في الثامنة عشرة، في العمر الذي تتفتح فيه الأحلام والطموحات كان محمد المنسي قنديل يستقبل هزيمة أكبر حلم مرّ على مصر، في الثامنة عشرة كان على الشاب أن يحمل على ظهره وِزر انكسار دولة بأكملها، حِمل ثقيل لم تقدر عليه أجيال كاملة، وفي يوم الهزيمة، في يونيو 1967، انسحب إلى غرفته باكيًا بمدينة المحلة الكبرى، دخل عليه والده قائلًا «انت بتعيط على مصر ولا عبد الناصر؟»، فردّ المنسي قنديل «على الاتنين». 

وِزر ثقيل على الشاب، كان عليه أن يتخفف منه قليلًا حتى يعيش، فكتب روايته الأولى «انكسار الروح»، بعد الهزيمة بثمانية عشر عامًا، عن نفسه طالب الطب الفقير الذي يُحاول أن يجد مكانًا تحت الشمس، على حد قوله.

بعد «انكسار الروح» كان في نيّة قنديل كتابة جزء ثانٍ بعدها، كما يقول في حواره الخاص مع «إضاءات»، «لكن انشغلت بأمور كثير وقتها، كنت عايز أثبت نفسي ككاتب»، ولذا تأخرت «طبيب أرياف» كل تلك السنوات، وهي الرواية المرشحة حاليًا ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب.

وقد أهمّ المنسي سؤال أبدي عبر مشروعه الأدبي على مدار أربعين عامًا: هل نحن كشعب مسكونون بالهزيمة للأبد؟ لكنه حاول في روايته الأخيرة أن يُفتّش عن الإجابة والأمل معًا، في شخصية البطل «الطبيب علي»، الذي تغيّر من الرومانسية الحالمة إلى الوعي بتاريخه وحاضره الشخصي وبعض من التمرد. 

لا يمكن ترقيم «طبيب أرياف» أنها الرواية السادسة ضمن مشروعه الأدبي، لكنها تعتبر الرواية الثانية له «الجزء التاني من انكسار الروح، وهنا بحكي عن الطبيب بعد تخرجه من الكلية»، حيث ألهمت قنديل تجربته كطبيب في الريف المصري التي استغرقت عامين، فلم تُغادره، حيث رأى مصر الحقيقية، تلك القرية الفرعونية التي لم تتغير رغم مرور السنوات، البيوت الطينية المتلاصقة، وأدوات الفلاح المصري التي لم تتطور، والعلاقات المهزومة بين الناس، كذلك صورة المرأة المقموعة، كل تلك القضايا قرر المنسي قنديل الكتابة عنها داخل «طبيب أرياف». 

وفي الرواية يُقدّم المنسي قنديل وضع مصر السياسي والاجتماعي أوائل الثمانينيات «وبقدّم رؤية أنثروبولوجية للريف المصري»، ففي نظر المنسي قنديل فإن القرية الموجودة في صعيد مصر لا تزال كما تركها هو في شبابه «صحيح أنها شكلًا اتغيرت بعد ما الطوب الأحمر دخل، وأصبح فيه طرق ومواصلات، لكن ما زالت المشاكل المجتمعية موجودة، ولسة وضع المرأة زي ما هو، منسحق ومتقدرش تعبر عن نفسها ولا عواطفها»، وضع المنسي قنديل رؤيته عبر شخصيات الرواية، الطبيب وفرح والجازية وآخرين. 

«النكسة دي كانت في جيلنا بالذات علامة فاصلة».. يقول المنسي قنديل، كانت صدمة كبيرة للشاب وقتها، تجرّع مرارة الهزيمة مُبكرًا «عملت شرخ في كل أحلامنا»، ولما أفاق هو وجيله من تلك الصدمة «عرفنا إن إحنا غير قادرين على قيادة أنفسنا، وغير قادرين على مواجهة العالم»، لكن المنسي وقف على قدميه بعدها، وقرر كتابة الرواية.

بعد روايته الأولى «انكسار الروح»، وقتها كان في عمر السادسة والثلاثين، المرحلة العمرية التي يُنجز فيها المرء إنتاجه الغزير، وخلال أسفاره العديدة حول العالم كمحرر في مجلة «العربي»، كتب المنسي روايته الثانية «قمر على سمرقند»: «الروائي في الأول مبيكونش عنده تجارب كتير في الحياة، عشان كدا بيستعين بتجربته الشخصية، ثم بعد كدا الأفق يتسع أمامه».

حوار إضاءات الخاص - رنا الجميعي مع الأديب المصري محمد المنسي قنديل
حوار إضاءات الخاص – رنا الجميعي مع الأديب المصري محمد المنسي قنديل

اختراعي هو الهروب من عالم نجيب محفوظ

لم ينْس قنديل في إحدى الجلسات التي جمعته بنجيب محفوظ على مقهى ريش نصيحته التي ظلّت ترنّ في أذنيه مرارًا «وسّعوا فَرْشة الرواية العربية»، فقرر حينها السير عكس محفوظ «كل أعماله دارت في القاهرة، لكنه عمل قاهرة من اختراعه فيها فتوات وبنات ليل وتجار ودراويش»، لذا اخترع المنسي مسارًا مُختلفًا ألا وهو «الهروب من عالم نجيب محفوظ، واختبار أرض جديدة»، فكتب عن رحلته إلى دول وسط آسيا «روحت أوزبكستان وكازاخستان وأذربيجان، كانت لسه مستقلة حديثًا عن الاتحاد السوفييتي، وشفت الدولة إزاي كانت رخوة ولسة بتتكوّن»، فكانت روايته «قمر على سمرقند»، التي نُشرت عام 2005.

في اليوم الذي أيقن فيه المنسي بأخبار الهزيمة، وقتها سأله والده عمّن يبكي «مصر ولا عبد الناصر»، ولمّا جاء الرد أنه لأجل الاثنين، فعلّق أبوه عليه قائلًا: «بص، مصر عليها العوض، إنما عبد الناصر راجع بكرة»، كان الأب يرى أن مصر قد انتهت بسبب نكسة 1967، فقد كان يعتبر مصر هي «آخر العالم»، يقول المنسي مُبتسمًا حالما يتذكر والده.

يحكي المنسي عن والده الذي أحبّ سرد القصص «كان يحكي لي قصة النبي موسى، فيقول، إن موسى أخد قومه وطلع من مصر واختفى، هو عنده العالم كله مصر».

فلمّا تحوّل الأب من معلّم كبير إلى صنايعي يعمل وحيدًا على النول، بعد ما توحّشت صناعة الغزل في المحلة الكبرى، صار المنسي يؤنسه بجواره خلال عمله «كنت أقرأ له أرسين لوبين وشيرلوك هولمز وألكسندر دوماس، وكمان قصص التاريخ الإسلامي لمؤلفين زي جورجي زيدان»، بسبب ذلك وقع قنديل في غرام التاريخ، وصارت له غواية «إني أحكي الحكايات اللي اتحكت، أعيدها من جديد وأعملها من منظوري أنا».

تلك الغواية التي عشقها الصبي، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من أعماله الأدبية، منذ روايته الأولى «انكسار الروح»: «حكيت قصة إيزيس وأوزوريس من خلال ثلاث رؤى مختلفة»، كما أنه قام بكتابة «قمر على سمرقند» مثل تكنيك كتابة ألف ليلة وليلة «حد بيحكي حكاية جوة حكاية، عبارة عن سراديب من الحكايات»، كذلك فعل في رواية «يوم غائم في البر الغربي»-المنشورة عام 2006: «حكيت حكاية إخناتون، وأنا طفل كنت بقراها، وعزّ عليا أوي إني محكيش الحكاية من منظوري».

كذلك فعل أيضًا في «طبيب أرياف»، حكى سيرة أبو زيد الهلالي من وجهة نظر امرأة «أنا خالق الشخصية مخصوص ومسميها الجازية عشان أحكي حكاية الغجر اللي لولاهم مكناش عرفنا بالسيرة الهلالية».

حب المنسي قنديل للتاريخ يظهر جليًا عبر مشاهد بعينها في رواياته، مقاطع يكمن فيها سحر خالص، فعلها في روايات سابقة مثل «أنا عشقت»- المنشورة عام 2012، و«كتيبة سوداء»- المنشورة عام 2015، وفعلها مُجددًا في «طبيب أرياف» حين كتب عن لحظة خروج الفلاحين إلى الغيط، يقول عن ذلك المنسي «الإحساس بالسحر ده جه أيضًا من حُب التاريخ، ولما حكيت عن مشهد الفلاحين والضباب يلفهم، كنت بوصف المشهد كأنها لحظة الخلق الأولى».

رغم أن المنسي كما يقول عن نفسه كائن مسائي وليس «صباحيًا» «لكن كنت بصحى مخصوص عشان أشوفهم وهما طالعين الغيط لأنه مشهد أسطوري»، فيما نقل المنسي قنديل الريف بعيونه، الطبيب والروائي الذي ظل الريف مصدر إلهام بالنسبة له.

تحية للغجر

اختار المنسي قنديل حكي السيرة الهلالية بالتحديد لحُبه الغجر، «في كل الدنيا الناس عارفة مؤلفين الأساطير الشعبية»، مثلما يعرف الجميع أن صاحب ملحمتي الإلياذة والأوديسة هو هوميروس، لكن العرب لا يعلمون من كتب أساطيرهم؛ كالسيرة الهلالية «احنا الوحيدين اللي منعرفش مين المؤلفين بتوعنا، لأنهم كانوا باستمرار خارج النظام»، فقنديل يرى أن الأنظمة العربية اعترفت بالشعراء لكنها لم تعترف بالروائيين أو مؤلفي القصة عمومًا، ومن حمل أمانة جمع السيرة الهلالية كانوا الغجر «عشان كدا حبيت أقدّم لهم تحية في روايتي»، كذلك رأى المنسي أنهم رمز للعنصر الحر في البيئة المصرية، بخلاف الفلاحين في نظره «ليهم تاريخ طويل من القمع المتواصل».

وعلى الرغم من أنه اضطر لحذف تفاصيل كثيرة كتبها عن السيرة الهلالية داخل «طبيب أرياف»، بعد ما أشارت عليه زوجته بذلك لضبط الإيقاع، لكن يظلّ حُب السيرة الهلالية داخل نفس قنديل، فقد آمن بأن الغجر هم حفظة التراث الشعبي في مصر.

ولا تخبو جذوة الأدب من قلب الروائي الكبير الذي يناهز من العمر الخامسة والسبعين، حيث تتعدد مشاريعه الأدبية المستقبلية، ومن بينها حُلمه «إني أتفرّغ للسيرة الهلالية وأكتبها كما أراها».