لقد دخلت المجال (الترفيه) من أجل المال، وبعدها نما الفن منه. إذا كان الناس يشعرون بخيبة أمل من هذه الملاحظة، فليس بيدي حيلة؛ إنها الحقيقة.

هكذا صرح «تشارلي تشابلن» على مسرح الأوسكار عام ١٩٧٢ حين مُنِحَ جائزة الأوسكار الفخرية لسجله الحافل في مجال صناعة السينما. وتصريحات تشابلن لا تشذ عن السياق العام لما يدور في مجال صناعة السينما عمومًا، وهوليوود خصوصًا، البلدة التي يحكمها المنتجون وشركات الإنتاج، ومحركها الأساسي هو المال، وليس الفن والإبداع.

ومن منطلق البحث عن الربح ولو في جوف الأرض، تعددت أساليب المنتجين في سبل در الأرباح لأنفسهم ولشركاتهم، فهناك الاستعانة بالمشاهير من العيار الثقيل في الأفلام لجذب الجماهير، أو تكثيف الدعاية في كل الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة… إلخ. ولكن خلال العقود الأخيرة ازدادت بشكل ملحوظ ظاهرة سلاسل الأفلام التي لم تكن جديدة على مجال السينما، ولكنها تبلورت وانتشرت بشدة. وصارت الجداول الزمنية لطرح الأفلام مُشبَّعَةً بأجزائها، لدرجة أن صيف ٢٠١٦ وحده طُرح فيه أكثر من 15 فيلمًا ضمن سلاسل فيلمية مختلفة.

وقد يصعب تصنيف أي سلاسل الأفلام الأبرز بالنظر إلى أن هناك أكثر من 25 سلسلة مختلفة تخطت عائداتها في شباك التذاكر ما يزيد عن ملياري دولار، ومنها: «حرب النجوم Star Wars»، و«الحديقة الجوراسية Jurassic Park»، و«المتحولون Transformers»، و«عالم مارفل السينمائي Marvel Cinematic Universe» الذي بدوره يضم عدة سلاسل داخله كسلسلة «الرجل الحديدي Iron Man»، و«حراس المجرة Guardians of the Galaxy».

ونظرًا إلى العائد المادي الهائل الذي تضمنه سلاسل الأفلام، فقد كان من الطبيعي أن يشجع المنتجون انتشار وازدهار مثل هذه الظاهرة للدرجة التي تجعلهم يخلقون سلاسل من أفلام ناجحة لم يكن مخططًا لها أن تكون بداية لسلسلة فيلمية، كما كان الأمر مع فيلم «الفك المفترس Jaws»، وفيلم «المصفوفة The Matrix».


السلاسل تقتل الإبداع

مع هذا الكم المتزايد من سلاسل الأفلام ذات التوجه الربحي بالأساس، ظهر توجه يستنكر إفراط شركات الإنتاج في إنتاج سلاسل الأفلام ودعمها على حساب الأفلام الفردية المستقلة عن السلاسل التي تخرج المشاهد من حالة التعود والتوقع التي يعيشها حين يشاهد أجزاء السلاسل الفيلمية. والمقصود بحالة التعود والتوقع هو أن معظم سلاسل الأفلام تخلق لأجزائها أنماطًا وأساليب متشابهة تسحر المشاهد ليعود ليشاهد الأجزاء اللاحقة، ولكنه مع مرور الأجزاء يصبح قادرًا على توقع القصة.

وهذا مبدأ يبدو بالفعل أنه يقتل الإبداع والابتكار، ولكنه في نفس الوقت شيء يحرص المنتجون عليه، فبحسب نظرية رأس المال الاستهلاكي فإن المشاهد يأنس لما تعوده وألفه، فيحرص على الاستمرار في متابعته، وهو ما يعني متابعة السلسلة بجميع أجزائها وينعكس بالتبعية في شكل أرباح طائلة في شباك التذاكر.

ونظرًا للضمان المادي الذي توفره سلاسل الأفلام، فإن كثيرًا من شركات الإنتاج أصبحت تخشى من المخاطرة في الأفلام المبتكرة التي ليست مبنية على نجاحات أفلام سبقتها. ومبدأ ضمان النجاح من خلال تقليد ما نجح من قبل هو مفهوم راسخ في عقليات شركات الإنتاج، وأحد أركان السلاسل الفيلمية. ونظرًا لأن النجاح في عالم شركات الإنتاج يقاس بالعائد المادي، فإن هذا يصبح أحد عوامل كبت الأفلام الفردية التي يقتصد المنتجون في تمويلها خوفًا من خسارة مادية شديدة. ولكن التقليد، ولو كان من بعيد، للأفكار والأفلام الناجحة لا بد أن ينتهي بركود إبداعي في صناعة السينما.

ولعل أبرز مثال معاصر على الركود الإبداعي في سلاسل الأفلام هو سلسلة «السرعة والغضب The Fast & The Furious» التي حاولت مقاومة هذا الركود وضخ روح متجددة في قصتها من خلال رفع مستوى الإثارة فيها وإدخال ممثلين جذابين بشخصيات مشوقة، كشخصية هوبز التي أداها دواين جونسون. ولكن مع كل ذلك، فإن جل أجزاء السلسلة أصبحت مع مرور الزمن تتسم بشيء كبير من التكرار والابتذال والكليشيهات في حبكاتها وأفكارها الرئيسية التي لا تمل من التمحور حول فكرة التضحية من أجل العائلة وما يصاحب ذلك من خرق لسنن الطبيعة كسيارات تمشي على الجليد أو تهبط من الجو! وقد كان لهذا الركود الإبداعي أثره النقدي، فمعظم أجزاء «السرعة والغضب» لا تحظى بتقييم نقدي متميز نظرًا لرتابتها. وبالرغم من ذلك فإن استديوهات يونيفرسال لا زال لديها طموح الاستمرار نظرًا للعائدات الهائلة التي تخطت خمسة مليارات دولار، بالإضافة إلى ملايين الدولارات فوق ذلك من عائدات البضائع الترويجية.


السلاسل تخلق عولم متكاملة

مع كل التحفظات الواقعة على سلاسل الأفلام فإن اختزالها في اعتبارها مجرد جزء من المخططات الربحية لشركات الإنتاج فيه ظلم للجهد السينمائي الذي يبذل في تقديم أي سلسلة بجميع أجزائها على أكمل وجه. وليس هذا فقط، فهناك جانب فريد ومتميز تقدمه سلاسل الأفلام دون الأفلام الفردية، ألا وهو القدرة على خلق وتشكيل عوالم بأكملها.

بحكم طبيعتها التي تسمح لها بالامتداد على مدى الأعوام، فإن لسلاسل الأفلام القدرة على خلق عالم قصصي متكامل له أبعاد متعددة، تسكنه شخصيات مركبة لها أهداف مختلفة وتمر بأحداث متشابكة، يستطيع المشاهد أن يراها تكبر معه مع مرور السنين كأنه يعيش في عالمها وتعيش هي في عالمه، في ألفة وتعايش وانتماء يصعب على فيلم مدة عرضه بين التسعين دقيقة والساعتين أن يناظرها، فقصص السلسلة بشخصياتها وأحداثها تتشكل وتتطور في نطاقها الخاص كما يتشكل المشاهد في حياته، وهذا التشابه يقرب الجماهير من سلاسل الأفلام ويجعلهم يأنسون بها وإليها، وهذه التركيبة في حد ذاتها لها لذة شبه مقتصرة على سلاسل الأفلام.

ومما لا شك فيه أن خلق العوالم المتكاملة يحتاج إلى تسخير جميع الطاقات السينمائية من أول تخيل وتأليف القصة إلى البحث عن الطاقم الفني المناسب إلى بناء مواقع التصوير… إلخ. وحين تتجلى هذه الطاقات في إبداعها تثمر سلاسل بديعة كسلسلة «عالم السحر Wizarding World» التي نعرفها ببطلها هاري بوتر، وسلسلة «الأرض الوسطى Middle Earth» المشهورة بثلاثية «سيد الخواتم Lord of the Rings» وغيرهما من السلاسل التي سحرت قلوب الجماهير وأبهرت النقاد وحققت أرباحًا طائلة في شباك التذاكر.

وهنا إشارة مهمة إلى أن النجاح المادي لسلاسل الأفلام لا يمنع النجاح النقدي، فعلى سبيل المثال، حازت ثلاثية سيد الخواتم بإعجاب نقدي لافت وحضور غير مسبوق في مختلف الجوائز الفنية، فقد فازت أفلام الثلاثية بأكثر من 475 جائزة من أصل أكثر من 800 ترشيح، منها 17 جائزة أوسكار من أصل 30 ترشيحًا.

مع اختلاف أهواء من لهم شأن في مجال السينما، سواء كانوا منتجين أو ممثلين أو نقاد أو جمهور… إلخ، في منظورهم وتعريفهم للإبداع، يبقى الأمر الواقع أن شركات الإنتاج هي بالأساس ربحية، والنجاح المادي هو غايتها القصوى، واتكالها على سلاسل الأفلام هو أحد أهم وسائلها لتحقيق تلك الغاية.

الأفلام الفردية، سواء كانت مبتكرة أو غير ذلك، تحمل معها مخاطر الفشل في شباك التذاكر والرجوع بخسارة على منتجيها، ولذلك أصبحت شركات الإنتاج تدعم سلاسل الأفلام بهدف أن يغطي نجاحها المادي شبه المضمون على أي فشل لباقي الأفلام التي تنتجها الشركات. كما أن ازدياد عدد سلاسل الأفلام إنما هو انعكاس لحب الناس لها وإقبالهم المستمر عليها. ومع كل هذا يجب ألا يكون النجاح المادي المعيار الأساسي في صناعة الفن، وسلاسل الأفلام ليست في ذاتها معادية للإبداع، ولكن يمكن الإجماع على أن السلاسل المثلى هي ذات الروح المتجددة التي تستطيع أسر المشاهد بين أجزائها، فلا يمل من أن يتابعها دون أن يستطيع توقع ما سيكون فيها.