لم يكن الخامس عشر من سبتمبر/أيلول الماضي يوماً عادياً في تاريخ العالم، خاصة بالنسبة لحلفاء واشنطن حول العالم وبالتحديد حلفاؤها في الخليج العربي. فمع سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول عقب انسحاب القوات الأمريكية منها بعد نحو 20 عاماً من السيطرة عليها، شاهد العالم مشاهد هروب الآلاف من المدنيين والعسكريين، الموظفين والمتعاونين، وعلى رأسهم الرئيس الأفغاني نفسه، مكدسين داخل طائرات شحن، وبرز المشهد المأساوي لتساقط بعضهم من تلك الطائرات وهي محلقة في الهواء.

وعلى الرغم من أن البراجماتية تبدو أقرب إلى عقيدة سياسية بالنسبة لواشنطن عبر تاريخها، حيث «مصلحة الولايات المتحدة فوق كل اعتبار» هو الشعار المعلن للإمبراطورية الكونية، إلا أن الصدمة كانت أكبر من كل التوقعات، فمن رأى ليس كمن سمع. بات هناك سؤال لا مفر منه في أذهان الجميع، وخاصة في ممالك النفط الخليجية، ألا وهو: ماذا سيحدث لو تخلّى العم سام عنا نحن أيضاً؟ أو بالأصح: ماذا سيحدث لنا عندما يتخلى عنا العم سام؟

الخبر السيئ كان وجود مؤشرات قوية على ذلك التخلي، والخبر الأسوأ هو حدوث ذلك بينما تغلي المنطقة فوق براميل نفط مشتعلة وتكاد تنفجر في أي وقت.

بعد أقل من شهر على تلك المشاهد الأفغانية المهيبة، تسربت أخبار عن سحب واشنطن منظومة الدفاع الجوي من السعودية، وشوهدت أماكن بطاريات صواريخ باتريوت خالية داخل قاعدة الأمير سلطان التي تبعد 115 كم عن العاصمة الرياض، وتعتبر بمثابة سقف حمايتها. جاء سحب منظومة الدفاع الجوي هذه في وقت لم تتوقف فيه سيول الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية المنطلقة من قبل جماعة الحوثي اليمنية نحو الأراضي السعودية، والتي استطاعت في وقت سابق قصف المنشآت النفطية ووقف نصف إنتاج المملكة صاحبة المركز الأول في تصدير النفط في العالم، واستدعى ذلك وقتها عودة قوات أمريكية إلى الرياض بعد 17 عاماً من رحيلها عام 2003 (غادرت تلك القوات لاحقاً).

كل هذا، رغم ذلك، ليس هو الخطر الأعظم، وإنما التهديد الأكبر الذي يقلق ممالك الخليج ينبع من زيادة التوتر في المنطقة ودق طبول حرب إقليمية واسعة بين إيران وأذرعها من جانب، وإسرائيل وحليفتها واشنطن من جانب آخر، وهي حرب ربما لن يملك أحد رفاهية النأي بالنفس هنا، خاصة أولئك الذين يحتضنون قواعد عسكرية ومصالح اقتصادية أمريكية في المنطقة. ومع الإعلان عن خروج قوات التحالف الدولي من العراق خلال الشهر الماضي، وزيادة معدلات تسلّح تل أبيب، بات واضحاً كشمس الصيف أن الولايات المتحدة غير مشغولة بأمن أحد في المنطقة سوى إسرائيل التي تعتبر سياسياً الولاية الأمريكية الواحدة والخمسين.

المسألة الإيرانية والحسابات الإسرائيلية

في يوليو/تموز عام 2015، وقّعت إيران اتفاقاً تاريخياً مع الدول الست الكبرى في العالم (أعضاء مجلس الأمن الدائمين بالإضافة إلى ألمانيا) بعد أكثر من 20 شهراً من التفاوض، قضى بوقف تقدم برنامجها النووي مقابل رفع عقوبات اقتصادية وتجارية وعسكرية مفروضة عليها منذ سنوات طويلة أنهكت اقتصادها.

مثّل هذا الاتفاق وقتها ضمانة لدول المنطقة بعدم الوصول إلى نقطة التهديد الوجودي تحت خطر القنبلة النووية الإيرانية، وهو الخط الأحمر الذي وضعته أمريكا لطهران منذ عقود حفاظاً على مصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفائها في المنطقة. غير أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب انسحب من ذلك الاتفاق منفرداً في مايو/آيار 2018، وأعاد فرض العقوبات على طهران. رداً على ذلك، عملت إيران على التصعيد العسكري تجاه واشنطن وحلفائها، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى اغتيال أهم رجال إيران العسكريين على الإطلاق ومؤسس إمبراطوريتها في المنطقة، قاسم سليماني، قائد فيلق القدس.

مؤخراً، انطلقت الجولة الثامنة من المفاوضات بشأن اتفاق جديد حول البرنامج النووي الإيراني. وعلى الرغم من ترجيح إمكانية العودة للاتفاق القديم، فإن السياق الجديد أصبح مختلفاً إلى حد كبير عما سبق. فطهران قد أطلقت العنان لبرنامجها النووي بزيادة كمية ونسبة اليورانيوم المُخصب، وقد أعلنت مؤخراً امتلاكها كمية مخصبة تصل إلى 120 كيلوجراماً بنسبة 20%، بعد أن كانت قد أعلنت قبلها البدء في التخصيب بنسبة 60%. هذا في الوقت الذي كان سقف المسموح لها وفق الاتفاق النووي السابق هو تخصيب اليورانيوم بما لا يزيد عن 3.67%. وجدير بالذكر أن عتبة التخصيب اللازمة لصناعة سلاح نووي تصل إلى نسبة 90%.

وبرغم كل التطمينات الإيرانية بشأن سلمية برنامجها النووي، فإن هناك عشرات التقارير تُشير إلى زيادة واضحة جداً في نسبة وكمية التخصيب، وهي عملية لا تعني الاكتفاء بالأغراض السلمية وحسب. بعض تلك التقارير وصفتها طهران بالمسيسة والهادفة إلى تشويه سمعتها، إلا أن تقارير فنية بحتة صادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقول بوضوح بأنها اقتربت من مستوى الأسلحة النووية أكثر من أي وقت مضى في تاريخها.

بعيداً عن ادعاءاتها وتصريحاتها الإعلامية، ترى إيران أن من حقها امتلاك سلاح نووي كتعويض عادل عن اغتيال قائدها سليماني الذي أسس ونفذ الإستراتيجية العسكرية الإقليمية للجمهورية الإسلامية، ثم باتت تتفكك وتتهاوى بعد أن اغتاله صاروخ أمريكي هو وأحد أهم مساعديه، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس. كذلك يمثل النووي ضمانًا لأمن إيران في مواجهة الترسانة النووية الإسرائيلية التي لا تخضع للرقابة ولا العقوبات.

وربما ترى إيران بديلاً عنه رفع كل العقوبات عنها وإطلاق اقتصادها لتُصبح دولة ثرية كجيرانها في الخليج استناداً إلى ثرواتها النفطية الضخمة التي تكبحها العقوبات ولا تترك لها فرصة حل مشاكل الشعب الذي لطالما انتفض ضد الفقر هناك.

في المقابل، ترى إسرائيل أن رفع العقوبات عن طهران سيزيد من قدراتها ونفوذها السياسي والعسكري في المنطقة بما يهدد أمنها واستقرارها. وفي الوقت نفسه، ترى في الوصول إلى قنبلة نووية إيرانية تهديداً لوجودها وبقائها. وحتى إن كانت القدرات النووية الإيرانية مشكوكاً فيها، يبقى الرهان على ذلك فقط خياراً خطيراً بالنسبة لتل أبيب.

أجرت إسرائيل لذلك استعداداتها لشن حرب شاملة على المنشآت النووية الإيرانية لتدمير المشروع بأكمله، وتعمل على تخصيص ميزانية ضخمة لذلك، وقد بدأت في شن هجمات محدودة بالفعل عبر تقنيات نوعية كالهجوم على مفاعل نطنز. ولطالما استخدمت واشنطن تلك التهديدات الإسرائيلية في الضغط على طهران خلال المفاوضات، بجانب التلويح بالركون إلى الحل الإسرائيلي إذا ما فشل التفاوض، وهو ما جعل من المنطقة كتلة البارود الساخن القابل للانفجار فجأة، فتل أبيب على الرغم من توأمتها السياسية مع الولايات المتحدة فإنها لطالما انفردت بقراراتها العسكرية دون انتظار الضوء الأخضر الأمريكي.

أصبح الوضع كمشهد هوليوودي كلاسيكي، يمسك الجميع بأزندة بنادقهم في وجه بعضهم البعض. أولًا هناك إسرائيل بقدراتها العسكرية الضخمة وأسطولها الجوي الأحدث على الإطلاق، المتضمن طائرات إف-35 الشبحية، والقادر على الوصول إلى المنشآت النووية الإيرانية وبجانبها واشنطن التي لن تتركها -بطبيعة الحال- تخوض حرباً كهذه منفردة ولن تلبث أن تُطلق أرتالها العسكرية المنتشرة في دول المنطقة.

ثانياً، هناك طهران. فهي الأخرى لديها من الأذرع ما يهدد كل شبر في المنطقة على مختلف الجبهات. فبجانب قدرات الحرس الثوري الصاروخية والبحرية، هناك أكثر من 150 ألف صاروخ تحت سيطرة حزب الله، الحليف الأقرب لطهران، وتبعد مسافة صفر عن الحدود الشمالية لإسرائيل، وكذلك هناك العديد من نقاط التمركز العسكري التابعة والحليفة في سوريا والعراق واليمن وغزة، والتي ربما يهدد إطلاقها مجتمعة ومتزامنة بقرار من طهران وجود إسرائيل حقاً، وهي معادلة شديدة الخطورة على أمن تل أبيب التي فشلت منظومة الدفاع الجوي المتطورة والخاصة بها، القبة الحديدية، في حمايتها من أمطار الصواريخ التي انطلقت خلال المواجهة الأخيرة مع فصائل المقاومة في غزة وحدها.

إذا كانت هذه حسابات إسرائيل، فماذا عن حسابات دول الخليج؟

تهدئة خليجية

الإمارات

خلال سنوات حكم ترامب، هرولت الإمارات والبحرين، وبشكل أقل سلطنة عمان، نحو التطبيع الكامل مع إسرائيل، حتى تخطت بمراحل بعيدة شكل العلاقات القائمة منذ عقود بين تل أبيب من جهة والقاهرة وعمّان من جهة أخرى، على الرغم من مرور عقود على اتفاقيات السلام بين هاتين الدولتين والكيان الصهيوني.

اليوم، نشهد لأول مرة تطبيعاً عسكرياً وأمنياً بشكل معلن بين إسرائيل وأعضاء بجامعة الدول العربية. ربما كان ذلك طمعاً في شراكة أكثر حميمية مع واشنطن لا تتوقف عند المصالح الاقتصادية المتبادلة وحسب ولا تتم عبر القنوات المصرية أو الأردنية، وكذلك لجني مغانم اقتصادية من ذلك التطبيع الذي ربما يفتح آفاقاً لهذه الدول أبعد من تجارة النفط.

إلا أنه من الواضح أن تلك الحسابات قد أُعيدت من جديد بعد أن اتضح خسران الرهان الكامل على تل أبيب، فبالنهاية، إسرائيل لن تخوض حرباً لصالح أحد، ولن تستطيع حتى إن أرادت أن تؤمن حماية دول الخليج بالكامل من التهديد الإيراني أو غيره. ومهما كانت التنازلات، فإن واشنطن لن تساوي بين تل أبيب وغيرها من دول المنطقة سواء في الحماية أو الامتيازات، وهو ما ظهر جلياً برفض بيع الطائرات الشبحية من طراز اف-35 للإمارات.

كل ذلك دفع أبو ظبي إلى السير في الاتجاه الآخر نحو تهدئة الأجواء وفتح دروب التواصل مع طهران ودمشق وأنقرة، وهي العواصم التي كانت في مركز استهدافها، ومن ثم أصبحت تلك محطات لقائدي أبو ظبي، السياسي محمد، والأمني طحنون، أبناء الشيخ زايد. كذلك أصبحت تلك العواصم مراكز لخططهم الاقتصادية والاستثمارية، في سير على النهج الذي تتبعته المملكة العربية السعودية، وإن بشكل مختلف إلى حد ما.

السعودية

في الرياض، يعمل الرجل الأقوى في المملكة، ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، على تغيير جوهري في بنية المجتمع السعودي، وهو الأمر الذي ربما يتخطى بمسافات طويلة ما يراه كثيرون شكلاً من أشكال الدعاية الموجهة للغرب. على أية حال، فإن هذا التغيير الشديد نحو الانفتاح الإعلامي والفني والثقافي وبعض الحقوق الشخصية في مجتمع عاش عقوداً تحت وطأة أيديولوجية دينية متشددة يعزز هشاشة الاستقرار السياسي، وهو ما يواجهه الأمير بقبضة أمنية شديدة من جهة، وبعض السخاء من جهة أخرى، منعاً لقلقلة حكمه، خاصة باستغلال أزماته الخارجية المتعددة التي يأتي على رأسها حرب اليمن ومأساة الصحفي المُغتال بأوامر أميرية جمال خاشقجي.

بجانب ذلك التركيز على خطط الحكم والسيطرة المجتمعية والاقتصادية والسياسية والمؤسساتية داخل المملكة، سار الأمير هو الآخر على درب التهدئة الإقليمية، ففتحت الرياض مسارات اللقاء والتفاوض والحوار مع خصمها اللدود طهران، والتي شهدت بعض العواصم العربية لقاءاتهما المشتركة السياسية والعسكرية والاستخباراتية، من بغداد إلى مسقط ثم عمّان. كما شمل ذلك الانفتاح الجانب السوري أيضاً. كما قادت الرياض عملية المصالحة مع الدوحة وإنهاء المقاطعة والحصار السياسي والجغرافي والاقتصادي والدبلوماسي ووقف العداء المعلن والصدام السياسي والإعلامي والعسكري بالوكالة. ليبقى الملف اليمني كالشوكة في حلق المملكة لا تعرف كيف تخرج منه، فلا هي قادرة على حسمه عسكرياً كما اعتقدت في بدايته ولا كبرياؤها يسمح بإعلان الفشل والاتجاه نحو مسارات أخرى غير العسكرية.

قطر

أما الدوحة فقد عززت مكانتها ونفوذها وعلاقاتها وقدرتها على الصمود التي أظهرتها وقت الأزمة الخليجية. فبجانب أنها أبقت على علاقاتها الطيبة مع طهران التي كانت أحد منافذها على العالم خلال الحصار، نجحت في لعب دور جوهري عبر احتكار وكالة الملف الأفغاني بعد الانسحاب الأمريكي من كابول، لتصبح أهم اللاعبين هناك والوسيط الأكبر بين حركة طالبان والدول الغربية بداية من رعاية المفاوضات ووصولاً إلى احتضان السفارات الغربية وتمثيلها دبلوماسياً لدى كابول.

أضاف ذلك لقطر نقاط نفوذ إقليمية مع الغرب، وفي القلب منه واشنطن التي تحتضن لها القاعدة العسكرية الضخمة في منطقة العديد. وعلى جانب آخر، فقد انقلبت العلاقات بينها وبين القاهرة التي وجدت معها أفق تعاون ومكاسب اقتصادية وسياسية بدلاً من الحرب الباردة التي استمرت بينهما منذ الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين.

في يناير من عام 2021، عقب انتهاء الانتخابات الأمريكية وقبل أيام من تولي الرئيس الجديد، جو بايدن، انعقدت قمة العُلا الخليجية، تلك التي أنهت الحصار على قطر وأعلنت انتهاء الأزمة الخليجية، كما كانت بمثابة إعلان رسمي لإعادة ضبط الأمور في الشرق الأوسط تجاه الإستراتيجية الأمريكية الجديدة المنسحبة نوعياً من المنطقة بتهدئة الصراعات ووقف التصعيد المتبادل، لتسلك كل دولة من دول المنطقة مساراً أقل حدة في العداء والخصومة، وهو ما أدى إلى تقليل نسبي لحدة التوتر على الجبهات المشتعلة عسكرياً في المنطقة مثل ليبيا وسوريا والعراق ولبنان، والتي لطالما كان الدور الخليجي فيها مؤججاً للصراعات والصدامات الأهلية، بينما كان التأثير أقل على الجبهات المضطربة سياسياً والمتأرجحة بفعل عواملها الداخلية مثلما الحال في السودان وتونس. كما فتح ذلك الانسحاب النوعي الأمريكي من المنطقة آفاقاً لمشاريع وإستراتيجيات أخرى دولية وإقليمية.