الساعة الحادية عشرة مساءً، حيث موعد العرض الأول لمسلسل «حديث الصباح والمساء» على التليفزون المصري في الموسم الرمضاني لعام 2001، والذي لم يحظِ بنسب مشاهدات مرتفعة في هذه الأثناء، ربما بسبب غرابة أحداثه وتبدل أبطاله، أو موعده السيئ نسبياً وتركيز المشاهدين على مسلسلات النجوم الآخرين ذات الدراما المألوفة والخالية من كل هذه التعقيدات.رغم عدم توفر معلومة أكيدة على قلة مشاهداته في العرض الأول، ولكن يمكن لمعاصريه التأكد من ذلك بمحاولة تذكر كم شخص تعرفونه شاهدوا المسلسل في عرضه الأول؟ وإذا كنت من عاشقيه كالكثيرين هل شاهدته في العرض الأول؟ الإجابة غالبا ستكون لا.ويقترن المسلسل بظاهرة استثنائية، هي رضا محبي «نجيب محفوظ» عن المسلسل، ربما أكثر من الراوية. فجماهير محفوظ الذين لا يحبون دائماً النسخ السينمائية المقتبسة من رواياته مثل «الثلاثية»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«بداية ونهاية»، رغم أهمية هذه الأفلام وشهرتها وجودتها الفنية بالنسبة لمحبي السينما، فمن الدارج سماع هذه العبارة منهم؛ الفيلم لا يقارن بالرواية، ولكن هذه الجملة لا نسمعها كثيراً أو ربما لا نسمعها أبداً في حالة هذا المسلسل. ويعود الفضل للمعالجة الدرامية المتفردة والعبقرية دون مبالغة لـ«محسن زايد»، فكيف عالج زايد رواية محفوظ؟


الأبجدية والأجيال

أول تغيير ذكي وموفق قام به زايد هو تغير طريقة العرض، فللوهلة الأولى تبدو الرواية مستحيلة التحويل لعمل درامي، فهي تحكي قصة عدد من الأسر ونسلهم بداية من الحملة الفرنسية ونهاية بزمن كتابة الرواية 1987، فنطاق زمن الرواية كبير للغاية يمتد لما يقرب الستة أجيال، وتحكي قصة كل شخص بداية من ميلاده حتي مماته، ورتبت هذه القصص أبجدياً وليس زمنيا أو حسب الأهمية، فلا توجد شخصية أكثر أهمية من أخرى في حديث الصباح والمساء. وكان أدب نجيب محفوظ في تلك الفترة أقرب للتكثيف في السرد، فهو لايسهب في وصف نمط حياة الشخصيات وأسباب عقدهم وكل المواقف المؤثرة والانفعالات، بل يميل للتكثيف الشديد في كل هذا، والتعبير عنه بأقل عدد من الكلمات المختارة بعناية. فنمط كتابة كل قصة في الراوية كان كالتالي؛ ذكر لاسم البطل وأبيه وأمه وترتيبه وسط إخوته، ووصف بنيانه الجسدي وصفاته الشخصية، ثم أثر الوضع الطبقي لأسرته وتأثير اختياراتهم (أو أجبار الظروف لهم) على حياته، ثم يعرض نمط تفكيره الديني وتعامله مع واقعه السياسي، ثم معلومات عن عمله وزواجه وخلفته، وأحد محاوراته، وتنتهي القصة بذكر طريقة الوفاة. أما محسن زايد فقد قرر الاكتفاء بفترة زمنية قليلة مقارنة بإجمالي زمن الرواية، ليعطي مساحة أوسع للتعمق في الشخصيات، فبدأ مع حكم «محمد علي» وانتهى بعد ثورة 19. وكما لم يلجأ محفوظ لطريقة العرض التقليدية، لحقه كذلك زايد. فطريقة سرد المسلسل مبدعة للغاية ومرتبطة بفلسفة المسلسل. فبدأت الأحداث مع «النقشبندي» الذي يتعرض لحادثة خطيرة ويصبح بين الحياة والموت، وتنتقل روحه مؤقتاً إلى عالم البرزخ، هناك يتم إعطاؤه كتاب شجرة العائلة ليتعرف على حكايتهم. واكتفاء المسلسل بهذه الفترة القديمة نسبياً، جعله يبتعد عن الجدالات السياسية المعاصرة المرتبطة بحكم الجيش عقب انقلاب 1952 والموقف من 1967 وغيرها، وفي هذا الصدد يعرض محفوظ شخصيات قد لا يسمح بوجودها في مسلسل درامي، مثل الشخصيات الرافضة لحكم ناصر، والفارحين بهزيمة 67 وغيرهم.


حكايات المصريين

حديث الصباح والمساء رواية عن حياة سكان القاهرة في مختلف العقود من تاريخ مصر الحديث، لذلك كان أسلوب محفوظ مجرد من العاطفة، حيث لا يريد أن يتعاطف القارئ مع أو ضد أحد، ولا توجد عقدة رئيسية أو فرعية، فكما ذكرنا هي حكايات شديدة التكثيف. وتعددت النماذج بين المتدين الصوفي والسلفي والمتدين العادي الذي يلتزم بالفروض الرئيسية وغير المتدين. وبين المتعامل مع الإنجليز والمقاوم لهم، والمحب لسعد وكارهينه، وبين محبي فاروق والملكية وأنصار تغيير مجلس قيادة الثورة، وبين من آمن بقيم الليبرالية ومن آمن بأهمية المشروع الإسلامي، ومن اعتقد بحتمية الثورة الشيوعية. وبين كل هؤلاء من أراد إكمال حياته يوما بيوم مبتعداً عن كل انتماء. لذلك يمكن وصف حكايات الرواية بأنها بلا روح أو تحيز لأحد.

ويختلف المسلسل عن الرواية، فزايد قرر أن ينحاز منذ البداية للروحانية، والتدين الشعبي، والإيمان بالغيبيات، وحكمة المولى في تعاقب الحياة والموت، والفرح والحزن، كما انحاز لصفات وعقد أبطاله المختلفة. ولذلك بدت شخصية «جليلة» وكأنها البطل الفعلي للمسلسل.فهو الشخص الوحيد الذي لم يمت طوال أحداثه من الجيل القديم، وبرع زايد في كتابة هذه الشخصية الحكيمة والمجنونة في نفس الوقت، لا تمتلك تدين زوجها العالم الأزهري الشيخ «معاوية القليوبي» ولكن هي أكثر قدرة على التنبؤ بالغيب كالأولياء والصالحين. لا يسبق زواجها بمعاوية قصة حب، كما أنه غاب عنها فترة طويلة في غياهب المعتقلات، ولكنه حين مات جعلته بطل الأبطال في نظر كل من حولها. شخصية شديدة التعقيد والتركيب أجاد زايد كتابتها وتعملقت «عبلة كامل» في أدائها.واستغل العقدة الشخصية لـ«داود باشا» التي لمح لها محفوظ باقتضاب، في كتابة شخصية الرجل التائه بين حياة الباشوية والتي تربى عليها في بعثة باريس، وبين حياة أهله الفقراء البسطاء. كذلك لم يفتقد المسلسل قصة الحب الكبيرة، فحول قصة «عطا المراكيبي» التي كانت في الرواية أقرب لحكاية رجل ساعده حظه في تبدل أحواله، لقصة حب كبيرة تجمع بين هانم وصانع أحذية فقير ولكنه مخلص لها، وامتد حبها له لبعد مماته. وغيرها من القصص التي يعود إنجاز كتابة تفاصيلها وعقدها لزايد فقط.«حديث الصباح والمساء» رواية لها أهمية أدبية نظراً لأنها كتبت بأسلوب غير معتاد ولا يقدر عليه سوى كاتب بحجم نجيب محفوظ. وفي نفس الوقت، حولت لعمل يعد إحدى علامات الدراما المصرية طوال تاريخها. لأن زايد ليس مجرد ناقل ولكنه عكس فلسفته ورؤيته للشخصيات المخالفة أحيانا لرؤية محفوظ. لم يحقق المسلسل مشاهدات مرتفعة في عرضه الأول ولكن مع عروضه المتتالية تحول لعمل في قلوب وعقول المصريين.