حين قرأ الكاتب والمخرج مايك فلانجان- وهو الذي نشأ كاثوليكياً- الكتاب المقدس للمرة الأولى أصابه الرعب من فرط العنف الممارس خلال صفحاته. كلما أراد الرب أن يفعل شيئاً فظيعاً في الكتاب المقدس أرسل ملاكاً، أرسل الرب ملاكاً ليذبح الأبناء البكر للمصريين مثلما إلى سدوم وعمورة. كان ظهور ملاك في الكتاب المقدس مرتبطاً دائماً بالفزع والرعب، يتساءل فلانجان في أحد حواراته: هل يريد أحد بالفعل أن يقابل مخلوقاً كهذا؟

ينتمي أحدث أعماله (Midnight Mass) وهو مسلسل قصير من 7 حلقات إلى ما يسمى «الرعب الخوارقى» (Supernatural Horror). لدينا مجتمع صيادين، في جزيرة منعزلة، يعيش على حافة الزوال مادياً وروحياً. رحل أغلب سكان الجزيرة عنها، لم يعد يسكنها سوى عشرات من البشر. بات المكان مهجوراً وكأنه شبح مكان. يصل إلى الجزيرة قس غامض يدعى بول/ هاميش لينكليتر ليحل مكان أسقفهم العجوز برويت الذي يرقد مريضاً في أحد مستشفيات الأرض المقدسة فتبدأ سلسلة من المعجزات في الحدوث تمشي فتاة مشلولة على قدميها من جديد، تستعيد عجوز شبابها ويبدو المكان وسكانه كمن يعيشون حلماً، إلا أن هذا الحلم سينقلب لاحقاً إلى كابوس دموي، فالأب بول لم يأت للجزيرة وحيداً بل حمل معه في صندوق مخلوقاً مجنحاً، تشع عيناه في الظلام. هو أقرب إلى مصاص دماء، يتغذى على دم ضحاياه ويتجول في ليل الجزيرة معتمراً قبعة الأسقف العجوز وعباءته لكن بول يسميه ملاك الرب!

مشروع شغف قديم

مشهد من فيلم Gerald’s Game
مشهد من فيلم Gerald’s Game

بعد عدة اقتباسات ناجحة لأهم كتاب الرعب مثل شيرلي جاكسون، هنري جيمس، وبالطبع ستيفن كينج يقدم هنا فلانجان عمله الأكثر خصوصية وذاتية ليس فقط لأنه من كتابته بل لأنه ولأول مرة على هذا النحو المكثف يتعاطى مع أشباحه الخاصة. ظل هذا المسلسل حكاية شغف بها فلانجان لأكثر منذ عقد من الزمن. حكاية تحمل الكثير من هواجسه، ومخاوفه وأسئلته الخاصة. قدمها كفكرة مسلسل لشركات الإنتاج ورفضت، حاول كتابتها كفيلم ثم كرواية وكتب بالفعل عدة فصول منها. في فيلميه «Gerald’s Game» و«Hush» تظهر رواية بعنوان «Midnight Mass» داخل سياق العالم الخيالي لفيلميه كأنما بذلك يبقى حلمه حياً حتى يحين أوان تحقيقه. نجاح أعماله التلفزيونية والسينمائية مؤخراً وصعوده في السنوات القليلة الماضية كأحد أهم مخرجي الرعب على الساحة هو ما شجع «نتيفلكس» أخيراً لإنتاج مسلسله.

بعد طقس التناول الأول لفلانجان أصابته الحيرة، ذهب لأبويه، إذا كنا نشرب دم المسيح ونأكل لحمه كي نبقى أحياء إلى الأبد، ألا يجعلنا هذا مصاصي دماء؟

يقف هذا الخيال الطفولي المذعور والمتسائل وراء الرعب الذي يخلقه في عمله الأحدث (Midnight Mass)، ليس مصادفة إذن أن يكون المصدر الرئيسي للرعب في الحكاية مصاص دماء يسميه فلانجان ملاك الرب.

يبدأ السرد بعودة رايلى/ زاك جيلفورد إلى بلدة طفولته. كان قبل سنوات قد تسبب وهو في حالة سكر في حادث أفضى إلى مقتل فتاة وبعد سجنه وخسارته لكل شيء، لم يكن أمامه سوى العودة للمكان الذي لم يره أبداً كبيت له. ومن قبله بقليل عادت ايرين/ كيت سيجيل حبه الأول التي فرت هي الأخرى من الجزيرة في مطلع شبابها.

رايلي يمثل كابوس فلانجان مجسداً. فلانجان الذي يقول في حواراته، إنه جاء من سلالة ممتدة من السكيرين الأيرلنديين منفتح تماماً بشأن الحكي عن تجربته مع إدمان الكحول وخوفه أن يؤدي إدمانه لقتل شخص ما مع فرصة استمراره بالعيش بعد ذلك. هذا ما حدث مع رايلي تماماً، وهذا هو جرحه المفتوح. تسأله ايرين عن حاله فيجيبها:

أجلس في بيت والدي وأتنفس، لا أقدم أي فائدة لأحد. أعيش فحسب، وهذا أسوأ ما في الأمر، لأنه لا يجب أن أكون حياً يا إيرين

رغم قضاء فترة عقوبته فإنه يرى أن ذلك غير كاف. يقول ساخراً عادة ما يجد الناس إيمانهم في السجن، أما هو فقد فقده هناك. إنه يوغل في تعذيب ذاته، إنه يرفض أن تكون جريمته جزءاً من خطة الرب فهو ليس بحاجة لأي عزاء إنه يريد أن يحمل ذنبه صليباً ما تبقى من أيامه. حين يظهر له كل ليلة قبل نومه شبح الفتاة التي قتلها لا نراه يفزع بل يتقبل حضورها ببساطة كما لو كان ذلك عقاباً مستحقاً. ربما يدفعنا ذلك للتساؤل عن طبيعة الرعب لدى فلانجان.

ملامح الرعب في أعمال «مايك فلانجان»

مشهد من مسلسل Midnight Mass
مشهد من مسلسل Midnight Mass

هذا هو مسلسله الثالث بعد «The Haunting of Hill House» و «The Haunting of Bly Manor» الرعب في عمليه السابقين وكذلك في «Midnight Mass» مرتبط بالمكان على نحو وثيق، ثمة روح مظلمة تسكن المكان لكن فلانجان مشغول أكثر بالظلام الذي يسكن الشخصيات التي تسكن هذه الأماكن. معظم الرعب قادم من خوف عميق، من جروح لم تلتئم داخل الشخصيات.

اكتسب فلانجان خلال السنوات الماضية نوعاً من السمعة كأحد المخرجين الذين يمتلكون صوتاً خاصاً وتفهماً واضحاً لطبيعة وتقاليد النوع الذي يعمل من خلاله. يعرف فلانجان جيداً أن ما يهم في هذه الأعمال ليس سطحها المرعب بل ما يكمن تحت السطح، النسغ الذي يغذي رعب هذه الحكايات. تتجاوز نوعية الرعب التي يقدمها فكرة الوحوش والأشباح أو حلى الرعب التقليدية كصرير الأبواب القديمة وصرخات الفزع المفاجئة فأغلب أعماله في جوهرها هي دراما عائلة، عن أبناء خذلهم الآباء على نحو فظيع. دراما شخصيات معطوبة وهشة تصارع رعبها اليومي، رعب أن تكون أباً، شريكاً في علاقة، رعب أن تكون إنساناً. ما هو الأكثر رعباً، مصاص دماء أم إحساس الذنب الغامر الذي يمتص الحياة من داخلك، مثل أن يشعر رايلى طيلة حياته أنه كان خيبة أمل لأبيه أو إحساس ايرين بأنها أفسدت حياة والدتها فقط لمجرد وجودها، لذا يتمهل فلانجان في تأسيس عالمه ورسم شخصياته. بطيئاً يبدأ في لمس تقاليد النوع وثيماته. من الممكن إذن أن نسمي هذا النمط من دراما الرعب «Slow Burn Horror».

القراءة النفسية لدراما الرعب

مشهد من مسلسل Midnight Mass
مشهد من مسلسل Midnight Mass

(تنويه: يتطلب التحليل في الفقرتين التاليتين حرق بعض أحداث المسلسل)

يمنحنا الرعب فرصة أن ننظر حقيقة إلى أنفسنا والأشياء التي تخيفنا كمجتمع وكأفراد
الكاتب والمخرج مايك فلانجان

لا شيء يفوق متعة الانغماس في التجربة الحسية لمشاهدة دراما الرعب سوى محاولة فهم وتفكيك هذه الدراما. تتيح لنا دراما الرعب وتقاليده النوعية التحديق في الأعماق النفسية للشخصيات التي تستهلكها هذه الدراما أو ما يسميه فرويد الهو/ Id، وهو الجزء من الذات الذي يحتوي كل ما هو مكبوت، رغباتنا ومخاوفنا التي تقلقنا وتقلق المجتمع الذي نعيش فيه. وما يكبت يعود مسخاً، يعود عنيفاً.

دراما الرعب تجسم وتكثف هذا العالم الكابوسي،مخاوفنا الداخلية. المسخ في سينما الرعب أو مسلسلاته هو مسخ لأنه تجرؤ على قول الحقيقة، حقيقة الرغبة. يشغل فيلم الرعب دائماً مشاهديه بما يحدث على السطح، بحِلى الرعب التقليدية التي تجذب انتباه المشاهدين بينما ما يريد الفيلم أن يقوله يكون دائماً بعيداً عن هذا السطح.

ما الذي يحدث على السطح في حكايتنا؟ لدينا مخلوق مسخي يعيش على دم الإنسان والحيوانات إنه صورة أخرى لمصاص دماء مع بعض لمسات التغيير التي يضيفها فلانجان على الصورة التقليدية لمصاصي الدماء. يخلط الأب بول دم هذا المخلوق بنبيذ القربان فتبدأ المعجزات في الحدوث، فيهزم دمه المرض والموت.

نعرف خلال السرد أن الأب بول ما هو الا الأسقف برويت وقد أعاده إلى شبابه دم هذا المخلوق الذي التقاه في أحد كهوف الصحراء في رحلته إلى القدس. يلامس هنا السرد ربما الرغبة الإنسانية الأكثر عمقاً وقدماً الرغبة في الانتصار على الموت.

يحكي بول لرايلي أن ما قاده للكهنوت، كان وفاة أخته الصغيرة. كان مرعوباً من الموت وأن ما قاده إلى الرب كان محاولة فهم كيف للموت- بخاصة موت أخته الطفلة- أن يكون جزءاً من مخطط الرب. وبعد عمر أمضاه الأسقف متحدثاً باسم الرب وبعد أن صار هو نفسه على شفا الموت استيقظت شكوكه القديمة، استيقظ فزعه من الموت فإذا به يلتقى مخلوقاً مظلماً يتيح له عالماً بلا موت. هذا المخلوق إذا ليس أكثر من شكوك الأسقف وفزعه من الموت.

هذا فقط أحد جوانب الموضوع فالقس كان يحب امرأة على الجزيرة أنجب منها بنتاً ولأن قانون الكنيسة يمنع الزواج فقد تخلى عنهما لرجل آخر. عاش قربهما تأكله رغبة أن يكون زوجاً وأباً. بعد أن أعاده المخلوق لشبابه يقرر أن يعيده معه إلى الجزيرة ليستعيد شباب هذه المرأة التي أحبها من أجل أن يحقق أخيراً رغبته المعذبة. هذا المخلوق الذي أتى به الأسقف من رحلته هو خلاصة مخاوفه ورغباته مجسدة في هيئة مسخية من أجل مواجهة أخيرة معها.

كيف يخدم هذا المخطط حكاية رايلي؟

يحاول رايلى الاستمرار في تعافيه من الإدمان بعد خروجه من السجن بحضور اجتماعات زمالة المدمنين المجهولين ثم لاحقاً مع الأب بول. يستخدم فلانجان مخلوقه/ مصاص الدماء كأداة سردية يوظفها لاختبار شخصياته. حين يهاجم هذا المخلوق إنساناً فإنه يخلق لديه هذه الحاجة القهرية المتكررة لشرب الدماء. وهذا الإلحاح القهري هو أقرب ما يكون لجوهر الإدمان. بعد أن يهاجم هذا المخلوق رايلي ويدرك رايلي مجدداً أن استمراره في الحياة معناه أن يستسلم لإلحاح الجوع إلى الدماء الذي صار إدماناً يقرر أن ينهي حياته مفضلاً ألا يعود للإدمان مجدداً. هذا المخلوق مثلما يختبر فكرة الإدمان يختبر فكرة الإيمان أيضاً. رغم تصريح رايلى الدائم بفقدان إيمانه وتوقفه عن ممارسة طقوسه إلا أنه حين يختار الموت، يموت كمسيح في الحقيقة مضحياً بنفسه من أجل إنقاذ الآخرين. وقبل النهاية بقليل تمنحه الفتاة التي قتلها غفرانها. يستقصي عمل فلانجان تيمات الإيمان وفقده واستعادته من جديد.

عن الجانب المظلم للإيمان

مشهد من مسلسل Midnight Mass
مشهد من مسلسل Midnight Mass

تعيش شخصيات فلانجان في أفق رمادي ومن الصعب جداً تصنيفها إلى خيرة وشريرة باستثناء شخصية بيف كين/ سامنثا سلويان والتي تمثل نوعاً ما شرير الحكاية، تبدو أحياناً أكثر رعباً من هذا المخلوق المسخ الذي حمله بول معه إلى الجزيرة.

تمثل بيف الجانب المظلم للإيمان. شخصية شديدة التعصب والتطرف أقرب ما يكون لشخصيات أدب ستيفن كينج- الأكثر تأثيراً في عمل فلانجان-المتعصبة دينياً التي تظهر مثلاً في «Carrie» و«The Mist» لتدفع رعب الحكاية لمداه الأقصى. يستكشف فلانجان من خلال هذه الشخصية كيف يرتكب الشر باسم الإيمان وباسم الرب.

هناك ارتباط واضح في عمل فلانجان بين الرعب والدين وطقوسه، كل حلقة تحمل اسم أحد أسفار الكتاب المقدس. في واحدة من عظات الأب بول يتحدث عن أن الكلام في الكتاب المقدس عن القيامة،الخلاص، الأبدية. ليس مجرد مجاز أو أفكار مجردة بل حقائق محسوسة هنا يكمن الرعب حين يتحول المجاز إلى حرف نخطو خارج الميثولوجيا إلى أرض الرعب وبيف في الحكاية هي بوابة هذا العبور إذ تجد دائماً في كلمات الكتاب المقدس ما يسند مزاجها الدموي والشرير.

لا يعد «Midnight Mass» فقط أكثر أعمال فلانجان ذاتية بل يمكننا أيضاً أن نقول إنه أكثر أعماله نضجاً.