في الفيلم الفرنسي «Amilie» اعتادت البطلة أن تسترق النظر في ظلام قاعات السينما لوجوه المشاهدين المحيطين بها، تتفرس في وجوههم وتقرأ تعبيراتهم وتشاهد مدى تأثير الفيلم فيهم، هو تلصص مغري جدًا يغريك بأن تفعل مثل الفتاة البريئة في الفيلم وتسترق السمع والنظر لزملائك في ظلام قاعة السينما لتعرف رأيهم فيما يحدث أمامكم على الشاشة، خاصة إذا كان الفيلم محيرًا كفيلم «!Mother» الذي نحن بصدد الحديث عنه اليوم.


توقعات وتحليلات

فيلم «!Mother» تم تسويقه للمشاهد بغموض، فإعلاناته التشويقية كانت تتحدث عن فيلم مصنف تحت فئة الرعب والدراما، والمشاهد القصيرة في الإعلانات لم تفصح عن أكثر من ذلك، الصفحات العربية المهتمة بتسويق السينمات في مصر مثلاً كانت تطلق الإعلان على «فيسبوك» مصحوبًا بجملة دعائية تتحدث عن المرض النفسي الذي يتفاقم عندما لا يتلقى العلاج المناسب، ومن ثم يتحول إلى رعب وأذى للآخرين، حتى البوستر الدعائي للفيلم، حيث «جنيفر لورانس» تقف في مواجهة الكاميرا بملامح غاية في البراءة وتمسك بقلبها الدامي وتقدمه بيديها أمامها، كل شيء ينبئ بفيلم رعب نفسي.

ثم تعرف أن «دارين أرنوفكسي» هو مخرج الفيلم فيتغير تفكيرك إذا كنت من متابعي عالم السينما ومهتمًا بها، فمخرج «Black Swan»، و«Requiem For A Dream» لابد أن يقدم فيلمًا مختلفًا على مستوى أعمق من بعض المشاهد المرعبة، أو الحبكات الدرامية التقليدية، لابد أنه شيء يتعلق بالوجود والمعاني المجردة كما اعتاد أن يفعل في أفلامه، ما يشجعك على هذا الاعتقاد كون الفيلم من بطولة جنيفر لورانس، وخافيير بارديم، وميشيل فايفر، وإد هاريس، لا يجب أن تتوقع أي رخص أو استسهال مع أسماء بهذا الحجم ومع مخرج مثل دارين أرنوفسكي.

ثم يتم إطلاق الفيلم في السينمات وتنهمر على رأسك الآراء على السوشيال ميديا، البعض يقول إن الفيلم هو تحفة أرنوفسكي الخالدة، وقلب أعماله الذي سيظل ينبض للأبد، والبعض الآخر يرى أن الفيلم لم يكن على مستوى التوقعات المنتظرة منه، وأنه يشبه الهذيان الذي سوف ينسى سريعًا، وهناك بعض ثالث يفغر فاه في وجه الجميع ولا يفهم ماذا حدث بالضبط وعم يتقاتل هؤلاء الناس، لأنه لم يفهم الفيلم من الأساس، أو فهمه على مستوى مختلف تمامًا عما يتداوله من يزعمون أنهم فهموا الفيلم وتأويلاته ورمزياته التي يغص بها.


ماذا قدم الفيلم وكيف تم تأويله؟

الفيلم يحكي عن زوجين يعيشان في منزل نائي، الزوج شاعر شهير يفتقد الإلهام، والزوجة داعمة جدًا، يستقبلان زائرًا وزوجته ويحكيان لهما كيف أن الزوج فقد المنزل من قبل في حريق كبير ولم يتبق من الحطام سوى كريستالة يحتفظ بها في مكتبه، ثم قابل زوجته التي أعادت له ولمنزله الحياة وأعادت بنائه مرة أخرى، تتطور الأحداث سريعًا وتقع مشادة بين ابني الضيفين اللذين يأتيان فجأة ويقتل أحدهما الآخر، ثم يرحلان بعد أن توشك حياة أصحاب المنزل على الانتهاء، ثم تحمل الزوجة في طفل ويأتي الزوج الإلهام ويكتب قصيدة جديدة، ليبدأ الجزء المحموم من الفيلم والذي يتم تدمير كل شيء فيه حتى تحرق الزوجة في النهاية المنزل ويتحول قلبها لكريستالة جديدة يضعها الزوج في مكتبه ونرى البيت معمرًا مرة أخرى وزوجة أخرى تنام في الفراش.

من هذا المنطلق فإن كل تفاصيل الفيلم هي رموز شفرة تحتاج لإيجاد الحل، فالزوجة هي الطبيعة الأم، والزوج هو الرب، والضيفان هما آدم وحواء، وإبناهما هما – بالطبع – قابيل وهابيل، ومعجبو الشاعر الذين دمروا كل شيء هم بنو البشر، والطفل الذي أنجبته الأم ودمروه هو الحياة، وتمسك الزوج بمعجبيه ومريدينه هو التسامح اللانهائي الذي يمنحه الله للبشر باستمرار، والكريستالة التي يستخرجها من قلب الزوجة بعد احتراق كل شيء هي الحياة التي تتجدد باستمرار رغم أنف الدمار والبشر والصراعات والفناء.

الكثير من المجهود وكأننا بصدد حل لوحة بازل أو كلمات متقاطعة، كل تفصيلة تحتاج شرحًا وكأنك بصدد مشاهدة فيلم وثائقي مشفر عن تاريخ الوجود، في حين أنه لا إبداع جديد في أن تحكي حكاية يعرفها بنو البشر جميعهم، حتى لو حكيتها مشفرة، هكذا يحصر المهتمون بالسينما الفيلم في خانة واحدة تجعل الحكم عليه تعسفيًا جدًا خاصة إذا لم تعجب به وهذا حقك بالطبع، وبالتالي فإن حصر الفيلم في كونه مجموعة من الرموز الموغلة في الرمزية والعمق أصبح وبالاً على الفيلم وعائقًا ضد تقبله من الجميع، في حين أننا لو وسعنا المنظور قليلاً فبإمكان الجميع أن يروا فيه شيئًا جميلاً خاصة أنه فيلم متقن على مستوى الصناعة.


ماذا عن المشاهد العادي؟

بالطبع ليس هناك ما يسمى بقانون تلقي التأويلات للأفلام السينمائية، ولا يحب أن يرى كل المشاهدين نفس الشيء في الفيلم حتى لو كان هذا بتصريح من المخرج نفسه، ولم تكن السينما قط حكرًا على فئة معينة ترى في الأفلام خطاً أكثر عمقًا مما يحدث على الشاشة، ولذلك بالضبط يمكن أن يرى المشاهد شيئاً آخر غير قصة الخلق في فيلم Mother، ويظل على حق.

يمكن أن يرى المشاهد أن الشاعر هو الإنسان الذي لا يشبع من التجارب التي تتوالى عليه بدءاً من الزوجان وانتهاءاً بالجموع التي دمرت كل شيء، وأن الزوجة هي أم هذا الإنسان التي يتمرد عليها دومًا، يمكن أن يكون للفيلم تأويل يناقش فكرة الأمومة بالفعل، الأمومة المطلقة كمعنى مرهق يستنزف كل الكيانات الأمومية في العالم ويتركها تحترق بينما حتى موتها يمنح حياة جديدة للآخرين.

يمكن أن يكون هذا الفيلم تأويلاً للعلاقات المدمرة التي يكسب فيها طرف ويخسر الآخر، هذا الطرف الذي يكسب باستمرار يترك نفسه للعالم الذي يفتنه تمامًا فيضحي في سبيله بكل شيء حتى الفرص الغضة الجديدة يتركها للعالم كي يدهسها وفي كل مرة يجد تفسيرًا مقنعًا لفتنته بالعالم كما حدث مع الزوج عندما دمرت الحشود طفله الوليد.

يمكن أن يحكي الفيلم عن تاريخ الخلق فعلاً ولكن مع تبديل بعض الأدوار، فالشاعر هو الإنسان وليس الرب، والحشود هي الاختبارات التي وضع فيها على مدار تاريخه وفشل في النجاح فيها وتركها تدمره، والزوجة هي الطبيعة الأم بالفعل التي تسأم من كل شيء وتدمره ثم تمنحه بداية جديدة في كل مرة فناء.

ويمكن أن يكون الفيلم مجموعة غير مترابطة من الرموز التي لم ينجح في دمجها في سياق مفهوم أو حتى غير مفهوم ولكنه يحمل معنى حتى لو كان ماورائيًا، وبالتالي يمكننا أن نقول إنه فيلم ضعيف مثلاً دون أن يتهمنا أحد بالخبل أو التفاهة.

الشاهد أننا لا يجب أن نتعامل مع الفيلم وكأنه مجموعة من الأحجية التي لابد أن نجد حلها وإلا لن نكون متفتحين أو أذكياء بالقدر الكافي، ففي كل وجهة نظر وجاهة من نوع ما، وليس هناك قانون يحتم علينا جميعًا أن نرى أن الفيلم رائع لمجرد أنه يناقش فكرة الخلق من المنظور الذي يتداوله كل من رأوه وحللوه لنا وفرضوا علينا تأويلاتهم.