هناك لاعب صاحب أداء مخزٍ، وعند توجيه الغضب إلى هذا اللاعب في قالب ساخر، تبرز بسرعة لقطة من في فيلم اللمبي أو بوشكاش لسعد وهو يضرب الممثل المساعد، بخاصة الفنان حسن عبد الفتاح، بطريقة مفتعلة وغير معتادة، بدلًا من مشاهد أخرى لعدد من الممثلين الكوميديين أصحاب المدارس المختلفة تمامًا مثل هنيدي أو أحمد أمين، ليصبح الأمر ملائمًا لتنفيس الغضب، وغالبًا سيلاقي الميم بعد نشره تفاعلًا كبيرًا وانتشارًا فيروسيًا ممن يمرون بنفس الحالة وتتملكهم نفس المشاعر.

ربما لم يفطن سعد بعد إلى الرواج الذي تحققه أعماله القديمة لدى صناع الميمز، فلا يبدو على صفحاته الرسمية أي اهتمام بصناعة ميمز خاصة به، عكس محمد هنيدي الذي فطن سريعًا للميمز وخلق لنفسه «بيرسونا» مختلفة على الميديا، خصوصًا تويتر، باعتباره إنفلونسر أكثر منه فنانًا مع سيل ميمز مقتبس من أعماله القديمة.

قد لا تنجح نفس الوصفات القديمة لإنجاح سعد مجددًا، لكن لا مانع من استغلالها بشكل ملائم، حتى لا يصبح كما قال عن نفسه بلسان الحاج حفناوي في مسلسله الأخير «الإكسلانص»: «أنا مجرد بقايا ذاكرة».

تنويه

المقال بالمشاركة مع الكاتب محمد عادل