في عام  1977 نشر وودي آلن في مجلة النيويوركر قصة قصيرة بعنوان «The Kugelmass Episode» تحكي عن أستاذ جامعي  يدعى «سيدني كوجيل ماس» عالق في زواج تعس للمرة الثانية، كما تثقل كاهله نفقات أطفاله من زواجه الأول. يذهب سيدني إلى طبيبه النفسي ويخبره أنه يرغب في قصة حب جيدة، على أن يبقى الأمر سرًّا، فليس بإمكانه تحمل تكاليف طلاق جديد. هذا ما يشعر بطل ألن أنه بحاجة إليه. يخبره الطبيب: «عليك أن تكون واقعيًّا فمشاكلك أعمق من هذا، وفي النهاية أنا معالجك ولست ساحرًا».  يرد على طبيبه: «ربما هذا ما أحتاجه فعلًا».

 يعثر لاحقًا على ساحر يدعى بيرسكي العظيم بإمكانه بواسطة سحره أن ينقلك إلى أي عالم خيالي خطته يد شاعر أو كاتب بإدخالك إلى خزانة مغلقة مع نسخة من الكتاب الذي تختاره. يختار سيدني  رواية «مدام بوفاري» لفلوبير، فطالما كانت إيما بوفاري امرأة أحلامه.

 تنشأ قصة حب بين بطل حكاية آلن ومدام بوفاري، والتي حين تعرف أنه يعيش في زمن آخر تلح عليه أن يصطحبها معه. يجلبها الساحر إلى العالم الواقعي للبطل، لكنه يعجز عن إعادتها لمدة أسبوع، ويظل بطلنا عالقًا معها في غرفة بأحد الفنادق خلال هذه الفترة، وهو ما يعطل عمله الجامعي ويهدد بانكشاف أمره أمام زوجته. ينجح الساحر أخيرًا في إعادتها إلى عالمها الأدبي، ويتعلم بطلنا الدرس لوهلة، قبل أن يعود للساحر من جديد ليغمره في العالم الخيالي لأحد روايات فيليب روث. يموت الساحر بسكتة قلبية بعد أن أخطأ في الكتاب الذي وضعه مع سيدني في الخزانة، ويظل بطلنا ضائعًا للأبد داخل كتاب لتحسين لغتك الإسبانية.

تبدو هذه الحكاية التي كتبها آلن مدخلًا مناسبًا لواحدة من أكثر الأفكار إلحاحًا في سينماه. تقول هذه الفكرة بأننا جميعًا عالقون في كابوس يسمى الواقع، وكل منا يبحث عن مهرب. يبدو آلن لمتتبع حكاياته السينمائية وقد استنفد كل وسائل السحر للهرب من الواقع، لكنه يفاجئك في كل مرة أنه لا يزال في جعبته الكثير.

شخصيات آلن وغواية الفانتازيا

 في فيلم «Play It Again, Sam» يذهب بطل آلن المنفصل لتوه عن زوجته ويعاني من الاكتئاب إلى السينما – ربما آلن واحد من أكثر المخرجين الذين يذهب أبطالهم إلى السينما كمهرب – يشاهد تحفة «كازابلانكا»، ويندهش بطل آلن من تماسك بوجارت في مشهد الوداع الأيقوني قبل أن يعود إلى مسكنه أكثر اكتئابًا. وهناك من قلب كآبته وداخل عتمة مسكنه يتجلى له بوجارت ليعمل كدليل له للنجاة من خيباته العاطفية المتتالية.

في فيلمه «The Purple Rose of Cairo» تهرب شخصية سينمائية تدعى توم باكستر من شريط العرض بعد أن مل من تكرار دوره في الفيلم، يخطو خارج شاشة السينما ليعيش قصة حب مع امرأة وحيدة تدعى سيسيليا عادت لتشاهد فيلمه خمس مرات، فالسينما بعالمها الخيالي هي المهرب من إحباط واقعها. هذا التوتر الدائم بين واقع الشخصيات وعوالم الفانتازيا التي تنزع إليها هذه الشخصيات لتجاوز واقعها موجود دائمًا في سينما آلن.

يواصل آلن لعبه بهذه الفكرة في فيلمه «Midnight In Paris» الصادر عام 2011، والذي يمنحه نصه الأصلي البديع أوسكاره الثالث ككاتب. يصل جيل (أوين ويلسون) المقبل على زواجه من إينيز (رايتشل ماك آدامز) إلى مدينة أحلامه باريس حاملًا معه مسودة روايته الأولى. ندرك منذ اللحظة الأولى أن «جيل» واقع في حب المرأة الخطأ. هناك تنافر واضح بينهما في الطباع والمزاج العاطفي. هو يحب باريس تحت المطر، ويحلم بالانتقال إليها والتفرُّغ لكتابة الروايات وترك عمله المربح في هوليود. وهي تقول له: «أنت واقع في حب الفانتازيا».

تلتقي إينيز بصديق قديم يدعى بول، هو نموذج للمثقف المتحذلق والثرثار الذي يتكرر ظهوره في سينما آلن، ويبدو واضحًا للعيان انجذابها له. يبدو جيل في حالة إنكار لكل ذلك. جيل الذي يظن أنه ولد متأخرًا، يعيش على الحد الفاصل بين الواقع والخيال مستغرقًا في حالة من الحنين لزمن آخر – باريس عشرينيات القرن الماضي – قبل أن ينزلق ذات ليلة مع دقات منتصف الليل إلى الزمن الذي طالما حلم به.

آلن كحكاء سينمائي فاتن

 لا يبدو آلن في سفره إلى الماضي مهتمًا  بتقنيات الانتقال عبر الزمن أو الاحتمالات المثيرة لهذا السفر. إنه يلجأ إلى أبسط ما يمكن لتنفيذ فكرته. عربة موديل العشرينيات. فالأمر بالنسبة له أقرب إلى لمسة السحر منه إلى سرديات الخيال العلمي.

 يفتتح آلن فيلمه بتتابع من اللقطات (يستمر لدقيقتين) يصوِّر جمال باريس بين الليل والنهار، وعلى شريط الصوت تنساب نغمات مقطوعة سيدني باشيت «Si tu vois ma mère» وهو ما يُؤسِّس لحالة النوستالجيا الرومانسية التي تستولي على بطل الفيلم. يبرع آلن كعادته  في الدخول مباشرة إلى قلب حكايته وتعريفنا بطبيعة شخصياته والعلاقة بينها بأقصر الطرق. فمع نزول عناوين الفيلم نستمع إلى الحوار الدائر بين جيل وإينيز عن باريس، والذي يكشف إلى حد بعيد، وحتى قبل أن نراهما، طبيعتيهما وطبيعة العلاقة بينهما. المزاج اللوني الدافئ للفيلم (الأصفر الذهبي هو اللون المسيطر) يلائم تمامًا حالة الحنين الممتدة التي تتقمص بطل الفيلم.

يتفادى آلن في فيلمه واحدًا من أكثر العيوب شيوعًا في الأفلام التي تحتوي بنيتها السردية على عالمين مختلفين، إذ تبدو الصلة بين عالم الفانتازيا والواقع الفيلمي عميقة، فالفانتازي في فيلم آلن هو ما يحرك الواقعي ويوجهه. لا يدرك جيل الهوة  بينه وبين إينيز في المزاج والطباع قبل أن يقع في حب أدريانا (ماريون كوتيارد)، و لا يكتشف خيانة إينيز إلا بعد أن يقرأ هيمنجواي روايته الذاتية. تخبره جيرترود ستاين أن وظيفة الفنان ألا يستسلم لليأس، بل أن يجد ترياقًا لخواء الوجود، فيتحرك واقع السرد الفيلمي إلى نهاية أكثر تفاؤلًا.

ينجح آلن أيضًا في الاستفادة من زخم حضور هذه الشخصيات الأيقونية في فيلمه، فهو يدمغ كل شخصية منها بانطباع ذكي ونافذ لعمق الشخصية ومن دون أن يفقد فكاهته. هيمنجواي الرجولي المستعد دائمًا للقتال، ودالي بكاريكاتوريته المثيرة. في أحد مشاهد الفيلم الساخرة يخبر  جيل لويس بونويل بحكاية أحد أفلامه السوريالية (فيلم  الملاك المبيد The Exterminating Angel) يحاول جيل إقناعه بالحكاية ومغزاها بينما بونويل يبدو رافضًا تمامًا لها.

يبدو هذا السفر عبر الزمن بالنسبة لجيل كرحلة داخلية، رحلة لاكتشاف الذات ومواجهة حقيقة اللحظة الحاضرة. رحلة يفكك آلن خلالها أسطورة العصر الذهبي أو الحقبة السعيدة، فكل جيل يحن إلى زمن أقدم معتقدًا أنه الزمن السعيد، وكما يدرك آلن أن النوستالجييا بلا أفق وأن ما يأكلك من الداخل لا علاقة له بالزمان ولا بالمكان. يعود جيل بعد هذه الرحلة أكثر اتساقًا مع ذاته وزمنه واثقًا للمرة الأولى من خياراته المقبلة.

عن البيض الزائف وعربة الوهم

آلن ليس فيلسوفًا بالمعنى الأكاديمي، لكنه يعيدنا إلى هذه الأسئلة الملحة التي تجعل المشاهدين يعاودون الاهتمام مرة أخرى بالفلسفة. إنه ليس مجرد رسول للكآبة المليئة بعصاب عدمي، إنه رومانسي كلاسيكي، إنه معلم في التقاط وتصوير مخاوفنا، مثلما آمالنا وأحلامنا. إنه بارع جدًّا في استقصاء الحالة الإنسانية. إنه مثل كامو وسارتر لكنه أكثر مرحًا.
مارك ت. كونارد من كتاب «وودي آلن والفلسفة»

أبطال آلن في صراع دائم بين العقل والقلب. والقلب هنا نقصد به الطبع الرومانسي لأبطاله الذين يسيرون دائمًا إثر عواطفهم القلقة. إحباطهم الدائم من الواقع – والواقع في فلسفة آلن محبط لا محالة – يجعلهم ينزعون دومًا نحو الخيال.

 تحضر هنا  في «Midnight In Paris» كل هواجس آلن وأفكاره الفلسفية التي سبق أن عبَّر  عنها مرارًا. عبثية الحياة وقسوة الواقع غير المحتملة، فوضى العلاقات العاطفية ورهاب الموت. هنا جيل يسعى نحو واقع بديل ممتد في زمن بعيد، إنه لا يشعر أنه على وفاق مع كل ما يحيط به، بينما في عشرينيات باريس المتخيلة يشعر أنه في بيته، يقع في حب أدريانا، لكنها واقعة في حب زمن آخر. هذه النوستالجيا المجسدة هي هروبه من واقعه المحبط واستحضاره الموتى في فانتازياه هو أيضًا نوع من إنكار الموت.

يرى آلن في في فلسفته أن الشيء الوحيد الذي يُعوِّل عليه هو أن تُشتِّت نفسك عن الحقائق الباردة للذات والعالم. هذه واحدة من أكثر الأفكار جوهرية في فلسفة آلن، وهي مستقاة من أفكار فرويد ونيتشه ويوجين أونيل، الذين يرون في الوهم ضرورة جوهرية للحالة الإنسانية. كل منا يشيد من الوهم ما يجعل الوجود ممكنًا؛ لأن الوجود المحض كابوس. ينطلق آلن وأبطاله من هذه الأرضية القاحلة والتي يبدو معها كل إلهاء سحرًا، وكل حركة بعيدًا عن الواقع وحقائقه نعمة. 

ينهى آلن تحفته «Annie Hall» بهذه الفكاهة المرة، يذهب رجل إلى طبيب نفسي ليخبره عن جنون أخيه الذي يعتقد أنه دجاجة، يسأله الطبيب لماذا لا تحضره إليَّ؟ ليجيبه: «لأني بحاجة إلى البيض». يعلق آلفي سينجر بطل الفيلم  بأنه يرى العلاقات العاطفية من منظور هذه الفكاهة، إنها لا عقلانية ومجنونة لكننا نظل نجربها لأننا بحاجة إلى البيض.

بعد أن انتهت مغامرة جيل في الماضي وانهارت الفانتازيا التي شيدها يُقرِّر الانفصال عن خطيبته. يسير في شوارع باريس وحيدًا، ومع دقات منتصف الليل يقابل فتاة كان قد صادفها في أحد المحلات التي تبيع تسجيلات موسيقية قديمة. يبدأ المطر في الهطول. تبتل باريس. الفتاة هي الأخرى تحب باريس تحت المطر كما جيل. يسيران معًا تحت المطر. يركب جيل من جديد عربة الوهم.