قال الشيخ عبد ربه التائه: جوهران موكلان بالباب الذهبي يقولان للطارق: تقدم فلا مفر؛ هما الحب والموت.

لو أن نجيب محفوظ بجمله الموجزة الجميلة في كتاب أصداء السيرة الذاتية كان يعبر عن فلسفة كل رواية من رواياته، فبالتأكيد هذه الجملة هي إيجاز للفلسفة التي كانت حجر الأساس في عالم «حديث الصباح والمساء» الذي قام بنسج خيوطه ببراعة. محفوظ الذي غاب عن عالمنا منذ أحد عشر عامًا لا زال حاضرًا بتراثه ولا زالت شخصيات رواياته تنتمي لعالمنا الواقعي، ولمَ لا تحضر وهي في النهاية شخصيات حقيقية تنتمي للعالم الحقيقي وليست عوالم خيالية وليدة خيال نجيب محفوظ؟

ربما هنا تكمن عبقرية محفوظ، أنه استطاع أن يسحرنا بشخصيات عادية يمكنك أن تقابلها في المترو أو في العمل، ربما أبوك يشبه أبطال روايات محفوظ أو حتى أنت نفسك. هكذا كانت فلسفة محفوظ في الكتابة، عوالم وشخصيات مغرقة في الواقعية ووراء هذه الشخصيات العادية يخفي أفكاره العميقة التي قد تصل إلى إعادة تمثيل قصص الأنبياء بشخصيات كانت حاضرة في الحارة المصرية يومًا ما مثلما فعل في «أولاد حارتنا».

رواية عن الحياة العادية وتفاصيلها التي لا نلتفت إليها الآن. لا نلتفت للخيوط الخفيّة التي تربطنا جميعًا، لكن ربما في المستقبل ونحن في سن الهرم سننظر إليها، سنشعر بالشجن ونتعجب كيف مررنا بكل هذا.

رواية حديث الصباح والمساء محور حديثنا هي إحدى تلك الروايات الساحرة التي يكمن سحرها في (عادية) أبطالها، تلك الرواية التي في رأيي لم تحظ بالاحتفاء الكافي بها رغم أنها إحدى أجمل روايات محفوظ. الرواية ليست غارقة في الرمزية كعادة محفوظ في بعض رواياته الجميلة، بل على العكس فلسفة الرواية بسيطة جدًا -ربما هنا يكمن جمالها الخفي-. هي رواية عن الحياة العادية وتفاصيلها، تلك التفاصيل التي لا نلتفت إليها الآن، لا نلتفت للخيوط الخفية التي تربطنا جميعًا، لكن ربما في المستقبل ونحن في سن الهرم سننظر إليها، سنشعر بالشجن ونتعجب كيف مررنا بكل هذا.

الرواية تلتقط تلك التفاصيل ببراعة وتجعلنا نفكر فيها، تساعدنا على أن نلتقط أنفاسنا قليلاً وتدفعنا إلى النظر للعالم من حولنا قليلاً بزواية رؤية أوسع من نظراتنا الضيقة للأمور. سنكتشف عند الانتهاء من قراءتها أن هذا العالم الممل الذي يبدو بائسًا مليء بالقصص الدرامية التي تستحق أن نفكر فيها قليلاً.

عشرات الشخصيات تنكشف لنا حيواتهم الخاصة عبر صفحات الرواية، يتباينون في كل شيء لكن يجمعهم شيئان؛ الموت الذي هو النهاية المحتومة لنا جميعًا، والحب المحموم الذي لا يقتصر على الحب بين ذكر وأنثى لكنه يمتد ليشمل جميع أنواع الحب؛ حب السلطة، وحب الوطن، وحب المال، وحتى الحب الإلهي. الموت قرين الحياة في الرواية، ليس هذا الموت الذي يسبب الحزن، لكن نظرة محفوظ كانت أعمق، فالموت عنده هو جوهر الحياة، هكذا عبر عن فلسفته المثيرة للتفكير على صفحات الرواية.

الرواية تتحدث عن خمسة أجيال من ثلاث عائلات يزداد حجمها بمرور الزمن وتنتشر ذريات تلك العائلات في أنحاء القاهرة. لم يُشر محفوظ لماذا اختار خمسة أجيال فقط رغم أن حجم الرواية صغير، كان يمكن بسهولة أن يقوم بإضافة جيل سادس، ربما للأمر علاقة بأن محفوظ أراد رصد فترة تاريخية محددة في تاريخ مصر عبر تلك العائلات فجاء حجم تلك الفترة مساويًا لخمسة أجيال. على الرغم من وجاهة هذا التفسير لكنني أفضل تفسيرًا آخر وهو أنه هناك رمزية تقع خلف هذا الاختيار؛ وهي أن كل فرد فينا يعاصر خمسة أجيال: جيل الأجداد، وجيل الآباء، ثم الجيل الذي نتنمي إليه، يعقب هذا جيل الأبناء، ثم أخيرا جيل الأحفاد. وربما لإيماني بهذه الفرضية شعرت طوال الرواية أن الجيل الثالث هو الجيل الرئيسي.

محفوظ قام بصنع رواية ملحمية يمكن مقارنتها على الرغم من صغر حجمها برواياته االملحمية الأخرى كالثلاثية مثلاً، لكنه على العكس من تلك الروايات فهو هنا يقوم برسم كل شخصية على حدة ببراعة لكنه يترك مهمة نسج الخيوط بين تلك الشخضيات للقارئ.

يسرد محفوظ روايته باستخدام تقنية غير معتادة وهي أنه يقوم بعرض كل شخصية في عدة صفحات فيما يشبه سيرة ذاتية مصغرة لكل شخصية، يقوم بعرض الشخصيات طبقًا للترتيب الأبجدي وليس طبقًا لظهور كل شخصية. فمثلًا أول شخصية يتحدث عنها محفوظ هي «أحمد محمد إبراهيم» وهي شخصية تنتمي للجيل الخامس في العائلات محل اهتمام الرواية، بينما مثلاً شخصية مثل يزيد المصري مؤسس عائلة المصري وأحد أفراد الجيل الأول لا يظهر بشكل مستقل إلا في آخر صفحة بالرواية.

يعيب البعض على محفوظ هذا الأسلوب متهمين إياه بإرباك القارئ، وهذا يبدو صحيحًا للوهلة الأولى، لكن عند قراءة الرواية بتمعن ستكتشف أن هذه التقنية هي جزء من جمالها. محفوظ قام بصنع رواية ملحمية يمكن مقارنتها على الرغم من صغر حجمها برواياته االملحمية الأخرى كالثلاثية مثلاً، لكنه على العكس من تلك الروايات فهو هنا يقوم برسم كل شخصية على حدة ببراعة لكنه يترك مهمة نسج الخيوط بين تلك الشخضيات للقارئ.

على الرغم من صعوبة هذا الأسلوب في بادئ الأمر إلا أنه يعطي للقراء اختيارات كثيرة لنسج خيوط الرواية، ويجعل فهم القارئ يزداد للرواية ووجهة نظره تتغير كلما عرف شخصيات أكثر فيعيد نسج الخيوط طبقًا لفهمه الجديد، وهذا أمر ممتع للكثيرين، وفيه محاكاة للواقع بدرجة كبيرة، فنحن نفهم واقعنا بأسلوب مشابه لهذا. أيضًا يتميز أسلوب السرد هذا بتهميش بعض الشخصيات، فمثلاً شخصية يزيد المصري ليست بقوة باقي الشخصيات، لكن ربما مبرر هذا أن هكذا هي الحياة، شخصيات مثل الأجداد -عدا الاستثنائي منهم- تهمش لصالح أجيال أقرب وربما لهذا اختار محفوظ اسم مؤسس عائلة المصري يبدأ بحرف الياء ليقع في آخر الرواية.

يهدف محفوظ إلى إلقاء الضوء على الحياة في مصر عامة والحياة السياسية بشكل خاص عبر أفراد تلك العائلات، فيقوم بأنسنة التاريخ وجعله ملموسًا، ليس ذلك التاريخ الجاف الذي اعتدنا عليه في صفحات كتب التاريخ. سنجد خلال صفحات الرواية: اليساري، الضابط الذي ينتمي لثورة يوليو، وسليل الباشوات الذي يكره ناصر، السعديين، والعدليين، و الإخوان المسلمين، حتى الذي لا يحب السياسة سنجده أيضًا.

لا يقوم محفوظ بعرض هذا بفجاجة، لكنه يقوم بهذا في سهولة ويسر وانسيابية تجعلك تشعر بالخفة وأنك تنتمي لهذا العالم. الحيرة الدينية التي تنتاب البعض، اليقين الإلهي الذي يسيطر على آخرين، الصراعات المكتومة بين فروع العائلات الغنية والفروع الفقيرة، علاقات الصهر بين تلك الفروع، العلم الذي يحاول أن يحقق صاحبه مكانة اجتماعية مميزة فيفشل في هذا حينًا وينجح حينًا آخر، الأحداث التي تتسبب في آأفول نجم أفراد وبزوغ آخرين، كل هذا وفي الخلفية تحضر أحداث الوطن الجسام مثل التحديث الإجباري الذي قام به محمد علي، وأثر هذا على تشتت هوية الكثيرين بين الشرق والغرب مثل داود باشا، الثورة العرابية ورجالها متمثلين في الشيخ معاوية القليوبي وثورة 1919 وثورة يوليو مرورًا باحتلال الإنجليز لمصر انتهاءً بالنكسة التي هدمت أحلام جيل بأكمله، وانتصار أكتوبر الذي أعقبها، هكذا رسم محفوظ شخصياته وكتب روايته.

لا يمكننا التحدث عن الرواية دون الإشارة للمسلسل المأخوذ من الرواية، والذي يعتبر أحد أجمل الأعمال في تاريخ الدراما المصرية.

رغم أن الرواية لا تحتوي على فلسفة معقدة، لكن لم يستطع محفوظ إلا أن يبث حيرته التي لا زالت تلازمه طوال حياته بخصوص الغيبيات، فقام برسم ثلاث شخصيات يمثلون هذا الجانب؛ جليلة الطرابيشي التي قامت بإطلاق زغرودة يوم وفاة زوجها لأن هدية ابنتها العروس وصلت في نفس لحظة الوفاة، ثم أعقبت هذا بالصراخ؛ اتباعًا لغيبيات وعالم من الجن والعفاريت والأولياء، الابنة راضية، وحفيد جليلة قاسم.

لم يشر محفوظ أن كل ما تفعله تلك الشخصيات خرافة، فتارة يتهكم على جليلة، وتارة أخرى يخبرنا عن كرامات الشيخ قاسم الحقيقية. في ظني أن محفوظ ظل حتى موته يفكر في الجانب الغيبي وربما لم يحسم أمره قطّ، أو حسمه قبل وفاته بقليل.

لا يمكننا التحدث عن الرواية دون الإشارة للمسلسل المأخوذ من الرواية، والذي يعتبر أحد أجمل الأعمال في تاريخ الدراما المصرية. المسلسل قام بكتابته السيناريست محسن زايد وهو متخصص في أعمال محفوظ فقد قام من قبل بكتابة سيناريوهات عن روايات بين القصرين والسيرة العاشورية والحرافيش. المسلسل يتبع أسلوب السرد التقليدي على النقيض من الرواية، لكن محسن زايد ينجح ببراعة في تقديم رؤيته الخاصة في كيفية تفاعل الشخصيات مع بعضها، وقد قام بابتكار خطوط درامية لم تكن موجودة بالرواية، وبث الحياة في بعض الحكايات الجامدة التي مر عليها محفوظ مرور الكرام مثل حكاية زواج داود باشا بالجارية التي تخدمه. المسلسل مليء بالنقط التي تستحق المناقشة، لكن لضيق المساحة لن أناقشها.

أخيرًا، لو أننا نظرنا لحياتنا سنجد أنها تشبه الرواية بصورة كبيرة، نظن أننا أبطال هذا العالم الذي خلق كل شيء به فقط لخدمتنا، لكن الناظر للصورة من بعيد سيرانا مجرد شخصيات ثانوية بعضنا يحتل بضعة صفحات وبعضنا لا تتعدى حياته صفحة واحدة مثلنا مثل أبطال رواية محفوظ الذي يخيل لي أن السب الأول لاستخدامه تقنية (البروفايلات) في السرد هو أن يشير لهذه الحقيقة. ربما هذه هي حقيقتنا، شخصيات في رواية كبيرة لا تنتهي والأحداث التي حدثت لنا لن تهم أحدًا بعد مرور عشرات السنين.

«قال الشيخ عبد ربه التائه: ما روّعني شيء كما روعني منظر الحياة وهي تراقص الموت على ذلك الإيقاع المؤثر الذي لا نسمعه إلا مرة واحدة في العمر كله».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.