عند التحدث عن نموذج القيادة في الحركة الإسلامية بصورة عامة من الطبيعي أن تذهب أنظارنا إلى جماعة الإخوان المسلمين وتحديدًا في مصر، حيث تعد الجماعة أم الإسلام الحركي في التاريخ المعاصر. وعند النظر إلى ظاهرة القيادة لا يمكننا عزلها عن محيطها العربي، ومحيطها العالمثالثي وأنماط القيادة التي تسود في تلك الظروف، كما لا يمكننا محاكمة منظور القيادة في الحركة الإسلامية بمعزل عن التطور التاريخي الذي شهد فترات طويلة من المحن ولمحات من الانفراجات بين الحين والآخر.

تلك العوامل لا نعني بها حتمية تفرض شروطها على الجماعات وتصمم نماذجها القيادية، فهذا صحيح من ناحية، ومن ناحية أخرى يمثل الخضوع لتلك الظروف نوعًا من أنواع الاستجابة السلبية لها، وغياب الوعي بالمهمة السياسية لتلك الحركة تجاه مجتمعها وقواعدها.

النموذج السائد

في هذا الجزء، نحن لا نسعى إلى وضع نظرية القيادة المثلى التي يجب أن تتبناها جماعة ما، وإنما نحاول بمنهج استنباطي أن نفترض شيوع نمط قيادي معين داخل الحركة الإسلامية وفي القلب منها الإخوان المسلمون في مصر،ثم نبرهن على صحة تلك الفرضية، ولماذا كان هذا النموذج دون غيره هو الأكثر نجاحًا في الاستحواذ على قيادة الحركة.

يقول توماس كارلايل في مستهل مقالته «البطولة، عبادة الأبطال والبطولة في التاريخ» بأن التاريخ العالمي وما أنجزه الإنسان ما هو إلا سيرة الرجال العظماء الذين صنعوا التاريخ، ويرجع تأثير هؤلاء الرجال لشخصيتهم الفريدة من نوعها، ما تمتعوا به من سمات فريدة مكنتهم من القيام بدور حاسم في مسار التاريخ، وتلك السمات سمات فطرية لا يمكن اكتسابها، وإنما يولدون بها[1].

يقول صلاح شادي في كتابه «حصاد العمر – صفحات من التاريخ» معلقًا على مقتل مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا[2]:

لم يكن فقط إشعاعه نورًا على طريق الحق نبصر به خطونا، وإنما كان المحور الذي تبلورت عليه آمالنا للوصول بالحركة الإسلامية إلى هدفها الصحيح، كانت حياتنا بعض أنفاسه وصحونا من صحوه وحركتنا من خطوه. فلما اختاره الله إلى جواره توقف إدراكنا لمسيرتنا، إلى أين نسير؟ وكيف نمضي بعده؟

إذا ما وضعت هذا الكلام الذي ينبع من أحد قيادات التنظيم الخاص – والذي يمثل أحد أرفع أجهزة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت، والذي يعبر عن نظرة شخصية بحتة تقصر مصير جماعة بحجم الإخوان المسلمين في شخص البنا – بجانب حقيقة أن الإخوان ظلوا ما يقرب من ثلاث سنوات منذ اغتيال البنا في 12 فبراير/شباط 1949 حتى 19 أكتوبر/تشرين الأول 1951 دون قيادة، يؤكد شخصانية قضية القيادة في الإخوان المسلمين تلك الفترة.

هذا نص خطير من حيث دلالاته الفعلية والتنظيمية والفكرية والسياسية، خاصة أن الذي كتبه رجل عسكري يقيس الكلمة قياسًا صارمًا. وأخطر ما في هذا النص أنه يؤكد أن القيادة في مفهوم الإخوان هي شخص أكثر منها مؤسسة، شخص ينتهي وتكون معه نهاية قيادة، ولا بد من شخص آخر فيه سمات قيادية لتكون معه بداية قيادة جديدة. هذا المفهوم الشخصاني للقيادة قد عانت منه كل التشكيلات العقائدية في العالم الثالث، سواء كانت الإسلامية منها أو غير الإسلامية، إنه مفهوم للقيادة يسود حيث يفشو التخلف وترين مناخاته، وأخطر ما في هذا المفهوم من آثار هو ربط المشروع العام للحركة – أية حركة – بشخص القائد أو الزعيم[3].

ولكن بعد وفاة البنا، وبعدما كانت النظرية تتمركز حول سمات نادرة تتوافر في شخص ما، انتقلت هالة البطولة وكأنها فارغة من سمات البنا الفذة، وتمركزت حول محنة الإخوان المسلمين، التي أصبحت مبررًا لسلوك الجماعة ككل، ورصيدًا يعتمد عليه في تصنيف القادة كمعيار مقدم على الكفاءة الفعلية، وجعل الحركة أكثر استجابة لما تمليه عليها الظروف الخارجية.

لقد ساهمت – لا شك – ظروف المحنة التي تعرضت لها الحركة الإسلامية في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه في تعقيد إشكالية القيادة وإعاقة جهود (الإصلاح الداخلي) في الحركة، إذ كلما اشتد لهيب المحن تغيبت الظروف الموضوعية للتوازن الداخلي، وفتح الباب على مصراعيه لاتجاهات الغلو والتطرف، وهذا أمر قد تكرر في أكثر من جماعة عقائدية.

لقد انعكس (جو المحنة) على تكوين القيادة في الحركة وتشكيلها وارتبطت قيادة الحركة من حيث هي (رمز) بالمحنة (المطاردة والتشريد والاعتقال والمحاكمة والذبح) وتآلف روح القيادة في الحركة الإسلامية ومنهج تفكيرها مع مهام (المقاومة الروحية والعقائدية النفسية للطاغوت)، لدرجة أنها باتت غير قادرة على التفكير الإيجابي المنهجي (المنزوع السلاح) في ظل ظروف طبيعية من السلم والحرية … ومع ذلك نجد أن قواعد الحركة الإسلامية (متعلقة نفسيًّا) بأجواء المحنة حتى لو انقشعت، وصارت القيادة تشجع هذه النزعة في القواعد من باب (التعبئة المعنوية) و (رص الصفوف)[4].

مصطفى مشهور: المرشد الخامس لجماعة الإخوان المسلمين؟

يعد مصطفى مشهور شخصية محورية في تاريخ الإخوان المسلمين، بل يمكن القول إن مشهور هو أقوى شخصية شهدت الجماعة طوال تاريخها عقب مؤسسها حسن البنا، من حيث النفوذ وطبع الجماعة بطابعه القيادي، بل حتى الشخصي؛ فقد كان مشهور نموذجًا رائدًا تكرر في أفكار الجماعة، بل فيمن يسيطرون عليها منذ وفاته.

ولد مشهور في 15 سبتمبر/أيلول 1921، في قرية (السعديين) مركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، ثم انتقل إلى القاهرة ودرس بكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة،) وتخرج منها عام 1942.

التحق مشهور بالإخوان المسلمين عام 1936 عندما كان طالبًا بالثانوية العامة، ولكن لم تُعرف له أنشطة علنية في الجماعة في تلك الفترة، لكن ورد اسم مصطفى مشهور في تحقيقات النيابة العامة فيما عُرف بـ «قضية السيارة الجيب» في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1948، وهي القضية التي اتُّهم فيها «النظام الخاص» للإخوان المسلمين بالتخطيط للاستيلاء على الحكم بالقوة، جاء اسم مصطفى مشهور ضمن قائمة اشتملت 32 اسمًا جاء ترتيب مشهور فيها الثاني بعد عبد الرحمن السندي قائد التنظيم[5]، وحُكم عليه بالسجن لثلاث سنوات قضاها بالكامل حتى عام 1950.

عمل مشهور متنبئًا جويًّا، وتم إبعاده إلى مرسى مطروح، حيث عمل هناك إلى أن تم اعتقاله مرة أخرى عام 1954 حيث أودع السجن الحربي. وحكم عليه بعشر سنوات أشغال شاقة، ثم نقل إلى سجن ليمان طرة، ومنه إلى سجن الواحات، ثم اعتقل مرة أخرى سنة 1965؛ حتى أفرج عنه في عهد الرئيس السادات.

يصف أبو العلا ماضي (رئيس حزب الوسط الجديد) في سياق حديثه عن فترة احتكاكه وتعامله مع مصطفى مشهور منذ عام 1977 وحتى تركه الإخوان عام 1996 بأنه: «الشخصية الأهم في تاريخها – الإخوان المسلمون – منذ السبعينيات من القرن الماضي حتى وفاته (رحمه الله) في عام 2002»[6].

رسميًّا، تولى مصطفى مشهور منصب المرشد العام للجماعة في يناير/كانون الثاني 1996 وحتى وفاته في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، ولكن يبدو أنه كان يمارس ذلك الدور بطريقة غير رسمية منذ تولي عمر التلمساني منصب المرشد العام في 1976.

انغمس التلمساني في العمل العام بوصفه شخصية إسلامية عامة وابتعد عن الأمور التنظيمية، بينما كان مشهور هو العقل التنظيمي للجماعة، ومهندس عملياتها الإدارية والتنظيمية، وقد امتد هذا الدور لمشهور مع تولي المرشد الرابع محمد حامد أبو النصر (1986-1996) بعد وفاة التلمساني، وقد كان أبو النصر منعزلًا عن الجماعة لما يزيد عن عشرة أعوام بمسقط رأسه في منفلوط، فكان مشهور أيضًا خلال تلك الفترة هو المضطلع بالمهام الفعلية لمنصب المرشد العام. ولم تكن سيطرة مصطفى مشهور وتأثيره على الجماعة مقصورًا على مصر فقط – قبل توليه مهمة المرشد العام رسميًّا – وإنما كان له دور أساسي في تأسيس ما عُرف بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

وكان مشهور قد استطاع مغادرة مصر عام 1981 قبل الاعتقالات الشهيرة التي قام بها السادات، حيث غادر إلى الكويت ثم إلى ألمانيا وظل هنالك لمدة خمس سنوات، ولم يتمكن من العودة سوى عام 1986. وخلال خمس سنوات قضاها الشيخ مصطفى مشهور خارج البلاد كان قد استطاع خلالها تأسيس أول تنظيم دولي حقيقي لجماعة الإخوان المسلمين. وحين عاد إلى مصر بعد أيام من وفاة المرشد الثالث للجماعة عمر التلمسانى (4 فبراير/شباط 1904 – 22 مايو/آيار 1986) كان قد أتم بناء التنظيم الدولي للإخوان كاملًا وأحكم عليه قبضته الحديدية.

ومنذ تأسيسه كانت كل خيوط التنظيم الدولي تبدأ وتنتهي عند الرجل الحديدي مصطفى مشهور، ولم يكن خافيًا أن سلطته على هذا التنظيم كانت تفوق سلطة المرشد نفسه، سواء أكان المرحوم عمر التلمساني أو محمد حامد أبو النصر، إذ اضطلع مصطفى مشهور بالعبء التنظيمي الأكبر داخل الجماعة، ومارس دور المرشد الفعلي في ولاية المرشدين السابقين عليه – التلمساني وأبو النصر – قبل إعلانه مرشدًا خامسًا في عام 1996[7].

إذا ما أردنا تحليل النموذج القيادي لمصطفى مشهور كقائد سياسي للتنظيم السياسي الأهم في مصر ، فعلينا أن نطرح السؤال التالي: لماذا تختار الجماعة شخصًا معينًا لتوجيهها، ولماذا ينجح شخص معين في قيادة الجماعة وتوجيهها[8]؟

فلماذا نجح نموذج مصطفى مشهور في السيطرة على الجماعة، حتى عندما كان لها قادة رسميون أتوا وفق عمليات تنظيمية داخلية للجماعة، بينما تراجعت نماذج أخرى داخل الجماعة؟ يبدو السؤال هنا ذا شقين؛ الأول متعلق بمقومات القائد، والثاني متعلق بعوامل النجاح التي تهيئها البيئة المحيطة لصعود هذا النموذج وأفول غيره.

مقومات القيادة لدى مصطفى مشهور

1. خلفية اجتماعية

تتحدد مسالك التعامل القيادي من خلال خصائص المجتمع ومميزاته:

كل مجتمع له خصائصه وكل تجمع له مميزاته. هذه الخصائص وهذه المميزات هي التي من خلالها تتحدد مسالك التعامل القيادي، فقائد اللصوص لا يمكن أن يتم اختياره – ولو لا شعوريًّا – استنادًا إلى نفس المعايير التي يتم بها اختيار القائد في مجتمع العلماء. وهذا يعكس طبيعة العملية النفسية التي تستتر خلف العلاقة غير الواضحة التي تحكم تدفق المجتمع نحو القائد والتقاء القائد بالمجتمع[9].

عقب الإفراج عن الإخوان المسلمين في عهد السادات، والسماح لهم بالعودة إلى نشاطهم، سلكت الجماعة مسلكًا مزدوجًا: الجانب العلني تمثل في العمل الطلابي والنقابي والدعوي، ويمكن القول بأن المرشد الثالث عمر التلمساني هو من كان يقود تلك الجبهة، ولكن قبل تولي التلمساني عام 1976 منصب المرشد العام، كان هناك مسلك آخر سري يحمل التوتر الأبدي بين الجماعة والسلطة في مصر يسير على قدم وساق، حيث بدأ رجال النظام الخاص الذين بقوا في الجماعة – وعلى رأسهم الأستاذ مصطفى مشهور، والأستاذ أحمد حسانين، والأستاذ كمال السنانيري، والدكتور أحمد الملط، والحاج حسني عبد الباقي، وآخرون – تولي مهمة إعادة بناء الجماعة والسيطرة على قيادتها بعيدًا عن آخر تشكيل لمكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية للجماعة أو من بقي منهم حيًّا[10].

حتى إنه في الفترة بين وفاة المستشار حسن الهضيبي عام 1973 وبين تولي الأستاذ عمر التلمساني، اختار أعضاء النظيم الخاص مرشدًا سريًّا من بينهم، يرجح مهندس أبو العلا ماضي أن يكون إما المهندس حلمي عبد المجيد نائب عثمان أحمد عثمان بشركة المقاولون العرب، وإما الشيخ زكي إبراهيم من حلوان، وطلبوا من الإخوان بيعة المرشد السري، لكن رفض العديد من إخوان الخارج هذه البيعة، إلى أن تم انتخاب التلمساني عام 1976.

يعلق أبو العلا ماضي عقب حديثه عن إزاحته وما عرف بتيار الوسط (عبد المنعم أبو الفتوح، محمد حبيب وآخرين) عن مسؤولية قسم الطلاب في الجماعة عام 1989 الذي تميز بنشاطه واتساع حجمه وتأثيره، نتيجة لاستجابة مشهور لرموز مجموعة النظام الخاص وتنظيم 1965 (الابن الشرعي للنظام الخاص) وعلى رأسهم محمود عزت، وهو ما استدعى تعليق أبو العلا ماضي على ما كان يدور من حديث في دوائرهم عن الفترة بين وفاة المستشار حسن الهضيبي وبين تولي الأستاذ عمر التلمساني، حيث يقول[11]:

كانت هذه الواقعة وواقعات أخرى كثيرة قد نبهتنا لمعرفة طبيعة ما يجري وما أعد له منذ سنوات طويلة، وبدأنا نسمع عن ترتيبات تمت في السجن بعد عام 1965 حتى عام 1971 بين رجال النظام الخاص وتنظيم 1965 للسيطرة على الجماعة، بعد خروجهم من السجن بعيدًا عن تشكيلات الجماعة الرسمية (مكتب الإرشاد المنتخب مع المرشد المستشار حسن الهضيبي والهيئة التأسيسية) ولكن وجود المستشار حسن الهضيبي كان حجر عثرة لتطبيق هذه الترتيبات حتى وفاته في نوفمبر/تشرين الثاني 1986، فانطلقوا واختاروا مرشدًا سريًّا لمدة تقرب من ثلاث سنوات حتى واجهوا المشكلة التي أشرنا إليها سابقًا واضطروا إلى اختيار الأستاذ عمر التلمساني كما سبق أن ذكرنا.

لكن مع ذلك ظلت مجموعة التنظيم الخاص هي المسيطرة على مفاصل الجماعة ومؤسساتها، ومع رفض السادات ومن بعده حسنى مبارك تقنين وضع الجماعة من ناحية، بالاقتصار على أن أقصى ما يمكن أن تحققه الجماعة هو أن تكيف وضعها «كجمعية» تابعة للشؤون الاجتماعية من ناحية النظام، ومن ناحية الجماعة نفسها التي لم تكن ترى في الثوب الحزبي ثوبًا ملائمًا – تجربة الوسط – لها يحصرها في إطار وطني أو سياسي ضيق، فالجماعة – وفق رؤية تلك المجموعة – لا تعترف بحدود رسمها الاستعمار، بالإضافة إلى أنها جماعة شاملة تضم الدعوي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي … إلخ في ثوب واحد.

مثل مصطفى مشهور صعود المسلك الثاني، الأكثر انغلاقًا وميلًا إلى السرية على حساب تيار الانفتاح الذي مثله التلمساني، كان تيار مشهور تيارًا أيديولوجيًّا مغرقًا في تبني أفكار قطب المتجاوزة للدولة، والمغتربة عن المجتمع، وهو الخطاب الذي ساد جماعة الإخوان المسلمين، حتى إن لم يكن ذا صلابة فكرية، فإنه تمثل في بنى الجماعة التنظيمية والعلاقات بينها.

نظريًّا، شكَّل «شمول الإسلام» ورفض الأنظمة التي لا تنطلق منه كمبدأ وحيد المقولة الأيديولوجية التي تميز الجماعة عن التيارات المنافسة. أما من ناحية الممارسة، فقد حافظت تلك المقولات التمايزية والاغترابية الجذرية على تماسك التنظيم تحت قيادة واحدة، بل ربما يمكن عبر التتبع التاريخي ملاحظة أن الانحياز الأيديولوجي لتلك المقولات لم يكن ينبع من الميول النظرية للشخصيات فحسب، وإنما من موقعها في التنظيم أيضًا، فكلما كان الشخص أقرب إلى لعب دور تنظيمي وتربوي وتجنيدي في الجماعة، كان أشد حرصًا على تلك المقولات التمايزية والاغترابية، بما لها من قدرة على الحفاظ على تماسك التنظيم ودعم انتماء الأفراد إليه، وإيمانهم بأفكاره، وكلما كان الشخص أقرب إلى لعب أدوار سياسية واجتماعية ودعوية (كأفراد أقسام الطلاب والمهنيين والقسم السياسي)، كان أبعد عن التأويل المتشدد لتلك المقولات، وكان أقرب إلى اعتبارها أفكارًا إسلامية عامة عن تميز الإسلام وضرورة قيام المسلمين بواجب الدعوة إليه، والعمل على تنفيذ أحكامه، وإقامة شعائره[12].

فعليًّا في النهاية كان صعود مصطفى مشهور ومجموعة التنظيم الخاص (المنتمين فعليًّا أو فكريًّا)، ملائمًا لما آمنت به الجماعة وتجلى في بنيتها المؤسسية، وتؤدي بنا تلك النقطة إلى المقوم الثاني للقيادة السياسية الذي توافر عليه الأستاذ مشهور.

2. القدرة الشخصية

قدرة شخص معين على أن يتقمص ويعبر عن تلك الخصائص بحيث يصير رمزًا لذلك المجتمع، يرى فيه كل شخص نفسه، آماله وأمانيه، إما بأسلوب مباشر أو غير مباشر، سواء في المعنى المطلق الواضح أو بمعنى عكسي؛ بمعنى أن يرى فيه ذلك الذي لم يحققه المواطن العادي وكان يتمنى أن يحققه … فالقائد رغم أنه قد يختلف عن الجماعة في قدراته وفي نبوغه فإنه أيضًا مرآة للجماعة[13].

وتعد عملية التقمص تلك عملية متبادلة بين قيادة التنظيم وبين أفراده، فقيادة التنظيم تحدد الأطر والخطوط التربوية التي تربي عليها القاعدة، فتنتج القاعدة بدورها قادة متوافقين مع تلك الرؤية. بالطبع في فترات انفتاح الجماعة خاصة في السبعينيات على فئات ذات خلفية تربوية مختلفة (الجماعة الإسلامية في الجامعة بصورة أساسية)، واجه أبناء التنظيم الخاص وأنصار العمل السري في الجماعة تحديًا قويًّا يتعلق بكيفية استعياب ذلك التيار الجديد الذي مثله قسم الجامعة والعمل الطلابي في تلك الفترة، لكن انتهت تلك الفترة ببداية التسعينيات مع الإقصاء التدريجي لما عُرف بـ «تيار الإصلاح» داخل الجماعة، ثم ما لبثت أن كانت عملية التقمص مثالية بين قيادة التنظيم وقواعده، خاصة مع ما عُرف بـ «ترييف الجماعة»، وهو إشاعة ثقافة ونمط علاقات جديدة تنتمي لما قبل المؤسسية وتستحضر الولايات الأولية، وهو ما يختلف عما كان سائدًا منذ نشأة الإخوان كجماعة حضرية، وأعم ملامح هذا «الترييف» كونه يفتقد الثقافة والتقاليد القانونية الواضحة والمرعية.

لقد شهدت الجماعة في السنوات الأخيرة سيادة ثقافة ريفية تخالف ما نشأت عليه، ثقافة تتوسل بالقيم الأبوية، حيث الطاعة المطلقة والإذعان للمسؤول التنظيمي، وانتشار ثقافة الثواب والعقاب والتخويف حتى في العلاقات التنظيمية، وسيطرة الخوف من المختلف أو المتميز من الميل للركون إلى التماثل والتشابه بين أعضاء الجماعة التي صارت تميل يومًا فيوم إلى التنميط، سنجد انتشار تعبيرات جديدة وغريبة عن الجماعة مثل: عم الحاج، والحاج الكبير، وبركتنا، وبركة الجماعة، وشيخنا وتاج راسنا. وهي تعبيرات يجاورها سلوكيات جديدة أيضًا مثل تقبيل الأيادي والرؤوس (كما جرى في الواقعة الشهيرة التي قبل فيها نائب إخواني في البرلمان يد مرشد الجماعة). لم تكن هذه السلوكيات والتعبيرات سائدة من قبل في تنظيم الإخوان ذي النشأة والغلبة المدنية، وإنما أتته من ثقافة ريفية غزت الجماعة مثلما غزت المدينة المصرية في العقود الأخيرة[14].

مع توسع الجماعة في تصعيد القيادات من ذوي الخلفية الريفية، سواء في المناصب التنظيمية من قيادات الصف الثاني، وسواء من خلال إعادة توزيع الأوزان النسبية للمحافظات في مجلس شورى الإخوان، وبالتالي زيادة تمثيلها في مكتب الإرشاد، احتلت محافظات مثل الشرقية والدقهلية مساحات كبيرة من إجمالي المواقع الفاعلة في الجماعة على حساب محافظات مثل القاهرة والإسكندرية، وبالتالي صارت الثقافة الشخصية واللامؤسسية تغلب على البنى التنظيمية (اللوائحية)، وهو ما أنتج جماعة أسهل طواعية وانقيادًا لقياد هذا من الناحية التنظيمية، ومن الناحية التربوية كانت أدبيات القادة وعلى رأسهم مشهور منتشرة في الجماعة ومتماثلة مع القيم السائدة نظريًّا وتنظيميًّا.

3. تكتيل الجماهير

أن يصير القائد أداة لتكتيل الوعي الجماهيري نحو التخلص من حالة الخوف أو العودة لحالة الثقة[15]. فمبدئيًّا نحن مستعدون لقيادة متشخصنة حول فارس ذي قوى خارقة مستبدة تجمع كل السلطات بين يديها، وتقوم بكل الأعباء تخطيطًا وتقريرًا[16].

خرج الإخوان من السجون في عهد السادات وخرجت مظلوميتهم معهم، من الطبيعي أن يكون لأي حركة سياسية تاريخ نضالي، يتم التعريف به وبثه بين أبنائها، ولكن الغريب في الأمر أن يتم تجاهل عناصر الخبرة والكفاءة في العملية السياسية لصالح من قاسوا من المحنة أكثر، مع إضفاء الطابع البطولي على القيادة، وبالتالي تصبح اللوائح والمؤسسات بلا معنى.

مثَّل مشهور وزملاؤه في التنظيم الخاص تلك البطولة ذات الهالة القدسية، التي تأخذ من أمجاد التنظيم الخاص تحديدًا، ومن قوة الجماعة قبل ثورة 1952 في الشارع المصري رصيدًا تستند عليه، وهو ما يداعب أحلام الجماعة في الرجوع إلى حالة سابقة أفضل، هذه الحالة تستدعي صراعًا وجوديًّا يعيشه الإخوان طوال الوقت، فبفضل تلك المجموعة استمرت الجماعة في الوجود؛ لا ينكر الكثيرون أنها حافظت على وجود الإخوان المسلمين حتى عبروا محنة عبد الناصر، ثم أعادوا تأسيس الجماعة وتنظيمها بعد خروجهم من السجون.

إذا كان التنظيم الحالي يدين لهؤلاء بفضل وجوده، فهذه العملية قد استحدثت إشكاليتين[17]:

الإشكالية الأولى: هي شرعية وجود هذه القيادة؛ فهي ليست منتخبة، ثم إنها قامت بإعادة صياغة القاعدة وفق مفهومها وفكرها، واستبعدت من خالفها، فحتى لو قامت هذه القيادة بعمل انتخابات فلا أتصور أن تنتخب هذه القاعدة التي أعدت على عينها غير هذه القيادة!

الإشكالية الثانية: هي أن هذه التجربة تعطي مبررًا لأي نزعة استبدادية ليس لها شرعية شورية، أن تسعى لتكتسب شرعية وجود عن طريق عملية غير شورية … عمومًا فنظام التربية والخطاب الإعلامي عملية غير شورية.

لطالما نظر الإخوان المسلمون إلى مرشدهم ليس فقط على أنه قائد سياسي، وإنما دائمًا كان له دور تربوي يضفي عليه هالة من القداسة، وهذا يتماشى مع نظرة مؤسسها حسن البنا الذي كان عضوًا في طريقة صوفية، بل تُعرف الجماعة – ضمن تعريفات كثيرة – كطريقة صوفية، يقول الأستاذ عمر التلمساني[18]:

وكما يحدث في كل جماعة أو حزب أو تجمع، فقد كان لبعض الإخوان آراء ومقترحات تتعارض مع فريق آخر، ولكني بحمد الله كنت بعيدًا عن هذه الخلافات كلها، وكنت أرى وأسمع وأفكر بعين فضيلته وآذانه وعقله لثقتي المطلقة في صواب كل ما يرى، وقد يكون في مثل هذا الشيء من الخطأ أو إلغاء الشخصية عند بعض الناس، ولكني كنت معه «كالميت بين يدي مغسله»، وكنت سعيدًا بهذا كل السعادة.

لكن حتى إن سلمنا بأن الأستاذ البنا كان ذا شخصية عبقرية فذة وسيطرة لا تتكرر على قلوب أعضاء الجماعة، فإن تلك الهالة القدسية ورثتها وورَّثتها قيادة التنظيم، وهو ما كان مهمة سهلة نظرًا لتحكمها في المحاضن التربوية ومنظومة بث القيم من ناحية، ومن ناحية أخرى أهم أنها كانت تمثل نموذج القيادة الأمثل لدى قواعد الإخوان المسلمين، وتمثل فرصة لاستعادة ثقتهم في القدرة على العودة إلى ماضٍ مثالي. وبهذا المفهوم تتكامل صورة القيادة داخل التنظيم؛ فالقاعدة تنظر للقائد على أنه أب وشيخ وهم أبناؤه ومريدوه، والقيادة تنظر للقاعدة على أنهم جيش يحتاج لقيادة أو جسد يحتاج إلى رأس، وهي الرأس الوصي على هذا الجسد الذي يسوسه لما فيه المصلحة[19].

تأثير القيادة على سلوك الأفراد

يمكننا القول إن مصطفى مشهور لم يكن نموذجًا للديمقراطية التي تحفظ للمؤسسات واللوائح دورها، حتى إن كان مشهور نفسه تعبيرًا وتمثيلًا لجماهير (قواعد) الجماعة، فكما أنتجت الجماعة مشهور، أنتج مشهور جماعة الإخوان المسلمين ما بعد حسن البنا.

كان مشهور يمثل نموذج القائد (الرئيس) الذي تتمحور سماته حول القوة والصلابة، والتي تتمظهر في الحفاظ على الوضع الراهن في الجماعة، والخوف من الانفتاح على الأفكار والمجتمع، كذلك السيطرة التامة على مؤسسات الجماعة الشورية والتنفيذية واستبعاد المخالفين والمشاكسين، والقدرة على المناورة التي تمثلت في تجربة من يطلق عليهم تيار الوسط في الجماعة (قسم الطلاب والمهنيين ومجموعة حزب الوسط) حتى تمكن من إقصائهم من مفاصل الجماعة، ثم إخراجهم من الجماعة نفسها في نهاية الأمر.

طوال تلك الفترة منذ وفاة المرشد الثاني حسن الهضيبي عام 1986 وبروز مشهور كالشخصية الأهم في الحركة حتى وفاته عام 1996، يمكننا القول إن سلوك الأفراد داخل جماعة الإخوان المسلمين اتسم بخصائص الأفراد في المجتمع الأوتوقراطي[20]. حيث يميل الأفراد إلى العدوانية والاستفزاز تجاه أفراد الفئات الأخرى (ويمكن القول هنا مع التيارات الداخلية المختلفة فكريًّا مع وجهات النظر السائدة داخل الجماعة خاصة وجهة النظر السياسية).

كذلك يكون لدى الأفراد رغبة في التقارب مع القائد مع ملامح الخضوع المبالغ فيه؛ لا سيما مع اختلاط منظور القيادة داخل الجماعة مع المنظور الروحي للقائد الأب المربي، بديلًا عن القائد السياسي، وهو ما يتدرج في مستويات القيادة فتنتعش روح السيطرة على الآخرين وتسم العلاقات الفردية بين المسؤولين وأفراد التنظيم.

إن الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة قد بالغت في ترويض أعضائها على طاعة القيادات أكثر مما دربتهم على محاسبة ونقد وتقويم هذه القيادات … وليس يكفي أن يقال إنها طاعة في غير معصية ذلك أن الخلل في علاقة «الطاعة» بـ «الحرية» على النحو الذي لا ينمي في الأعضاء ملكات النقد والفحص وشجاعة الاعتراض عند توفر دواعيه.

إن هذا النمط في تربية أعضاء هذه الحركات هو بالقطع معصية من معاصي التربية في هذه الحركات؛ لأنها تثمر – ولقد أثمرت – وحدانية الرأي، رأي المرشد والأمير والإمام، بل أثمرت العديد من ألوان التفكك والقصور والتشرذم التي أصابت العديد من هذه الحركات عندما غاب المرشد فغاب عنها الرشد لافتقارها إلى قيادات مدرية وحكيمة وحصيفة في صفوفها التي تقف وراء المرشد والأمير والإمام، الصفوف الثانية والمتوسطة والقاعدية[21].

المراجع
  1. Thomas Carlyl, “On Heroes, hero-worship, and the heroic in history” (Sterling Edition of Carlyle’s complete works)
  2. صلاح شادي: صفحات من التاريخ… حصاد العمر. الزهراء للإعلام العربي، ط1، 1987، ص70.
  3. عبد الله النفيسي: الحركة الإسلامية.. ثغرات في الطريق. الكويت: آفاق للنشر والتوزيع، ط1، ص98.
  4. عبد الله النفيسي، السابق، ص91-98.
  5. محمود الصباغ: حقيقة التنظيم الخاص. دار الاعتصام، 1987.
  6. أبو العلا ماضي: الأستاذ/ مصطفى مشهور (1) شخصيات عرفتها 1977-2017. حزب الوسط، ديسمبر 2018.
  7. حسام تمام: تحولات الإخوان المسلمين.. تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم. القاهرة: مكتبة مدبولي، ط2، 2010، ص33.
  8. حامد ربيع، مقدمة في العلوم السلوكية. القاهرة: دار الفكر العربي (1972)، ص330.
  9. حامد ربيع، السابق.
  10. أبو العلا ماضي، السابق.
  11. أبو العلا ماضي، السابق.
  12. محمود هدهود: لا ثورية ولا إصلاحية: الأيديولوجيا الإخوانية في اختبار الثورة. ضمن: عمرو عبد الرحمن وآخرون: «ثورة يناير رؤية نقدية». القاهرة: دار المرايا للإنتاج الثقافي، ط1، 2019، ص67، 68.
  13. حامد ربيع، السابق، ص331.
  14. حسام تمام، السابق، ص52.
  15. حامد ربيع، السابق، ص331.
  16. هيثم أبو خليل: إخوان إصلاحيون. القاهرة: دار دون، ط3، 2013، ص35.
  17. هيثم أبو خليل، السابق.
  18. عمر التلمساني، ذكريات لا مذكرات، القاهرة: دار الطباعة والنشر الإسلامية، 1985، ص104، 105.
  19. هيثم أبو خليل، السابق، ص38.
  20. حامد ربيع، السابق، ص328.
  21. محمد عمارة: من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة. ضمن: «الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية» تحرير وتقديم: د. عبد الله النفيسي، 1989، ط1، ص323.