في أجواء منتقعة في غمامة شمس ذهبية، لا تضفي رومانسية صيفية على الأجواء بل غضبًا من الحرارة وتصبب العرق والوخم الدائم تقع أحداث مسلسل موجة حارة الصادر عام 2013، المكتوب بإشراف مريم نعوم عن رواية منخفض الهند الموسمي لأسامة أنور عكاشة، وإخراج محمد ياسين، عرض العمل في وقت محتدم سياسيًا، حيث لا زال ممكنًا أن يتناول عمل فني مصري مواضيع معقدة غير معدة مسبقًا، تنتقد السلطة والعنف والانحرافات المجتمعية، تصور العلاقات الإنسانية دون تحفظات وتخلق شخصيات تعيش في الذاكرة لسنوات ممتدة أمامها، ليس فقط بسبب ثنائية السلطة المؤسسية والسلطة غير الرسمية، بل بسبب إحكام تصوير العلاقات المعقدة، غير المريحة، التي تتشابك مع مفاهيم السلطة والأسرة والنوع، حتى يصعب التفريق بينها، تدخلنا إلى العوالم الداخلية وراء الشخصيات العامة، وللعوالم العامة للأماكن المغلقة، لكنه يركز على علاقة محددة جدًا أكثر من غيرها بتمثلات متعددة وهي علاقة الأبناء بأمهاتهم، خاصة الأبناء من الذكور.

شبكة العلاقات العائلية

تقع أحداث موجة حارة في إطار شبكة متداخلة من العلاقات الإنسانية والعامة، فهو قصة بوليسية عن الضابط سيد العاجاتي (إياد نصار) في قسم الآداب، يحاول ضبط قواد واسع النفوذ يدعى حمادة غزلان (سيد رجب)، ذي شبكة متشعبة في أنحاء الجمهورية، يلتقط الشابات المحتاجات للمال عن طريق امرأة جميلة (صبا مبارك) تدير مركز تجميل ضخم كغطاء للأعمال الرئيسية للشبكة، تلك المرأة متزوجة من سعد العجاتي (بيومي فؤاد) عم سيد، وهو أحد روابط القصة والشخصيات بعضها ببعض وزيادة تعقيدها، حمادة غزلان متزوج من امرأة جميلة ترجو من الله أن يرزقها بطفل، لكنه يرفض نظرًا لفشل علاقته الأولى مع إجلال (هالة فاخر)، التي لديه منها ابن وابنة سمير وشيرين، وهما جيران والدة سيد التي تعيش مع ابنها نبيل ومع ذكرى ابنها الثالث ممدوح، مما يجعلها عاجزة عن حب أولادها الأحياء بالقدر الكافي، فلقد استنزفت حبها على الراحل، مما جعلها تعيش في خوف من الفقد.

إياد نصار في موجة حارة 2013
إياد نصار في موجة حارة 2013

يعيش سيد مع زوجته شاهندة (رانيا يوسف) في منطقة أعلى اجتماعيًا نظرًا لاختلاف خلفيتها الطبقية، بينما تعيش والدته دولت (معالي زايد) في السيدة زينب، وتعشق منطقتها وكل المدلولات الروحانية التي تصاحبها، تعمل شبكة العلاقات تلك بتناغم بعضها مع بعض، تتداخل وتتفكك، تعمل كترميزات لتعقيد العلاقات العائلية والعلاقات الجندرية، كما تفكك العلاقات بين الحكام والمحكومين. ففي منزل واحد وُلد سيد الممثل للسلطة، وخاصة جانبها الشرطي المشتهر بالعنف الشديد والالتواء الفكري، كذلك وُلد نبيل (رمزي لينر) ذو الميول الماركسية الذي يعمل بالصحافة، ويملك علاقة متوترة مع أخيه نظرًا للاختلاف الجذري في رؤيتهما للعالم من حولهما، وخاصة في مرحلة تنذر بالانفجار من تاريخ مصر الحديث.

يقترب المسلسل دائمًا من حافة الانفجار تلك، تتمثل بحرارة الصيف التي توشك أن تحرق كل شيء، لكنه لا يصل إليها أبدًا، بل يلمح لها فقط، دون استغلال مباشر لصدوره بعد وقوع أحداث ثورة يناير بسنوات قليلة، بالتأكيد كانت مشاهدته في وقته عملية كاشفة ومؤلمة، لكنها آنية وعاجلة، لكن مشاهدته الآن بعد مرور أكثر من عشر سنوات هو عملية استعادية لشكل الدراما وطبيعة الفن العام والجماهيري، عرض موجة حارة ضمن مسلسلات رمضان التي تنقسم حاليًا بين الميلودرامات الشعبية والبروباجندا العسكرية، في يوم ما قبل عشر سنوات كان التلفزيون العام المخترق للمنازل يصور العنف الشرطي، والمجهودات الشعبية للاعتراض، والتعقيدات الواقعة بين التفاصيل الدقيقة لكل ذلك، لكنها تجعلنا كذلك ننظر بمراجعة إلى التصورات الأخلاقية المتعلقة بشرف النساء، ومدى انغماس عمل ما في فرضيته الرئيسية، حيث يصبح من الصعب التفريق بين آراء شخصياته وتصورات صانعيه عن الحياة.

الأنوثة كملاذ وعدو

يتناول المسلسل زوجين من الأبناء والأمهات يمثلان قطبي العمل الرئيسيين والعنصرين المتصارعين، سيد العاجاتي ووالدته دولت وحمادة غزلان ووالدته خضرا (عايدة عبد العزيز) ، يصعب تسمية الشخصيتين الرئيسيتين بطل وشرير؛ لأن كليهما معيب لدرجة يصعب معها التعاطف معهما كليهما، كلاهما ذو سلطة عارمة لا نهاية لها، لكنهما يقعان تحت أرجل أمهاتهما مثل طفلين، تتبخر القوة ويحل محلها ضعف هش، تتبدد معها تمثلات الذكورة والخشونة ويستبدل بها استسلام لحنان ليس بريئًا، بل أبعد ما يكون عن ذلك، فهؤلاء النساء اللاتي أصبحن أمهات أعطين الحياة لرجلين أشبه بالوحوش،  ولا يمكن اعتبارهما تمثيلات مصمتة أو سلبية للأمومة النمطية، بل هن عناصر عاملة ومشاركة حتى في خراب تلك النفوس لأسباب متعددة ومتباينة، يصور موجة حارة الأمومة باعتبارها ملاذًا كما يضعها كمضاد للأنوثة الخارجية.

يصعب النظر إلى موجة حارة دون استرجاع النظريات الفرويدية مهما كانت مختزلة أو كلاسيكية فكريًا، فعلى مدار العمل تتجلى الأفكار المتعلقة بثنائية العذراء والعاهرة Madonna-whore complex أحيانًا بشكل حرفي، بالنسبة لسيد وحمادة فإن النساء يمكن تقسيمهن للأم والعاهرة، إما نساء طاهرات غير جنسانيات ممثلات في الأمهات أو من يحل محلهن، أو نساء فاسدات يمكن إهانتهن أو معاملتهن بعنف واتهامهن بالانحراف الجنسي والانفلات الأخلاقي، وفي الوقت نفسه الرغبة فيهن، وإذا فشل هذا التقسيم فإنهما يجدان وسيلة لفرضه، سيد مثلًا يعيش في شك دائم في زوجته شاهندة (رانيا يوسف)، لا يتصور أن امرأة في جمالها قادرة على الوفاء لعلاقة زوجية مغلقة، أحيانًا ما يلقي السيناريو إمكانية أن تكون تصوراتهم حقيقة، وكيف تحول تلك الحقيقة الحياة إلى جحيم، مثل تناول علاقة ليلى (درة) وكمال (هشام سليم).

إياد نصار ورانيا يوسف في موجة حارة 2013
إياد نصار ورانيا يوسف في موجة حارة 2013

على الرغم من التفهم الذي يصاحب تلك التمثيلات للتضحية الأنثوية و الاستغلال الذكوري، فإن المأساوية التي تنتهي إليها مآلات النساء المتورطات في العمل الجنسي يثقل على العمل بأحكام لا تشبهه، كما يضع العمل نفسه في محل شخصياته، فتصبح عملية المشاهدة أشبه بمقامرة على من مِن النساء سوف تقع في الشبكة التي يبدو كأنها تغطي البلد بأكمله، لكن بعيدًا عن التصورات المتعلقة بالنساء والرجال، فإن صناع العمل، مريم نعوم ومحمد ياسين، صاغوا اقتباسًا لرواية من عام 2000 بموضعتها في أعوام مشابهة، لكنها أكثر عصرية، فكلا الخطين الزمنيين يقعان في عصر الرئيس السابق مبارك، وتتشابه الظروف، لكن اقتباس العمل بعد حراك كبير بسنوات قليلة جعل له سياقًا مختلفًا، غير سياق الركود والاستحالة الذي ساد بداية الألفية، لذلك تمثل مشاهدته في سنوات جديدة من الركود حالة غرائبية ومتجددة فنيًا.

اترك قوتك خارجًا

كانت -ولا يجوز عليها إلا الرحمة- تعشق الحشيش تنام على أنفاسه في الفجر وتصحو على اصطباحته في الصبح، وبينهما تأكله وتشربه حتى فجر اليوم التالي، وأورثت حمادة حبه في دمه، فأصبح يعشق الاثنين؛ أمه والحشيش.

هكذا يصف عكاشة خضرا وعلاقتها بحمادة في النص الأصلي، لكنه يبدأ تقديمها بعد وفاتها، وهو الحدث الذي كسر حمادة دون رجعة، على عكس الاقتباس التلفزيوني الذي صور رابطهما الحميمي قبل أن يصور رحلة فقدانها، تمتلك كل من خضرا ودولت سمات عابرة للتنميطات المتعلقة بالنوع، كلتاهما ذات صوت عالٍ وقدرة جسدية عالية، لا تخضعان لأحد وتصرحان بآرائهما في قوة وحسم، كلتاهما تستطيع التحكم في مزاج أولادها، تعطي الحنان بقدر وتمنعه حين ترى ذلك أصلح، تنعكس الأمهات في صورة بعض، كما يتلاقى الولدان في هوسهما الواضح بالأم، بالمساحة التي يمكن للمرء فيها أن يكون نفسه، وأن يتلقى العقاب كما يتلقى الرفق، خاصة بعدما نضجا وأصبحا قادرين بحكم وظائفهما وسماتهما العنيفة أن يمارسان العنف الجسدي والنفسي على من يريدان.

في المنازل بعيدًا عن أقسام الشرطة وشركات غسيل الأموال تتحول موازين القوة، سرديًا وبصريًا، تتشكل الأجساد بطرائق مختلفة تصبح النساء في منطقة أعلى من الإطار، بينما يرتمي الرجل الذي يمضي يومه في التعذيب والآخر في الاستغلال في حضن والدته كرضيع في تكوين يستدعي كل تكوينات الأمومة الفنية من عصر النهضة إلى تصورات المسيح والعذراء مريم، يدان تمسدان على رأس رجل جريح متقوقع على ذاته، يصنع العمل لحظتي ذروة غير كل الذروات المتعلقة بالعنف والانتقام والكشف البوليسي، وهما لحظتا استسلام منكسر تام يبدد الأقنعة ويجعل شخصيات لا تستحق التعاطف تستحيل إلى أطفال يتوقون للأمن، الذروة الأولى تأتي حواريًا بين خضرا وحمادة، تخبره بحسم أن ضعفه لها وقوته للناس قبل أن يرتمي في حضنها باكيًا من الإهانة -حسب الوصم المجتمعي- وفقدان الذكورة بسبب التعذيب الجنسي الذي تعرض له على يد الضابط سيد العجاتي.

توازي تلك الذروة لحظة انفجار لسيد في غرفة مغلقة مع والدته التي وهي على عكس خضرا لا تبادله الهوس به كابن أوحد، بل تعامله من مسافة، تدور تلك المشاهد في إضاءة منزلية دافئة وخافتة تحاكي نور الشمس الذي يحدد بصريات وجماليات العمل ككل، تنطلق أشعة الضوء الصناعية بين الأوجه المتقابلة، تؤطر انكسارها، لا يبدي سيد ضعفًا مشابهًا لحمادة الذي يبحث عن الشخص الوحيد الذي يستطيع الاعتراف له بالهزيمة، فهو المتعرض لها، بل يطلب سيد الحب بكل وضوح ببكاء عالٍ مثل طفل غاضب، لا يتمتع سيد بالتقبل الأمومي دون حساب مثل علاقة خضرا بحمادة، بل يجب عليه أن يصل إلى ذروة الهشاشة لكي يستطيع أخيرًا أن يعبر عن غضب بناه منذ سنوات من التفضيل بين الإخوة، تفضيلات تهدم تصورات الحب غير المشروط المصاحبة للتصور الرومانسي للأمومة.

يصف أسامة أنور عكاشة دولت بـ “أم ممدوح”، يضعها بين أقواس تؤطر كيف ترى هي نفسها وكيف ترى أبناءها،  تعكس ذروة هشاشة سيد احتياجًا حقيقيًا، ربما شكل الشخص الذي أصبح عليه، الشخص العنيف غير الواثق في النساء، بينما تشجيع خضرا الدائم على العنف والسلطة والقوة هو ما شكل حمادة، يتتبع المسلسل سلسلة من التأثيرات المتراكمة من الأمهات على الأبناء يمكن التقاطها في أصغر السياقات وتطبيقها على الأشخاص العاديين، ذلك الهوس الذي يمكن اعتباره ذكوريًا للأم بولدها الذكر، تقويه على الجميع، تغذيه بأفكار الهيمنة والسيطرة، وتصبح هي الشخص الوحيد الذي يسمح له بالضعف أمامه، فتتكلس الروح والقلب للعامة ويصبح الضعف والانفتاح عبارة عن سلسلة من الانهيارات السرية في غرف مغلقة.

يمتد ذلك الهوس إلى أمهات في طور الحدوث، في شخصية مثل نوسة (هنا شيحة) زوجة حمادة التي تتمنى الحب الذي يقدمه حمادة لوالدته، الذي يستحيل أن يعطيه لها، فإذا طبقنا النظريات الفرويدية عن ثنائيات العذراء والعاهرة فإن حمادة غير قادر على احترام أو حب المرأة التي يعاملها كوعاء للمتعة، بينما يكن احترامًا يكاد يكون إلهيًا لوالدته التي يعتبرها كائنًا غير جنسي، بل أسطورة أنثوية من الحنان والقوة في آنٍ، تتمنى نوسة الحصول على حب مشابه من ابن ذكر يعتمد عليها ويمدها بحب لا نهائي لا يضاهيه حب آخر، مما يشي بتكرار الدائرة نفسها، إذا أنجبت نوسة يومًا ما ابنًا سيتغذى بنفس ما تغذى به حمادة غزلان، حب بدون قيود واستقواء دون شروط، يقلب المسلسل في حلقاته الأخيرة تصورات نوسة عن الأمومة وعن الشراكات العاطفية بلحظة عابرة من طرح بدائل لا تتضمن رجالًا من الأساس، مما يعد بفسحة من الراحة من العنف الذي يبدو كأنه جزء من تركبيهم المنحدر من جيل إلى آخر.

يستبعد العمل علاقات الأبوة ويجعل أبطاله بلا آباء، حتى إن وجدوا فإنهم غائبون لكي يؤطر بشكل أوضح علاقات الأمهات وتجلياتها المتعددة، نرى علاقة إضافية لابن ذي أم صارمة وأب غائب وهو سمير (أحمد حداد) ابن حمادة وزوجته السابقة إجلال، تستخدم إجلال أساليب مختلفة عن كل من دولت وخضرا، يتهمها ابنها بتأنيثه بجعله “بنتًا” بسبب خوفها عليه، وهو تخوف مضاد للرجولة المفرطة المتمثلة في العنف التي يتميز بها حمادة وسيد، تعامل إجلال ولدها وبنتها بالشكل نفسه، تستخدم ابنتها شيرين (دينا الشربيني) ذلك في إيجاد حياة متحررة من قيود أمها وطبقتها ووضعها الاجتماعي، بينما يرضخ سمير للخوف من أمه، على عكس رجال المسلسل الآخرين لا ينكسر سمير أمامها ولا يعتبرها ملاذًا بل قيدًا، ولا يظهر قوته للناس بل يكبله الخوف، الذي عادة ما يكون خوفًا من الأب، تتلبسه هي لكي تلعب الدورين، فتصبح أمًا وأبًا ترخي وتشد حبال التربية حسب ما تراه مناسبًا، تنتابها نوبات من الغضب دائمة نابعة من القلق بسبب تاريخ وحاضر زوجها السابق المخزي، تعيش في قلق دائم من أن يصبح ابنها مثله أو أن تقع ابنتها في الحلقات التي يدور فيها، حتى يحدث فعلًا، فلا تجد رد فعل أنسب من ممارسة عنف غير محسوب.

يستعرض موجة حارة علاقات في إطار من العام والخاص، وعلى الرغم من كونه يدور حول شخصيات محددة للغاية ذات سمات شخصية وروابط أسرية معقدة وخلفيات اجتماعية وسياسية خاصة، فإنه يمكن أن يكون عن الجميع، في اللحظة التي تقع فيها أحداثه، أو أي لحظة أخرى من تواريخ عدة تتشابه أحداثها العامة والحميمية، يمكن لموجة حارة أن يكون عن ضابط شرطة عنيف فاسد ورجل أعمال مستغل ومنحرف، ويمكن أن يكون عن كل شخص غير قادر على الشعور بالحب بسبب تفضيل أمه لإخوته عليه، أو شخص لا يشعر بالحب إلا عندما تضمه أمه.