ضمن عروض مسابقة أسبوع النقاد الدولية في دورتها الـ60 الموازية للدورة الـ74 لمهرجان كان السينمائي، عُرض فيلم «ريش» لعمر الزهيري، الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه والمصري الأول الذي يشارك في المسابقة. تتألف المسابقة من ستة أفلام أخرى جميعها غير عربية، ويرأس لجنة تحكيم المسابقة المخرج الروماني الشهير كريستيان مونجيو الذي استلهم معظم صناع السينما المصرية المستقلة أسلوبه هو ورفاقه أصحاب الموجة الرومانية الجديدة.

زهيري الذي أنجز «ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375» عام 2014 وشارك به ضمن مسابقة «سيني فونداسيون» لمدارس السينما المقامة بجانب مسابقة الأفلام القصيرة في مهرجان كان، يعود بفيلم يطور أسلوبه السينمائي الذي اعتمده في فيلمه القصير ليصل إلى مرحلة أكثر نضجًا، كما يختلف عن باقي صناع جيله في استخدام أسلوب العبث، الذي لم يتجه إليه المخرجون المصريون المستقلون إلا نادرًا. 

يعتمد الفيلم على حبكة غرائبية فضفاضة، إذ ينطلق من احتفال أسرة مصرية فقيرة بعيد ميلاد لطفل من أطفالها، ذلك الاحتفال الذي يقوم به ساحر تافه بخدعة تؤدي إلى اختفاء الأب وظهور دجاجة مكانه، لتنقلب حياة الأسرة رأسًا على عقب، يظهر الأب قبل ذلك كمدير أوحد للأسرة، مهما كانت أحلامه أو قراراته تافهة، فهو يعد الأبناء بشراء فيلا كبيرة بها حمام سباحة وطاولة بلياردو، ويحضر فسقية تزين البيت برغم تردي حالته ونقص احتياجاته الأساسية، على الجانب الآخر فالأم تبدو صامتة مطيعة لما يأمرها به الزوج، ومهمشة داخل البيت بشكل كبير. 

رجال تعرف جيدًا ما تفعله!

ظهور شخصيات الذكور إما يشبه الأب المتسلط الذي يجبر الجميع على سماع حكاياته عن شربه للبن من البقر الصغير مباشرة، لأن المستمعين لا يجرؤون بطبيعة الحال على الاعتراض، أو الساحر الذي ينهر الحضور حتى بعد أن حول الزوج إلى دجاجة قائلًا «محدش يتدخل في شغلي أنا عارف أنا بعمل إيه».

الصورة الثانية تتمثل في الشخص البيروقراطي الكسول الذي يستمتع بإدخال الأم في متاهات بيروقراطية لصرف معاش لها بعد اختفاء الأب، بينما تكمن الصورة الثالثة للرجال في الفيلم في الرجال ذوي القدرة على حل المشاكل، لكنهم ينتظرون ثمنًا بالطبع لقاء قوتهم ووجودهم. في مقابل ذلك كله توجد امرأة وحيدة معظم الوقت هي الأم، تنصاع لرجل تلو الآخر، فكلما سقط أحدهم حل الآخر مكانه، وكأنها دائرة مفرغة من التحكم في النساء لا تنتهي حتى وإن تغيرت أشكالها. 

تبدو تلك الغرائبية كجزء من عالم يصنعه الفيلم تبرر تفخيم الأشياء وجعلها كاريكاتورية للغاية، من أجل طرح شخصيات نراها يوميًا بشكل أكثر وضوحًا أو يخلع عن تلك الشخصيات غطاءها المزيف الذي تضعه في العالم الحقيقي.

فيلم زهيري لا يتناول المرأة كتناولها في أفلام مستقلة مصرية تناولت النساء مثل «أخضر يابس» لمحمد حماد أو «الخروج للنهار» لهالة لطفي أو «نوارة» لهالة خليل. فهو يتناول الوضع بلغة بصرية تشابه لغة ألبير قصيري أو ميلان كونديرا الأدبية، تناول لا يأخذ العالم الذي تعيش فيه على محمل الجد مهما بلغت قسوته وينهي القصة بحادث عنيف آخر يصبح متسقًا متناغمًا مع السياق العام. لكن المميز في الفيلم يبقى متعلقًا بالأسلوب والعالم البصري الذي يبنيه لفيلمه وشخصياته، سواء على مستوى التصوير أو تنسيق المناظر أو المونتاج وغيرها من الخيارات السينمائية.

ضع تلك الفازة في مقلب النفايات، ستضفي عليه الأناقة بلا شك

أول ما يلفت النظر في الفيلم بالتأكيد هو مواقع التصوير، سواء الداخلية أو الخارجية، فلا شيء جميل في هذا العالم المهترئ، شقة الأسرة على سبيل المثال تتسم بحوائط رمادية متآكلة متسخة وكذلك كل ملابس وتفاصيل الشخصيات، الجمال الوحيد الممكن رؤيته يتمثل في إعلانات التلفزيون القديم، المواقع الأخرى تشمل الأراضي المحيطة بالمصانع وغرف الموظفين في المصنع وحتى محل الهمبورجر الذي يظهر بشكل لا يقل غرائبية عن باقي الأماكن، مكان واحد يختلف عن تلك الأماكن هو قصر تخدم فيه الأم لبعض الوقت، وهو مكان فارغ به تمثال وحيد وأرضيات رخامية فخمة وحمام سباحة ضخم، عدا ذلك فكل شيء لا يتسم بأي جمال أو نظافة. 

إضافة إلى المواقع ذاتها، فإن التفاصيل البصرية الموضوعة بداخل تلك المواقع سرعان ما تخلق الجو العام للفيلم. فالأب يحضر في قلب البيت المتآكل الفسقية لأنها ستجعل البيت “شيك” على حد تعبيره، إضافة إلى ذلك، فصديقه الذي يبدو في مكانة مديره يدخن سيجاره من خلال فلتر ذهبي مزيف ويرتدي ساعة ذهبية ويمنح صديقه (الأب) هدية عبارة عن زجاجات ويسكي صغيرة غالبًا ما تكون مهربة، ليرسم موضعه الاجتماعي في عيد ميلاد الابن. أضف إلى ذلك ديكور عيد الميلاد، الذي يتوسط غرفة المعيشة المهترئة ويضيف إليها بلالين معلقة بالسقف، وأورج وكرة أضواء نيونية رخيصة وساحر شنطة يعمل في الأفراح وأعياد الميلاد ليبهر الناس بخدع تعادل في رداءتها كل ما يحيط به. 

الألوان المستخدمة في الفيلم تعزز من كل ذلك، فما بين الرمادي والأصفر والأخضر الباهت، يظهر عالم زهيري الما بعد أبوكاليبسي (Post- Apocalyptic)، الذي يعتمد على التجريد والتغريب، فلا اسم لشخصية ولا مكان واحد معروف يمكن الإحساس بتواصل معه، ولا وقوف عند حدث درامي مهما كانت ضخامته، استمرارية عبثية دون وجهة أو هدف. أيضًا، لا وجود لعناصر تدل على مصرية الفيلم إلا من خلال اللغة وبعض التصرفات البيروقراطية أو سطور الحوار الكليشيهية المستخدمة التي ترتبط بالواقع المصري، لكن في وقت أسبق على العالم المعاصر. فالعناصر الموجودة تشتمل على تلفزيون صغير قديم وسيارة فولكس فاجن موديل التسعينيات، والألحان الكلاسيكية لبليغ حمدي أو ألحان الثمانينيات لهاني شنودة وغيرها من الأغاني المرتبطة بزمن أقدم، هي عناصر في ذاكرة المجتمع لكنها غالبًا ما تصور كدلالة على عالم نوستالجي قديم يود الشعب العودة إلى «ذهبيته».   

دجاجة وقرد وكلب 

يكرس استخدام الحيوانات في الصورة غرائبيته الساخرة العبثية، فتحول الأب السلطوي المتحكم في حياة أسرته إلى دجاجة يدل على سقوط تلك السلطة، ووجود القرد على زجاج سيارة الصديق الأمامي وتدخله في حياة الأسرة الفاقدة للأب يعبر بشكل ما عن تعامل المجتمع بعد اختفاء «ذكر» الأسرة البالغ، والحيوانات المذبوحة والمقطعة (لم يتم إيذاء حيوانات بشكل فعلي داخل الفيلم) بيد الأم تعبر عن حالتها، إضافة إلى المدير الذي يتناول الجمبري والجرجير في أوقات العمل والتي تعزز «فحولته» كما يتخيلها، وكلاب الحراسة التي توقف كل معتد على جزء صغير من طعام المرأة الثرية صاحبة الفيلا.  

كل هذه التفاصيل تجعل العالم بعيدًا عن عالم المشاهد، وتجعله على قدر مأساويته يبدو مضحكًا غريبًا على غرار كوميديا تاتي وروي أندرسون المعروفة باسم كوميديا التهريج، التي تحيل أفظع التصرفات البشرية إلى شيء مضحك. تؤكد الكادرات الثابتة المستخدمة على مدار الفيلم مدى رتابة الزمن وسقوط الشخصيات في عالم من التيه لا وجود فيه لأهمية أو معنى. تقع الأم داخل الكادر في مساحات ضيقة محاصرة بأجساد الرجال الضخمة أو بتمثال رخامي يقف منتصبًا خلفها بينما تمسح الأرضيات، لكنها ربما تكون الشخصية الوحيدة التي يولي المخرج أهمية خاصة لوجهها إذ يضعه في لقطات مقربة على عكس باقي اللقطات التي عادة إما لقطات كاملة أو واسعة لمنظر كامل أو لتفصيلة ثانوية مثل النقود الذابلة من كثر الاستخدام أو السجائر المشتعلة في أيدي الموظفين. 

فيلم «ريش» لعمر زهيري عمل فني أصيل وطازج على السينما المصرية، يؤسس لأسلوب قلما استخدم في الأعمال السينمائية المصرية والعربية، من خلال عناصر بصرية ومواقع تصوير لم يقترب أحد إليها إلا في عوالم فنون الفيديو ليخلق منها غرائبية مثيرة تضع كل القضايا اليومية وتصورها من منظور مختلف بعيد، قد تضحك عليه في البداية، لكن مع مرور الوقت ربما تدرك مدى تشابه كل تلك السخرية مع عالمنا الذي نعيش به.