في ١٩٧٥، صعد محمد منير المسرح مرتديًا ملابس كجوال وبنطال جينز ، محطمًا القواعد التي اعتادها المصريون حتى ذلك الوقت، فلم يكن يرى مطربا -على الأغلب- في حفل إلا ببدلة كاملة بينما ترتدي المطربات فساتين سهرة صممت خصيصًا للظهور على المسرح في الحفلات الغنائية. ولم يكتف منير بذلك بل وضمت فرقته آلة غريبة ومزعجة لم تعهدها المسارح المصرية من قبل إلا نادرًا، ألا وهي الدرامز .

وبعد مرور عشرون عاما، أصبح صوت منير رمزًا للخروج عن المألوف، وكسر القواعد، والحرية… الحرية السياسية؟ ربما! لكننا سنتناوله فيما يلي كرمز للحرية على المستوى الأنساني، حيث يلجأ المخرجون المصريون إلى صوت وأغنيات منير -بقصد حينا وبدون قصد أحيانًا- كرمز «صوت» للحرية في أفلامهم.

فلنستعرض معًا ثلاث حالات من التناول، بعضه شديد الوضوح لأى متفرج، وبعضه نسج بإحكام كجزء من حبكة الفيلم:

لم يكتف المخرج يوسف شاهين بـ منير صوتًا في الخلفية بل أسند إليه شخصيًا أحد الأدوار الرئيسية في فيلم المصير عام ١٩٩٧، جاعلًا منه رمزًا حيًا، مرئيًا ومسموعًا، للحرية وسط أبطال العمل، فهو الصوت الذي يحرر عبد الله «هاني سلامة» ابن الخليفة، من قيود وضعه الاجتماعي وما يتوقعه المجتمع منه وله. يجد عبد الله في مروان «محمد منير» الأب الذي لم يجده في والده الحقيقي، ويجد في الرقص –فعل يمثل تحررًا من كل أغلاله الاجتماعية بوصفه ابنًا للخليفة- سلامه النفسي وسعادته، وعندما يميل به الطريق وينجرف في التطرف يحرره صوت منير مرة أخرى حين يصدع مغنيًا علي صوتك بالغنا فيوقظ فيه حبه للفن ولأهله والذين تربى بينهم وتفاعل معهم مكونًا جوهره الأصيل.

أما المخرجة هالة خليل فقد أكتفت بصوت منير متمثلًا في عدد من أغنياته لتربط بينه وبين الحرية المسلوبة من كل واحدة من أبطال فيلمها أحلي الأوقات «إنتاج ٢٠٠٤» بحرفية شديدة.

فـ سلمى «حنان ترك» التي تفقد أمها فجأة لتكتشف الفجوة النفسية الكبيرة بينها وبين زوج أمها -العائلة الوحيدة المتبقية لها- تهرب إلى الماضي بحثًا عن إجابات عندما تتلقى بضع رسائل مجهولة المصدر، وهناك تقابل صديقات الطفولة ضحى «التي تحلم بالتمثيل رغم عدم امتلاكها موهبة حقيقية، إضافة إلى كونه أمر غير مقبول لفتاة في سنها ووضعها الاجتماعي ناهيك عن وجهة نظر خطيبها»، و يسرية «المقيدة إلى منزلها وزوجها وأطفالها بقيد كلمة عليا الطلاق ، التي تضطر أمامها للتنازل عن رغباتها الحقيقية أو التلاعب لتحقيقها سرًا، خوفا على الأسرة التي ستُهدم إن نفذ الوعيد!».


فيلم أحلى الأوقات

في أحد المشاهد المتفردة، نرى الشابات الثلاثة -بينهن يسرية الحامل في شهورها الأخيرة- يشاركن بتلقائية في مباراة لكرة القدم في الشارع مع عدد من الأولاد، وهو ما يعتبره المجتمع المصري أمر غير مقبول بالنسبة للفتيات والسيدات، وهنا يعلو صوت منير ليؤازر قيمة الحرية في المشهد، بل و يمتد إلى المشهد التالي حيث نرى الثلاثة ترقصن على نفس الأغنية في بيت يسرية -الملئ بالقواعد التي يضعها الزوج- ثم تستمر الاغنية في المشهد التالي لنرى سلمى تدندن وتممايل معها في سيارتها، تصرف آخر غير مألوف للفتيات المصريات المتجهمات خارج البيت ترقبًا وخوفًا.

تستخدم هالة خليل أغنية منير -كعامل موحد- للربط بين المشاهد الثلاثة المتتالية، التي تحوي أفعالًا خارجة عن المألوف بالنسبة لشابات مصريات في وضعهن، فيرسخ صوت منير إحساس الحرية في قلوبنا.

أما مشاهد النهاية، فنستمع فيها إلى صوت منير يغني الأغنية الخمسينية الشهيرة الدنيا ريشة في هوا بعدما سمعنا نسختها الأصلية في بدايات الفيلم، يغنيها منير بتوزيع جديد ليشارك كصورة أخرى من صور الإبداع والتحرر من القيود. نرى كل شخصية وقد استعادت حريتها الضائعة، أو حققت التوازن الكافي/المرضي بين حريتها المنشودة وبين قيود المجتمع، على أقل تقدير.

في ٢٠١٤، ينتقل المخرج أحمد عبد الله بهذا التناول إلى مرحلة جديدة، في فيلمه ديكور . لم يلجأ المخرج هنا إلى صوت منير بشكل عام ولكن انتقى أغنيته شبابيك… الدنيا كلها شبابيك لتعكس حالة مها «حورية فرغلي» العاجزة عن التحكم بحياتها، بل حياتيها اللتين باتت أسيرة بينهما، فرغم تنقلها المتكرر بينهما والتنوعات العديدة فيهما إلا أنها لا تملك حرية الاختيار لوقف هذا التنقل.

لم يكتف عبد الله بتلك الرمزية بل قام بعرض الأغنية مرتين بشكلين متفاوتين، عندما تكون مها في العالم المفترض كونه أكثر تحررا، زوجة لمن تحب، تزاول مهنة غير تقليدية بالنسبة لـ امرأة متزوجة مصرية في مجتمعنا الشرقي، تستمع إلى الأغنية بصوت الفنان هاني عادل -رمز آخر للخروج عن المألوف بألحانه وأسلوب غنائه- و بتوزيع جازي للفنان عمرو صلاح، وموسيقى الجاز -كما هو معلوم- رمز عالمي للحرية، وفي هذا العالم تؤديها الفرقة live لا عبر مذياع أو ما شابه.

أما و مها في عالمها الأكثر تقليدية، الأكثر رضوخا لقيم المجتمع الشرقي، فهي زوجة لشخص اختاره لها والديها، تعمل مدرسة، تستمع إلى النسخة الأصلية من الأغنية، بلحنها القديم وصوت منير ، لكنها حبيسة سماعة مثلما كان منير عندما غناها أول مرة وسط رفض المجتمع له وللون الجديد الذي كان يحاول إدخاله على الفن التقليدي.

رغم الاستفاضة في الحديث عن استخدام صوت وأغنيات منير للرمز إلى الحرية والتحرر، فهو ليس الصوت الوحيد الذي لجأ إليه المخرجون المصريون. إن نحن بحثنا فسنجد أمثلة مختلفة، حيث استعمل مخرجون آخرون رموزًا مختلفة للحرية في أعمالهم.

لم تكن للموسيقي الكلاسيكية الغربية قاعدة شعبية كبيرة أبدًا في مصر، حيث أنشئ أول كونسرفتوار في مصر عام ١٩٥٩، ولم تظهر أول أوركسترا مصرية قبل عام أو اثنين بعد ذلك. من هنا وجد بعض المخرجون ضالتهم في الموسيقي الكلاسيكية، كرمز لغير المألوف عن المجتمع المصري. فنرى نوال في نهر الحب «إنتاج ١٩٦٠» -إخراج عز الدين ذو الفقار والمقتبس عن رواية أنا كارنينا للروسي العظيم ليو تولستوي- مثالًا لخروج المرأة المصرية عن المألوف وتجاوزها قواعد المجتمع عندما تميل مشاعرها لرجل غير زوجها، وحينما تراقص الرجل الذي جذب مشاعرها وأيقظ أنوثتها «عمر الشريف» يجري ذلك على موسيقى فالس في حفلة تنكرية، يرتديان فيها –بالطبع- أقنعة!


فيلم نهر الحب

وعلى نهج مشابه لكن بتنويعة مختلفة، يستخدم المخرج داوود عبد السيد في فيلمه رسائل البحر «إنتاج ٢٠١٠»، مقطوعات كلاسيكية لـ شوبان لتكون هذه المقطوعات «غير المألوفة بين عامة المصريين» عامل الجذب بين نورا «بسمة» -التي تلجأ لتلك الموسيقي للتحرر ولو افتراضيًا لدقائق معدودة من قيد الزواج الذي أضطرت إليه فكانت زوجة ثانية في السر، أي عشيقة مأجورة أكثر منها زوجة- وبين الطبيب يحيي الدي يقيده تلعثمه في الحديث لدرجة يضطر معها إلى التخلى عن مهنته واعتزال حياته الاجتماعية، خاصة وأن المخرج قد حرص على كون الموسيقى المسموعة في بقية الفيلم موسيقى شرقية مألوفة لكل مصري كـ رق الحبيب لـ أم كلثوم ..

رغم قلة الأمثلة على استخدام الموسيقى كرمز للحرية إلا أنها أكثر وضوحًا وتأثيرًا في العقود الأخيرة، بينما الأكثر عددًا وشيوعًا هو استخدام الموسيقى كباعث للنوستالجيا «الحنين إلى ماضي يفترض كونه أجمل» كأغاني سعاد حسني في فيلم فتاة المصنع ، و ذكرياتي للقصبجي و كان أجمل يوم لـ عبدالوهاب في فيلم فيلا ٦٩ . ولن نجد صعوبة في العثور على مزيد من تلك الأمثلة، لكن هل حدث واستخدمت السينما المصرية الموسيقى كرمز للوحدة أو العزلة، مثلا، أو كرمز للنضوج أو حتى للمراهقة، أو للنجاح والفشل، أو ما شابه ذلك؟ مع الانتباه إلى كون نطاق بحثنا هو الموسيقى والأغنيات التي يعاد استخدامها داخل الأفلام لا تلك التي صنعت خصيصًا لفيلم ما.

ولما كان الجواب بالنفي، نتسائل.. هل سبب ذلك كون الحنين إلى الماضي جزء من تكويننا الثقافي والاجتماعي وأن الحرية باتت أحد شواغلنا -كشعب- في العقود الأخيرة؟ أم السبب هو محدودية موروثنا الغنائي والموسيقي من حيث المواضيع التي يتناولها؟ أم هما صيغتين للسؤال ذاته؟