يهدف إنشاء النقابات إلى أن تكون وسيلة لتحسين أوضاع العمال، ويرتبط دورها بحماية العاملين فيها ودعمهم في مواجهة السياقات التي تعوق عملهم، أو تعرض حياتهم العملية للخطر، وتكفل اتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم النقابي حق العاملين في إقامة نقاباتهم ووضع دساتيرها وأنظمتها، دون تدخل من السلطات العامة.

ورغم أن مصر موقعة على هذه الاتفاقية فإن الدستور المصري تلاعب على هذه المواد بتقسيمه النقابات كعمالية ومهنية، وأخضع النقابات المهنية للإنشاء وفقًا للقانون، ومنع إنشاء أكثر من نقابة لكل مهنة وفقًا للمادة 77 من الدستور المصري 2019، وفي تعدٍ صارخ على الاتفاقية صدر قانون إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية رقم 35 لسنة 1978؛ ليجرم العمل بفنون المسرح أو السينما أو الموسيقى على أي أحد ما لم يكن عضوًا عاملًا بالنقابة، وبهذا أصبح الانضمام لتلك نقابات جبريًّا، وأصبحت هي الجهة الوحيدة التي من حقها منح التصاريح للمشتغلين بالفنون ومنعهم من مزاولة الأعمال وفقًا لقانونها، بل تنص المادة الخامسة مكررة من قانون رقم 103 لسنة 1987 على أن «يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من زاول عملًا من الأعمال المهنية المنصوص عليها فى المادة (2) من هذا القانون ولم يكن من المقيدين بجداول النقابة، أو كان ممنوعًا من مزاولة المهنة، ما لم يكن حاصلًا على تصريح مؤقت للعمل»، طبقًا للمادة (5) من هذا القانون.

غير أن المحكمة الدستورية العليا قد أصدرت في جلستها المنعقدة بتاريخ 28 أغسطس 2021 قرارًا تاريخيًّا برئاسة المستشار سعيد مرعي رئيس المحكمة، بعدم دستورية عقوبة الحبس المنصوص عليها في قانون إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية بحق من يزاول العمل الفني دون ترخيص من النقابة المختصة.

استكمالًا للتعديات القانونية، وبين ليلة وضحاها في يونيو 2012، وُجِّهت اتهامات بالفساد المالي والإداري لنقيب الموسيقيين إيمان البحر درويش، الذي تولى المنصب عام 2011، وقبل أن يتم التحقيق فيها، عُزل درويش من منصبه وأقيمت الانتخابات التي على أساسها تولى مصطفى كامل منصب النقيب عام 2013، برَّأت المحكمة درويش من كل ما نُسب إليه، وعلى الرغم من ذلك لم يستطع تنفيذ الحكم الصادر له من المحكمة الإدارية العليا.

تناول الإعلامي الراحل وائل الإبراشي الأزمة في إحدى حلقات العاشرة مساءً، بحضور كل من مصطفى كامل وإيمان البحر درويش، حافظ درويش على هدوئه، وحاول اقتناص الكلمات ليتحدث بالأدلة القانونية، ويستعرض ما جاء به حكم المحكمة الذي يعيده لمنصبه، ويلغي الانتخابات التي تولى بها مصطفى كامل منصبه، بينما انهال عليه كامل باتهامات الفساد، وحسب قوله: «أكلت حقوق الغلابة»، أكد كامل أنه ابن حارة شعبية وصنع مجده بيده، وأن «قشطة يابا» لا يمكن اعتبارها سبة له، حيث إن كبار الفنانين، ومنهم سيد درويش غنوا للخمر والكيف.

تسلم

قدم مصطفى كامل أوبريت تسلم الأيادي كتابة وتلحينًا وتوزيعًا، وبه أكد انحيازه الكامل للرئيس السيسي، الذي انعكس في قرارات صدرت من النقابة، ثم تم التراجع عنها، بشطب عضوية موسيقيين اتهموا بانتمائهم لجماعات متطرفة، منهم حمزة نمرة، عن الأزمة تحدث كامل للإعلام مؤكدًا أن قرار الشطب حدث بينما هو في المستشفى، ووقعه موظفون قائمون بأعماله، حاول الإعلامي عمرو الليثي التدخل لحل الموقف، بينما اشترط كامل حضور نمرة وتصويره داخل مكتبه، على أن يلقي كلمة في حب البلاد والجيش والشرطة، ووصف كامل نفسه «باللعيب» كونه اشترط على حمزة هذا التصوير لإعطائه الكارنيه، لم يأتِ نمرة إلى النقابة، الأمر الذي كان سببًا فيما حدث في الفيديو المسرب لكامل، والذي يسخر فيه من حمزة ومن الموسيقيين الشباب اللذين شاركوا بموسيقاهم المعتصمين في التحرير، طالبًا عدم التصوير؛ لأنه يجلس مع إخوته، وعندما يتعصب تصدر منه الشتائم والحركات غير اللائقة، وأنه سيمنع حمزة من الغناء، «أنا أد الكلمة دي ومش هيشتغلها تاني»، وبالفعل غاب حمزة عن العمل في مصر خلال سبع سنوات.

وبنفس الحث الشعبوي الذي حافظ عليه مصطفى كامل، عقد جلسة مع نجوم المهرجانات وقتها، وعلى رأسهم أوكا وأورتيجا، وقال لهم لم أمنعكم من الغناء ولن أعطيكم التصاريح، «انزل اشتغل .. وقت ما هلاقي أي لغة مش مظبوطة مش هخليك تشوفها تاني».

بنهاية يوليو 2015، كان مصطفى كامل خارج منصبه كنقيب للموسيقيين، وعلى مدى السنوات صرح كامل في عدة لقاءات تليفزيونية باعتذارات لحمزة نمرة ولإيمان البحر درويش، مؤكدًا أن النقابة مكان موبوء وفاسد وأفسد علاقاته بالناس، وأنه لن يفكر أبدًا في الترشح لمنصب النقيب.

من ابن البلد إلى الأمير

مرحلة جديدة بخطاب مختلف بدأها النقيب هاني شاكر فور توليه منصب نقيب المهن الموسيقية في أغسطس 2015 بعد انتخابات باطلة، حيث إن النقابة لا زالت رافضة لتنفيذ حكم المحكمة الإدارية بعودة ايمان البحر درويش لمنصبه كنقيب.

ينتمي هاني شاكر للغناء الكلاسيكي الحديث من الموسيقى العربية، بدأ مشروعه كبديل لعبد الحليم حافظ، وعندما غمرت المشهد رياح التجديد التسعينية التي أثارها حميد الشاعري ورفاقه، حاول شاكر الاحتفاظ بمكانه بغناء الأوجاع والأحزان على ألحان عرجت بين المقامات العربية والبوب، لُقِّب شاكر بأمير الغناء العربي، فلم يكن ابن بلد ولم يغنِّ للفقراء، هو نموذج المنتمي للطبقة الوسطى الراعية لأخلاقياتها المحافظة.

تكليلًا لمشروع هاني شاكر المحافظ على هوية مصر الموسيقية والذوق العام، منح وزير العدل السابق المستشار أحمد الزند، في نوفمبر 2015، النقيب هاني شاكر صفة الضبطية القضائية، الضبطية تجعل من الموكلين من نقابة المهن الموسيقية مأموري ضبط قضائي. الشخص الذي يحمل هذه الصفة يحق له تقصي الجرائم ومرتكبيها وجمع الدلائل التي تلزم عملية التحقيق في الدعوى، ويخضع لإشراف النائب العام. يحمل الشخص بطاقة تثبت أنه «مأمور الضبط القضائي»، وله حق دخول جميع أماكن العمل وتفتيشها للتحقق من تطبيق أحكام القانون وفحص الدفاتر والأوراق المتعلقة، وطلب مستندات وبيانات من أصحاب الأعمال أو من ينوب عنهم، استمر القرار حتى ألغته محكمة القضاء الإداري في أبريل 2016.

منذ بداية عام 2016 بدأ شاكر في إصدار قرارات إيقاف المطربين ومنعهم من الغناء عقابًا على عدم التزامهم بمنع ما هو منافٍ للأخلاق أو الذوق العام الذي حدده هو، ولم يخبرنا عن حدوده، أوقف شاكر 6 من عضوات نقابة المهن الموسيقية، بعد اتهامهن بارتداء ملابس غير لائقة والرقص في كليباتهن.

 حتى عام 2018 كان نموذج الإنتاج والنشر الذاتي على الإنترنت، والذي اعتمدت عليه المهرجانات في بعض مراحل تطورها وانتشارها، قد كسر قيود المنظومة الإنتاجية الرسمية وغير الرسمية اللتين تسيطر عليهما الدولة، الأمر الذي بات لا يُحتمَل بالنسبة للمتحكمين، خصوصًا مع تحقيق المهرجانات انتشارًا واسعًا في المشهد الموسيقي المصري، وما كان لشاكر إلا أن يستصدر قرارًا من وزير الثقافة بحق نقابة الموسيقيين في إصدار تراخيص الـ « دي جي » التي تصدرها هيئة المصنفات، وأعلن عن طبع كارنيهات العضوية في السنة التالية في مطابع الشرطة.

حسب تقرير أصدرته مؤسسة حرية الرأي والتعبير عام 2019، كانت بداية ملاحقة أجهزة الدولة لمطربي المهرجانات، حين وجهت نقابة المهن الموسيقية، برئاسة هاني شاكر، سلسلة من الانتقادات ضد مغني المهرجانات حمو بيكا. وبدأت النقابة حملة ضده، في مطلع نوفمبر 2018، بالتعاون مع الهيئة المركزية للرقابة على المصنفات الفنية، وزارة الداخلية، ونقابة المهن التمثيلية. وخلال شهر، تمكنت نقابة المهن الموسيقية من منع ست حفلات لبيكا في محافظات مختلفة، وكذلك تحرير محاضر ضده بدعوى إفساد الذوق ومخالفة القوانين، وذلك لعدم حصوله على التصاريح المختلفة، سواء تلك المتعلقة بإقامة حفل، وتلك التي تثبت أنه «مغنٍّ»، وذلك بأن يقيد في نقابة الموسيقيين.

أزمة جديدة لشاكر مع حسن شاكوش وعمر كمال انطلقت في يناير 2020، حيث بدأ شاكر حملته بالاستياء من جملة «هشرب خمور وحشيش» في أغنية بنت الجيران، وهدد بوقف عضوية شاكوش، مشترطًا عليه تغيير الكلمات بأخرى لائقة اجتماعيًّا، فخرجت لنا النسخة الجديدة التي كلها أخلاق، مستبدلة «أشرب خمور وحشيش» بـ «من غيرك مش هعيش»، بعدها وفي سبتمبر من نفس العام أصدر شاكر قرارًا بمنع أي مطرب من الغناء إذا اعتمد على فلاش ميموري عوضًا عن الغناء والعزف الحي واشترط الغناء مع فرقة لا تقل عن 8 عازفين، كانت تلك القرارات التعسفية ليست مختصة فقط بوقف أغاني المهرجانات، ولكن كانت كفيلة بوأد أي تجربة موسيقية تجريبية، خصوصًا في ظل ارتفاع الضريبة المدفوعة عن كل حفلة، والتي تقدر بـ 25% من قيمة التذاكر، فضلًا عن ارتفاع سعر القاعات والمسارح المستضيفة للحفلات، والتي تصل تكلفة إيجارها لـ 50%، .

أضاف شاكر للبعد الأخلاقي بعدًا طبقيًّا جديدًا في خطابه مع مطربي المهرجانات إبان تلك الأزمة، فقد حضر قائمة تضم 19 مطربًا من مطربي المهرجانات، ومنعهم من الغناء ونبه على جميع المنشآت السياحية بعدم التعامل معهم أبدا، ملزمًا إياهم بتقديم طلبات التحاق بالنقابة، مرورًا باجتيازهم للاختبارات الصوتية، وتغيير أسمائهم الفنية، للحصول على تصاريح العمل، في المقابل صرح شاكر عن إعجابه بويجز، رغم عدم فهمه لما يقول، لكن نجله يحبه ويحضر حفلاته.

استقال هاني شاكر من منصب النقيب في يونيو 2022 دون أسباب واضحة، مؤكدًا أن قرار الاستقالة لا رجعة فيه، وأنه فخور بما حققه للموسيقيين خلال السنوات الماضية وعلى مدى دورتين من تحسين مستوى المعاشات والخدمات الطبية وإنشاء مراكز جديدة.

اقلب العملة: ابن البلد مرة ثانية

في أكتوبر 2022 عاد مصطفى كامل لمنصب نقيب الموسيقيين بعد حصوله على 1023 صوتًا في انتخابات النقابة، ويبدو أن خريطة الغلابة قد تغيرت، فأصبح لا يتحدث عنهم، بل كانت خطة الاقتناص من مطربي المهرجانات والتراب أيضًا حاضرة كأولوية في جدول أعماله، عن المهرجانات تحدث كامل قائلًا: «اللي هيكتب كلمة مهرجان على الأغنية بتاعته هيتشطب»، وحضر إقرارات للمطربين طالبهم بالتوقيع عليها، يفيد الإقرار بإمكانية الحصول من قبل المؤدين على تصريح غناء ربع سنوي، «عشان نراقب بعض»، حسب قوله، في مقابل الالتزام بعدم غناء المهرجانات، والالتزام بعدم خدش الحياء، وأخذ تصريحات الغناء خارج مصر، والغناء بفرقة قوامها 12 عازفًا.

تعتبر صياغة هذا الإقرار مخالفة لقانون إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية رقم 35 لسنة 1978، لأن المادة الثانية أكدت أن عضوية نقابة المهن الموسيقية مكفولة لجميع المشتغلين بالغناء بأنواعه المختلفة والعزف بأنواعه المختلفة، والتأليف الموسيقي والتوزيع والتلحين، وقيادة الفرق الموسيقية، وهي صياغة مرتكزة على قبول التنوع أيًّا كان نوع هذا الفن.

فيما يخص أغاني التراب والراب فبدأت القصة بإصدار كامل قرارًا بتغريم مروان بابلو 50 ألف جنيه بعد رميه الميكروفون في حفلة حاول خلالها الغناء بمصاحبة عازفين، وتغريم عفروتو 100 ألف جنيه لمخالفته قرار النقابة، وإيقاف تصريحه لحين الحضور وسداد الغرامة والتوقيع والالتزام بتعليمات النقابة، كما قرر استدعاء جميع مؤدي الراب ممن لم يتلزموا بالحضور والمثول أمام مجلس نقابة المهن الموسيقية وتوقيع الالتزام والتعهد بكل قرارات المجلس.

حضر الاجتماع كبار نجوم المشهد وحاولوا أن يشرحوا له طبيعة إنتاج التراب من خلال برامج الموسيقى الإلكترونية، ولكن كامل رفض ما قالوه، وأكد أنه يحل بقراره بإلزامهم بالغناء الحى بمصاحبة 6 عازفين، أزمة البطالة التي نالت الموسيقيين، طلب كامل من المطربين أن يوقفوا الهجوم الذي يشنه عليه جمهورهم والتوقيع على الإقرارات.

خرج كلٌّ من مروان موسى وأبيوسف في فيديوهات قصيرة يؤكدان لجماهيرهما أن «كل جاجة تمام»، هذه الجماهير التي وصلت هاشتاج بعنوان «إقالة مصطفى كامل» للصدارة على موقع تويتر خلال ساعات، معبرين عن مدى غضبهم من طريقة إداراة النقابة، كما أنتجوا بعض الفيديوهات الساخرة منه.

 يوضح الرصد السابق كيف فقدت نقابة المهن الموسيقية دورها الداعم للموسيقين، بل طورت دورها الرقابي الذي وضعت به الفنون الموسيقية المستحدثة الموسيقية (التراب والمهرجانات) تحت مقصلتها، ولأبعاد ورؤى شخصية تخص الجالس على مقعد النقيب وتعكس أيديولوجيته السياسية وخلفيته الطبقية وعقيدته الأخلاقية، تمارس النقابة قرارات الضغط والابتزاز على الموسيقيين الشباب، بل تجبرهم على حل مشاكلها، مثل مشكلة بطالة العازفين، الأمر الذي من شأنه قتل أي تجارب إبداعية وتعبيرية، ويستهدف توحيد الشكل وتكرار المضمون، فهل بهذا تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر، كما أنهى النقيب الرقيب مؤتمراته مع الشباب.